وفي البال
... طرابلس
رسالة إلى
الصديق
النائب الياس
عطااللـه
- مسعود
يونس
أود
ان
أُهنئك على
فوزك في
الانتخابات
النيابية عن الدائرة
الثانية في
الشمال
وتحديدا عن
مدينة طرابلس.
أما
بعد، وكمواطن
ينتمي الى
هذه الدائرة
يهمني أن
أسألك عن
مشاريعك بعد أن
أصبحت واحدا
من ممثليها.
لن
أتوسع في
سؤالي عن كل الأقضية
التي تتألف
منها وسأحصر
حديثي عن
مدينة طرابلس
التي انتدبت
عنها. ان
مدينة طرابلس
يا سيدي
النائب هي
مدينة منكوبة
بالمعنى
الحرفي
للكلمة وحالة
الخراب التي تعمها
تستدعي اعلان
حالة الطوارئ
وفقا
للمعايير
الدولية كأية
معمورة يصيبها
فيضان أو يقع
فيها زلزال.
وهي نُكبت على
مراحل ثلاث
انعقدت
آثارها كي
تفضي الى
حالتها
الراهنة.
طرابلس
نُكبت أولا
منذ انشاء
لبنان الكبير
بالنظام
السياسي
الاقتصادي الذي
ساد واستمر
حتى غداة
الحرب والذي
قضى بتمحور
الأنشطة
الاقتصادية
والسياسية
والثقافية
حول بيروت
ومحيطها
وتهميش كل ما
عداها من
جغرافيا الوطن
فسُلب دور
مناطق الهامش
ومنها مدينة
طرابلس.
قبل
ذلك كانت
طرابلس مدينة
غنية
بأعمالها الحرفية
وبتجارتها
البعيدة، من
أزمير الى
الأسكندرية
ومن حلب الى
بغداد. تراجع
اقتصاد
المدينة خلال
تلك السنوات
بشكل
دراماتيكي
فتحولت من
مدينة عالمية الى مدينة
ريفية،
دورتها
الاقتصادية
لا تتسع الا
لمحيطها
المباشر كما
انتهت مع تطور
الصناعة وتعميم
منتجاتها
أعمالها
الحرفية
وأُهملت مرافقها
ومنشآتها
كأنها مدينة
حُكم عليها بالموت
البطيء.
نُكبت
طرابلس ثانيا
بالحرب التي
عانت من
ويلاتها كما
لم تُعانِ أي
بقعة أخرى من
أرض الوطن.
اختلطت فيها
ثلاثة أنواع
من الحروب،
اجتمعت
وأمعنت فيها
تدميرا، بشرا
وحجرا: حروب
الداخل وحروب اسرائيل
وحروب تصفية
الحسابات
العربية.
حوصرت طرابلس
بدوائر
متعددة ومتداخلة
من الجبهات،
في العقل وفي
الجغرافية.
أقفلت المصانع
التحويلية
التي كانت
بدأت تنشأ في
ضواحيها ولحق
التآكل
والانهيار
بما بقي
قائما من
مرافقها ومنشآتها
وبناها
التحتية.
ونكبت
طرابلس مرة
ثالثة
بالسياسات
التي اعتمدت
بعد الحرب
والتي استمرت
طوال الفترة
الممتدة الى
تاريخ 14 آذار
حيث تلاقينا.
قضى
مشروع الاعمار
لفترة ما بعد
الحرب أن تصبح
بيروت من جديد
مدينة المال والثراء
كما هي دبي
ومدن آسيا
البعيدة. على
هذا الأمل
المتخيل اعيد
اعمار
بيروت، على
الأقل وسطها
والمداخل
المؤدية وأغفل
تقريبا كل ما
عداها من بقاع
الوطن. وكانت
الكلفة ضرائب
ورسوماً
خيالية على
كاهل الطبقات
الشعبية وتراكم
عشرات
المليارات من
الديون على
الخزينة
العامة.
غيبت
طرابلس كليا
عن خطة الاعمار
والنهوض أكان
بالنسبة
لبناها
التحتية أم لمرافقها
الاقتصادية،
لكن لم يغب عن
أهلها تحمل
سيل الضرائب
وكلفة
الخدمات
العامة من
محروقات
وكهرباء
وهاتف وماء
التي أضحت
الأغلى في العالم.
أصبحت
بيروت تفخر
بأرصفة وسطها
الرخامية. لكن
طرابلس ظلت
تعاني من شرب
المياه
الملوثة وانقطاع
الكهرباء في
شوارعها
بينما مصانع
الطاقة تقع
فيها.
لم
تصبح بيروت
مدينة غنية
كما في
المخيلة، لكن
طرابلس أصبحت
من جراء
سياسات ما بعد
الحرب مدينة
البؤس
والشقاء والعطالة
عن العمل.
يكفي أن تختلط
مع الطرابلسيين
لدقائق كي
تدرك ماذا
تعني فرصة
العمل لسكان هذه
المدينة التي
خذلها الذين
سبقوك على
تمثيلها في
الندوة
النيابية
طوال تلك
المرحلة.
لم
تتغير طبيعة
النظام الزبائني
اللبناني بعد
الحرب عما
كانت عليه
قبلها وأثناءها.
انما
وبسبب انسداد
الأنفاق
العام في
طرابلس ضاقت
فسحة استتباع
الأزلام والمحاسيب
لدى الطبقة
السياسية
التقليدية
العريقة في الزعامة
المبنية على
توزيع
الخدمات
العامة. في
المقابل حضر
لتمثيل
المدينة رموز
تتحكم بثروات
أكبر من
طرابلس وأكبر
من لبنان،
ثروات جمعت
وتوطنت في
الخارج ورساميل
عابرة
للقارات.
هؤلاء
الرموز الذين
أطبقوا على
تمثيل المدينة
لم يتعاطوا
يوما على انهم
جزء من نسيجها
الاجتماعي،
فظلوا في موقع
من هم خارجها
ولو سكنوا
فيها،
وتعاملوا مع
شعبها تماما
كما تتعاطى
الجمعيات
الخيرية مع
مدن الصفائح
في أميركا
اللاتينية:
يدفعون وصفة
طبيب من هنا
وقسط مدرسة من
هناك وفاتورة
كهرباء أو ماء
من هنالك،
ويوزعون في
الأعياد
الحصص
الغذائية.
ومع
احترامي لك
ولهؤلاء
الرموز وهم
تمثلوا أفضل
تمثيل في
اللائحة التي
كنت عليها،
ليست طرابلس
من مدن
الصفائح، ولا
تستحق أن تخضع
لهذا الاسلوب
من التعاطي والمعاملة
(...).
كنت
أسمعك ابان
حملتك
الانتخابية
تشير الى
تجربتك في
القتال ضد اسرائيل
عبر مشاركتك
في المقاومة
الوطنية.
وعندي ان
لك كل الحق
بالاعتزاز
بمساهمتك في
كتابة هذه الصفحة
المضيئة من
تاريخ بلدنا.
وحقيقة القول اننا جيل
ابتلي
باحتلال بلده
من العدو
الصهيوني
وكان من حقنا
ومن واجبنا أن
نقاتل لتحرير
بلدنا. وكتب
لنا أن نبقى
أنا وأنت
أحياء بينما استشهد
رفاق لنا
وأخضع آخرون
لمهانة الأسر
والتعذيب،
وهؤلاء يبقون
أحياء في
ضميرنا وذاكرتنا.
غير اننا اذا أحسنا
قراءة تاريخ
بلدنا علينا
أيضا أن نتذكر
انه في زمن
سلف وقبل أن
تولد أنت أو
أولد أنا،
جنّد شباب
طرابلس أنفسهم
وانطلقوا الى
أرض فلسطين
وكانت دولة اسرائيل
لم تعلن بعد،
ليقاتلوا في
صفوف اخوانهم
الفلسطينيين
ضد العدو
المغتصب.
هؤلاء هم آباء
وأجداد فقراء
طرابلس،
أبناء باب
التبانة وسكان
الأسواق
الداخلية.
هذه
المدينة
الغنية بتجارب
النضال،
المفعمة
بالذاكرة
والقابعة في
البؤس
والشقاء قد
توليت اليوم
مع زملاء لك تمثيلها،
ما دعاني أن
أسألك عن
برامجك النيابية
تجاهها.
دعني
أفترض
أولا أنك لن
تسلك طريق
زملائك. فأنت
لو أردت لما
تمكنت، لا دفع
وصفة الدواء
ولا توزيع
الحصص
الغذائية.
فبحسب علمي
وعلم الجميع
انك لست من
أصحاب الرساميل
المتعددة
الجنسية ولا
لأية رساميل.
دعني
أفترض ثانيا
انه لن يرضيك
ذلك الدور التعيس
للنائب الذي
يصيح في مجلس
النواب وعلى
شاشات
التلفزيون،
مطلقا
الخطابات
الرنانة وبالكلام
الفصيح، ثم
يعود الى
منزله قائلا
في نفسه "ربي
أشهد انني
تممت واجبي".
لقد أفل زمن
هذا الدور
وأصحابه
تحولوا مهزلة.
واذا كان
هذا النوع من
الخطاب الذي
يشي بالعجز
والقحط له
حجته في زمن
الوصاية
ومصادرة
القرار فهو لم
يعد مقبولا في
أي حال بعد أن
انكفأت الوصاية.
دعني
الاحظ
ثالثا ان
ظرف الوصاية
الذي أطبق على
طرابلس
والمنظومة
الأمنية التي
طالما تكلمتَ
عنها والتي
كبّلت
المدينة
بشبكاتها هي
التي وفرت
الضوابط التي
سمحت بأن
تعامل هذه
المدينة مثل
مدن الصفيح من
قبل ممثليها.
لقد استكانت
المدينة تحت وطأة
القهر وليس اذعانا للتقديمات
الاجتماعية،
فيخطئ من
يعتقد ان
طرابلس تُشرى
بالحصص
الغذائية. لقد
استكانت
المدينة لكن
جذوة الروح لم
تمت فيها.
فالآن وبعد أن
زالت أدوات
الوصاية ما من
أحد يستطيع
سلبها حقوقها
وشخصيتها، أو
ثنيها عن المطالبة
بفرص العمل
والمدرسة
والماء النظيف
والكهرباء التي
لا تنقطع، دون
منّة من أحد.
انه
تاريخ جديد
سوف يكتبه
فقراء هذه
المدينة، أبناء
الشارع كما
يُقال وهم
الأكثر وفاء
وتيقظا وخبرة.
فما هي مسالك
هذا التاريخ ومنعطفاته
وكيف يمكن أن
تقرأ
المستقبل؟
يكتب
الطرابلسيون
مستقبلهم على ايقاع
تاريخ آخر وفي
خضمّه هو حقبة
العولمة حيث
يسود سلطان
السوق ويتحكم
منطق رأس المال
المتوحش دون
ضابط أو رادع
على المساحة الكونية.
يركز رأس
المال في هذا
الاقتصاد استثماراته
في بقع محظية،
غالبا ما تكون
محصنة
بالجدران
العالية والكلاب
البوليسية،
ويهمّش مناطق
أخرى تاركا أهلها
نهبا للجوع
والمرض، وهي
مناطق يمكن أن
تتسع كي تشمل
قارة بأكملها مثل
أفريقيا
السوداء خلال
الخمس عشرة
سنة الأخيرة.
في
غابة العولمة
هذه المحكومة بالنيوليبرالية
والتي تهمش
بلدانا
وأقاليم
وقارات،
غالبا ما
ينطوي المشهد
في المساحات المهمشة
على واحدة من
صورتين: شعوب
تلوي تحت قبضة
حكم
الاستبداد
وأخرى يتفلت
العنف فيها،
عنف أعمى لا
يحده اتجاه
ولا يضبطه
برنامج ولا
يقرأ في
مستقبل. عنف
يتغذى من العنف.
انك بين
خيارين: أنظمة
الاستبداد أو
الحروب
الأهلية التي
لا قرار لها
والمرشحة على
خطى العولمة
أن تتسع كي
تصبح كونية.
هل ننسى المفردات
التي تطلق
على المرحلة:
الحرب
العالمية
الثالثة، حرب الارهاب،
والحرب على الارهاب؟
وطرابلس
تواجه مثل كل
الأمكنة المهمشة
في وطننا
والتي يعيش
أهلوها الفقر
والحرمان بعد
أن رحل نظام
الوصاية
خيارين: إما
سلوك الطرق
السلمية
للمطالبة
بحقوقها
والحصول عليها
، وإما تفشي
العنف بما
يحمله من
تداعيات لا
أحد يمكنه أن
يتنبأ عن مدى
انتشارها.
والنظام الذي
يحكمه منطق
السوق، كما
تعلم،
ويحكمنا،
ينقصه التبصر
والحكمة لادراك
مفهوم الأمن
الاجتماعي
والطرق
الكفيلة لاستتباب
هذا الأمن.
فهو، في ادارته
للشأن العام،
غير صالح
"جينيا"
لقراءة عقلانية
للمسألة
الاجتماعية.
التاريخ
الجديد الذي
سوف يكتبه
فقراء طرابلس.
هل تشاركهم
صفحاته من أجل
طي الحرمان واحقاق
الحقوق
بالطرق
والوسائل
السلمية؟ هل
تشاركهم في
صنع التاريخ
الذي يحب
الحياة ويكره
الموت بدلا من
اليأس وحب
الموت الذي
يبقى في كل
المجتمعات
احتمالا
مفتوحا؟ هل
تعيش حياتهم
وتتلمس معهم
طريقهم
وحركتهم؟ هل
تنتقل في سكنك
من بيروت الى
باب التبانة؟ اني صادقا
لا أرى
برنامجا سواه.
فلا شيء
يستحق الذكر
في ساحة
النجمة.
في
باب التبانة
سوف تشارك
أبناء الحي
والأصدقاء في
طرح أسئلة لا
حصر لها. منها
على سبيل
المثال: لماذا
لا تعمل مصفاة
طرابلس فتوفر
العمل للعديد
من أبناء
المدينة،
وتؤمن
المنتجات
النفطية بأسعار
متهاودة
لكل
اللبنانيين؟
ما هي المافيا
التي
تحول دون ذلك
ومن يغطيها؟ لماذا
معرض رشيد
كرامي لا
وظيفة له ومن
المستفيد في
أن يظل هذا
الصرح
المعماري دون
وظيفة؟ سوف تعدو
مع الجيران
والأصدقاء الى معمل البداوي
كي تسأل عن
قضية
الكهرباء
وانقطاع
التيار وسعرها
الخيالي،
وسوف تعرج على
المستشفى
الحكومي
لتسأل لماذا
هذا المستشفى
لا يعمل، ولمصلحة
من؟ هل هي
مافيا
المستشفيات
الخاصة أم
أصحاب المصلحة
في شراء أصوات
الناخبين
بحبة الدواء
أم الاثنين
معا؟ لماذا
المدارس
مكتظة على هذا
النحو ومن هو المسؤول؟
وما
دمنا في شؤون
التربية
والتعليم
فيمكنك معاينة
فرع الجامعة
اللبنانية في
هذه المدينة
على الأرض
بمبانيها
الموحشة
ومشاكل ادارتها
ومعاناة
أساتذتها
وطلابها. سوف
تسأل عن مشكلة
مياه الشرب
وسبل معالجتها.
عن زحمة السير
الخانقة، عن البنى
التحتية في
المدينة التي
لم يُعد
تأهيلها منذ
عهد
العثمانيين،
عن الثروة
الأثرية التي
لم يجرِ أي
مسعى لرفع
الأوساخ من
حولها وصيانتها
وهي ثروة
يلفها
النسيان
واللامبالاة
على أهميتها
في التراث
المعماري للانسانية.
سوف
يصادفك سيل من
الأسئلة من
هذا القبيل
ويفاجئك ذلك
الاستنتاج ان ما يخدم
باب التبانة
يخدم كل
اللبنانيين. مشكلة
النفط، مشكلة
الكهرباء،
مشكلة
المستشفى، مشكلة
المدرسة،
مشكلة
الآثار، كلها
يعود حلها
بالنفع على
اللبنانيين
في كل المناطق
ومن كل
الطوائف.
سوف
تمسك بخيط
الفساد في باب
التبانة.
والحديث عن
الفساد موضة
هذا الزمان.
تمسك بخيط
الفساد الذي
ليس حديث
موضة، انما
تظهر بصماته
على الوجوه
والأجساد
المصابة بسوء
التغذية. وسوف
تكتشف سر
الكيمياء
التي تحوّل
الفساد المستشري
في أعلى الهرم
الاجتماعي
قنابل موقوتة
في قاعه.
تكتشف هذه
الكيمياء في
عيون الفتيان
الضاحكة تحت
الشمس والتي
يلمع فيها
بريق غضب
مشتعل.
تكتشفها في
طريقة المشي
وحركة الأيدي
ونبض الأجسام.
انه
القرن الحادي
والعشرون يا
صديقي النائب
ونحن في بلد
صغير يتعايش
فيه البؤس
المضني والبذخ
الفاحش
ببراءة وتحت
سقف واحد.
تصدمك هذه البراءة
كمسّ تيار
كهربائي. انها
الجريمة بدم
بارد، دون
مشاعر أو احساس.
بلا شعور
بالذنب، بلا
حتى انتباه، يتساكن
الفقر المدقع
مع الرخاء
والترف
المخزي. في هذا
الموقع يصبح
حديث الطوائف
وعصبياتها كلاماً
فارغاً فاقد
المعنى،
وكذلك مُثُل
المواطنة ذات
الضمير
المرتاح. أما ثرثرات المقاهي
التي تضج
بالانتقاد
فتغدو بعيدة،
خارج المكان
والزمان.
هنا
نرجع عوداً
على بدء، الى
انسانية الانسان
الذي يتصل
بأخيه خارج
حدود
الاختلاف في
ربيع مغمس
بالدم، لكنه
ربيع يُنبت
الحياة.
وعندما تتحرر انسانية الانسان
من كل القشور،
تجد نفسك أمام
كيمياء أخرى قوامها
الأمل اللامتناهي
المختلط بيأس
لا حد له.
الفساد تبدأ
معالجته من
باب التبانة.
فهل يعجبك هذا
البرنامج؟
مسعود يونس
النهار
14 تموز 2005 ونستميح الصديق
مسعود يونس
الإذن بتغيير
العنوان