على ما يبدو فإن ما اصطلح على تسميته في الأيام الأخيرة "أحداث عكا"، لم تنته بعد، والدليل على ذلك هو تجدُّد الاعتداءات على العرب، تطويق بعض المنازل العربية ومحاصرتها، استمرار حالة التوتر، تجدُّد الاشتباكات، التواجد المكثف للشرطة، الزيارات المتواصلة للسياسيين والتصريحات والتعقيبات التحريضية والمتطرفة الصادرة عن كثير منهم، بالإضافة لوجود معتقلين وتصريحات الشرطة بأنها سوف تعتقل وتحقق مع شخصيات دينية.
وإذا لم يكن كل هذا كافيًا فقد بدأت حملة تحريضية في مواقع الكترونية تنادي بـ "مداهمة العرب والنيل منهم بالقوة وطردهم من المدينة"، فقد وصف احد المواقع العرب "بأنهم كلاب ويجب التعامل معهم هكذا وانه من اليوم يجب عدم احترام الأعياد الإسلامية والمسيحية والأماكن المقدسة لهم". ويجب الإشارة إلى ما يقوله عرب عكا من أن وجود مدرستي هسدير جديدتين (مدارس دينية يهودية) في المدينة تسكنهما مجموعات من المتدينين القوميين من المفدال ويمينه مما يحرك التوتر باتجاه التفجير.
من هذا المنطلق، لا يمكن استخلاص كافة العبر والدروس والمعاني لما يحدث الآن وتبقى قراءتنا للأحداث مرتبطة ومتعلقة بخلفياتها، تطوراتها وتبعاتها الأولية.
في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" كتب العالم النفساني والاجتماعي الفرنسي فرانتس فانون (1925-1961) الذي تشكل كتاباته دفاعًا صارخًا ضد الاستعمار: "لا داعي لمحاربة العنصرية، إذا لم نوضح بداية أبعاد الاضطهاد الذي تمارسه الثقافة المسيطرة والذي يمس بالمجتمعات، بالسياسة، بالثقافة وأيضا بالتشكل النفسي".
بناء على ما قاله فانون نستطيع أن نبيِّن بأن المجتمع اليهودي لم يذوِّت بعد، بأن سياسة القوة وثقافة الهيمنة وكبح الحريات لن تجدي، وبأن هنالك مجموعة قومية عربية فلسطينية لها ثقافتها ولغتها ومعتقداتها وهويتها ونمط حياتها ولا يمكن للأغلبية أن تفرض سيطرتها وإرادتها بشكل مستمر وأن تطمس هوية المجتمع الأصلاني، ولذلك فمن الواضح أن عكا هي ليست مكان اقصاء وقهر وتمييز فقط بل هي ايضا مكان منافسة على الحيز بين اليهود والعرب وذلك يظهر أحيانا من خلال النضال لوضع لافتة تحمل اسم المدينة باللغة العربية أو من خلال اسماع صوت الأذان او من خلال التمسك بالمسكن وما إلى ذلك من أمثلة عديدة.
يمكن أن نلاحظ من خلال أحداث عكا بعدًا آخر للاضطهاد وهو السيرورة التي تنتهجها الأغلبية المسيطرة في توظيف كل عوامل القوة السياسية، الإعلامية، النفوذ والموارد من أجل تكذيب رواية الضحية ودحضها، وفي المقابل تعمل على إعادة إنتاج الرواية وصوغها بشكل مزيف ومرمَّم لتخدم مصالحها وتعزّز مكانتها وتكسبها شرعية، لاتهام الأقلية المسيطر عليها، ومعاقبتها بل وممارسة العنف ضدها. وسوف تتجلى جوانب أخرى للعقاب وتتضح بصورة أكبر في الأيام القادمة عندما تبدأ عملية المقاطعة الفعلية للمحلات التجارية وعند تنفيذ المزيد من الاعتقالات والتحقيقات والمحاكمات وتشديد الرقابة والتحريض على القيادات وتكرار المقولات بأن العرب بدائيون، عدوانيون ويسببون أضرارًا للممتلكات العامة.
تمثل حالة السكان العرب في عكا حالة ومكانة كافة السكان العرب الذين يعيشون في مدن الساحل والذين يشكلون نسبة 10 % من مجمل المجتمع العربي في البلاد، فهم يعيشون ظروفًا اقتصادية، اجتماعية،سياسية وثقافية سيئة، يعانون من الفقر والبطالة، حيث لا توجد لديهم أراضٍ أو مساكن كافية وملائمة، ويواجهون سياسة الاضطهاد والقهر على خلفية قومية ومحاولات التهجير والترحيل بشكل دائم نتيجة للاحتكاك اليومي مع المجتمع اليهودي، وقد شهدنا في السنوات الأخيرة العديد من حالات التصادم في يافا، حيفا الرملة واللد. لذلك، يترتب على قيادة المجتمع العربي أن تضع قضية عرب مدن الساحل على رأس سلم أولوياتها وجعل هذه المدن مراكز ثقافية، اقتصادية وسياحية عربية. ويجب ان تشكل هذه الأحداث "صرخة إنذار" ليس فقط تجاه الحكومة التي يجب أن تقوم بمسؤولياتها وألا تنحاز للأغلبية، مما سيؤدي إلى حرب أهلية إن كان آجلا أم عاجلا، بل هي صرخة إنذار تجاه المجتمع العربي كله، المطالَب باستثمار هذه الأحداث من أجل بناء ارادة محلية وقطرية موحدة، قوية، قادرة على أن تتعاطى مع التحديات الراهنة والمستقبلية.
تجدر الإشارة مجددًا إلى أن العنصرية والكراهية تجاه المجتمع العربي آخذة بالازدياد، ولم تعُدْ مقصورة على قوانين وقرارات وتصريحات ومواقف للرأي العام كما بيَّنا في مقالات سابقة، بل أصبحت تأخذ أشكالا وتجليات جديدة، فعلى سبيل المثال سمحت المحكمة العليا مؤخرًا لرعاع من اليمين المتطرف بالدخول إلى مدينة أم الفحم والتظاهر فيها. وعلى صعيد آخر، قام عضو الكنيست أرييه الداد بإنشاء ائتلاف دولي لبرلمانيين من إسرائيل وأوروبا لمحاربة الإسلام. كما أن العديد من الشخصيات البارزة مثل السفير السابق لأسرائيل في واشنطن، داني أيالون، انضمت لحزب "يسرائيل بيتينو" برئاسة أفيغدور ليبرمان الذي يقود خطة لتهجير العرب من البلاد تحظى بتأييد واسع من قبل أغلبية التيار المركزي في اسرائيل. وفي نهاية المطاف تأتي هذه الممارسات العنيفة ضد عرب عكا كنتيجة طبيعية وتحصيل حاصل لهذا الجو المشحون.
وثمة بعدٌ آخر يجب عدم إغفاله وحقيقة يجب عدم إهمالها كونه يعيش في عكا موزايك بشري مليء بالتناقضات مثل اليهود الشرقيين والذين هم أنفسهم يعيشون حالة فقر وتهميش كالعرب ومثل المهاجرين الروس الذين يحملون في الغالب أفكارًا عنصرية وهنا يصير الاحتكاك عرضة للتفجير.
لقد أثارت أحداث عكا، وبشكل فوري، الذاكرة الفلسطينية الرطبة والحيَّة لما حدث قبل ثماني سنوات في مدينة الناصرة، في يوم الغفران، عندما قام سكان مدينة "نتسيرت عيليت" اليهود بالاعتداء على سكان الناصرة العرب، مما أدى الى سقوط شهيدين من الناصرة. ولذلك، لم يكن مستغربًا أو مستهجنًا، أن يهبّ سكان عكا العرب لحماية أنفسهم بعد أن انتشر خبر مقتل أحد السكان العرب. فالرمزية بالتوقيت، وخصوصًا على أثر إغلاق ملفات شهداء انتفاضة القدس والأقصى 2000 من قبل المستشار القانوني للحكومة، وعدم تقديم أي من المسؤولين للمحاكمة، بالإضافة إلى تنصل الحكومة الإسرائيلية من تنفيذ توصيات لجنة اور المتعلقة بحقوق المجتمع الفلسطيني-هذا الوضع خلق حالة من الاحتقان والغضب القابل للانفجار في أيّ مكان وأوان.