"السعي الأعمي نحو الأرباح" هي الجملة
التي نطقت بها مستشارة "الجمهورية
الألمانية الفيدرالية" "أنجيلا ميركل"
عندما
أرادت أن تُلخص السبب الرئيسي الذي أدي
إلي الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالنظام
الرأسمالي العالمي في الفترة الأخيرة.
"أنجيلا ميركل" بالطبع ليست اشتراكية،
بل
هي تجلس علي قمة إحدي الدول الرأسمالية
الكبري،
وتعليقها هذا يدل علي استفحال المخاطر
الناجمة عن السيطرة التي فرضها رأس المال
المالي علي الاقتصاد العالمي، والسياسات
المضاربة التي يلجأ إليها. ذلك أنه إزاء
تراكم رءوس الأموال الباحثة عن فرص
للاستثمار خارج نطاق الإنتاج لم يعد يجد
كبار
الرأسماليين أمامهم سوقاً تستطيع أن تجاري
كل الإمكانيات التكنولوجية الحديثة،
فلجأوا إلي المضاربة في الأسواق،
والبورصات العالمية، وإلي القروض التي
يمنحونها
لمختلف البلدان في أفريقيا وآسيا وأمريكا
اللاتينية، ومنذ ربع قرن رفعت جميع القيود
التي تعوق حركتها المطلقة الحرية في
الولايات المتحدة مما أدي إلي تدفق هذه
الأموال
إلي بورصاتها من الداخل والخارج.
هكذا منذ عقد تقريباً حدثت الأزمة السابقة
التي أطلق عليها "انفجار بالونة
الاتصالات"، وهي أزمة نتجت أساساً عن
المضاربة في
البورصات علي أسهم شركات الاتصالات بحيث
صعدت أسعارها إلي مستويات أعلي بمراحل عن
قيمتها الحقيقية مما ترتب عليها انهيار
مفاجيء، ذلك الانهيار الذي أُطلق عليه
حينذاك وصف "حركة التصحيح". أما الأزمة
الحالية فهي ناتجة عن التوسع المجنون في
القروض، والرهونات العقارية المرتبطة
ببناء المنازل، وشراء الأراضي العقارية،
وهي
قروض لجأ إليها الملايين من الأفراد
والأسر في الولايات المتحدة أساساً بغية
بناء
أو شراء منازل يسكنون فيها.
إنها قروض أتاحتها لها البنوك، والصناديق
المالية،
وشركات التأمين التي تُستثمر فيها مئات
المليارات من الدولارات، ورءوس أموال
طائلة
أمريكية وأجنبية تجني الرأسمالية المالية
من ورائها مكاسب خرافية، لأنها تشمل
الملايين من المستفيدين، ولأن الفوائد
التي تُدفع مقابل الحصول عليها مرتفعة
للغاية. هذا التوسع المغامر في القروض
اصطدم في الفترة الأخيرة بعجز هؤلاء
الملايين
عن تسديد أقساط القروض التي حصلوا عليها،
مما أدي إلي الانهيار "الدرامي" لأعداد من
البنوك والمؤسسات المالية الكبري
.
الخطورة في هذه التطورات هو أننا نعيش في
اقتصاد "معولم"، أي اقتصاد تتداخل فيه
رءوس الأموال بحيث تؤثر مثل هذه
الانهيارات
علي أجزائه وقطاعاته المختلفة، محدثة
دائرة جهنمية يصعب الخروج منها. إنها
دائرة
تكشف فساد وعجز الرأسمالية عن حل أي مشكلة
من مشاكل العالم والناس، بل جاءت علي
العكس لتُثبت مرة أخري أنه نظام يسبب
التعاسة والبؤس لأغلبية سكان الأرض. نظام
اقترن بالحروب، والمنازعات الدامية،
والعنف، والإرهاب. نظام مرتبط بالفقر
المتزايد،
والبطالة، والمرض، والجهل، بتدهور الثقافة
ومستوي حياة الناس، والتهميش لآلاف
الملايين من الرجال والنساء والأطفال،
بمهاجرين يغرقون في البحر في سعيهم إلي
الإفلات، بالدعارة، والإجرام، وانتشار
تجارة المخدرات علي أوسع نطاق، بأسلحة
الدمار
الشامل التي تُهدد بالقضاء علي مدن وبلاد.
هذا رغم التقدم العلمي الباهر في عديد من
النواحي المتعلقة بحياة الإنسان والذي كان
يمكن أن يغير فيها علي نحو لم يسبق له
مثيل وأن يحقق تقدماً في جميع المجالات.
.
كشفت الأزمة الاقتصادية الحالية فساد
النظام الرأسمالي بشكل واضح وعلي أوسع
نطاق. لذلك في ظل هذا الانهيار أصبح من
الصعب
الدفاع عنه، ومن هذه الناحية فقد فتحت
فرصاً جديدة أمام تدعيم الحركات
الديمقراطية
المطالبة بالإصلاح الاجتماعي والسياسي،
وأمام بث الحياة في الحركات الاجتماعية
المناهضة للرأسمالية، الباحثة عن العدالة
والحرية. كما فتحت فرصاً لتدعيم الاتجاهات
الديمقراطية والاشتراكية وسعيها بالتدريج
نحو تحقيق مجتمع تزول فيه التفرقة، ومختلف
صور القهر الطبقي، والقومي، والديني،
والجنسي.
من سيدفع الثمن
مع ذلك فإن
الأزمة الحادثة الآن كارثة للشعوب
والفقراء أكثر منها كارثة للرأسمالية ورأس
المال.
لاشك أنها ستضر بأعداد كبيرة من أصحاب رأس
المال، وشركاتهم ومؤسساتهم المالية. ستضر
لاشك بأعداد من أكبر الكبار وبأغلبية من
المتوسطين، ومن المراتب العليا التي لا
تندرج في نطاق الكبار، لكن المتضررين
أساساً هم الفقراء دافعو الضرائب الذين
ستذهب
أموالهم لإنقاذ أصحاب البنوك، وصناديق
التأمين، والاستثمار، هم أصحاب الودائع
والحسابات الصغيرة والمتوسطة التي
ستُستخدم أموالهم لسد العجز المالي الذي
تُعاني
منه المؤسسات المنهارة، ولإعادة السيولة
الضرورية لكي تدور عجلة الشراء، والبيع،
والاستهلاك. الجماهير هي التي ستُعاني من
التضخم المتزايد، وارتفاع الأسعار وعلي
الأخص في بلاد الجنوب الأقل حظاً والأكثر
فقراً في عالم اليوم. الجماهير هي التي
ستُواجه البطالة الناتجة عن إفلاس
المؤسسات الاقتصادية واغلاقها، وانخفاضاً
مستمراً
في مستوي معيشتها. أما كبار الرأسماليين
الذين سيفلتون من الأزمة فمؤسساتهم ستخرج
منها أكبر حجماً مما كانت بعد أن استوعبت
وامتصت الشركات الأصغر منها.
إزاء
هذه الأزمة إذن تُصبح دواعي الحزن أكبر
بما لا يقاس عن دواعي الشماتة في النظام
الرأسمالي حتي فيما يتعلق بأصحاب الفكر
الاشتراكي المناهضين لعولمة رأس المال.
ذلك
أن الأزمة الحالية ستنقض بأضرارها أساساً
علي مئات الملايين من الناس في كل أنحاء
العالم. أين المخرج؟
سيظل المخرج من هذه الأزمة، ومن غيرها كما
كان دائماً هو
نضال المواطنين والمواطنات في بلاد
العالم للحد من غلواء الرأسمالية، لتشديد
الرقابة الديمقراطية والقانونية علي سفه
الرأسمالية، وفسادها، وجشعها الذي ليست له
حدود. هو تضافر القوي الديمقراطية
المناهضة لاتجاهات رأس المال المالي،
وسيطرتها
الكاملة علي اقتصاد العالم. هو رفض سياسات
البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي
ومنظمة التجارة العالمية. هو حماية
الأسواق المحلية قدر الإمكان عن طريق
الضرائب
والجمارك، والتوقف عن الاستيراد بدون
قيود، وعن الاستمرار في سياسات التخصيص
التي
تُبدد ثروة البلاد وما تملكه من إمكانيات.
ستسعي الرأسمالية المالية نحو
حماية نفسها، وتعويض الخسائر التي مُنيت
بها. لذلك كثر الحديث عن تدخل الدولة ووضع
الضوابط علي البورصات والعمليات المالية،
كما كثر الحديث عن العودة إلي القطاع
العام. صرح بعض وزراء الاتحاد الأوروبي أن
الولايات المتحدة ستفقد مركزها المتميز
في الاقتصاد العالمي، وأشاروا إلي ضرورة
تعاون الأقطاب فيما بينهم. لكن هدف
الرأسمالية، وهدف هذه التصريحات سيظل كما
كان الدفاع عن مصالح الرأسمالية الكبري.
ستسعي الدوائر الحاكمة في الولايات
المتحدة، وأوروبا، واليابان، وربما الصين
إلي
تحقيق مزيد من الاحكام علي النظام
الاقتصادي العالمي بغية الاستمرار في
تحقيق أرباح
المؤسسات الرأسمالية، وضمان انتظامها، بل
وزيادة هذه الأرباح علي نحو مطرد.
الرأسمالية لا تهمها مصالح شعوبها فليس
لها وطن، وليس لها شعب. وطنها هو السوق،
ومزيد من الأرباح. إنها علي استعداد
لتهميش آلاف الملايين من البشر سعياً إلي
استقرار نظامها واستمراره. وفي هذا السبيل
ستتكاتف الأنظمة لسن التشريعات وتنفيذ
الإجراءات التي يمكن أن تتفادي بها أي
هزات قادمة. لن تُؤدي سياساتها إلي تغيير
في
وضع الشعوب إن لم تنتزع الجماهير مزيداً
من الحقوق عن طريق جهودها الديمقراطية
منسقة الأهداف والوسائل.
يجب ألا نتفاءل بالكلام عن تدخل الدولة أو
حتي عن
القطاع العام. سيظل هذا التدخل لحساب رأس
المال إذا لم تُدعم الجماهير حركاتها
المنظمة، إذا لم تُمارس ضغوطها لتغيير
ميزان القوي بينها وبين الخصوم المدججين
بالمال، وبالسلطة، وبالسلاح، وبوسائل
الإعلام التي تُشكل تفكيرنا في مختلف
الأمور
المتعلقة بحياتنا.
shns@tedata.net.eg
البديل المصرية
|