"لم أع لحظة أتيتُ فيها الحياة..! ألا أى
قدرة فتحت عيني على هذه الأرجاء المجهولة،
كما تتفتح زهرةُ الغاب فى قلب الليل!..
عند موتى أيضا، سيلقانى نفس المجهول
كصاحب قديم، وسأحب الموت لأني أحب الحياة!"
طاغور
بداية، ولمن لم يقرأ كتاباتى السابقة فى مجال الفكر الأنسني، أقول بأن "الأنسنية" هى أن يحقق الإنسان أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للانسنية، والتى نُوجزها فيما يلي(1):
[1] معيار التقويم هو الإنسان.
[2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
[4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه.
[5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
والإنسان ـ طبقا للمعيار الأنسني ـ يُعد أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. فتطور التاريخ الإنساني ـ في رأيي ـ لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطرها وأهميتها. وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها...
فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية..!!
كانت تلك مقدمة لابد منها، أوجزت فيها ـ قدر المستطاع ـ أهم ما خلصت إليه فى كتاباتى السابقة عن الفكر الأنسني، خاصة وأنها لم تحظ بعد بمعرفة واسعة، تجنبني ـ وتجنب قارئي الكريم ـ عبء إعادة التعريف بالأنسنية فى كل مقال جديد أناقش فيه أحد أبعاد الفكر الأنسني. ولندلف الآن إلى موضوع هذا المقال الشائك، والذى أعمد فيه إلى إنارة المناطق المظلمة فى الثقافة الدينية بمصابيح الأنسنية، على أمل أن يأتي يوم، نبلغ فيه كأنسنيين أحد أهم أهدافنا، وهو تمكين الذات المغتربة، المغلوبة على أمرها، فى شتى أنحاء المعمورة، وبصفة خاصة فى عالمنا العربي، أن لا تقع ضحية للآخر، محليا كان أم عالميا، فهو المستفيد للأسف الشديد من الغموض الذى يتعمد هو نفسه أن يُضفيه على جوهر الأديان، فيصوره فى عيون المغتربين لغزا كهنوتيا لا سبيل لفهمه، سوى عبر من يصيرهم بحرفيته، وقدرته المدهشة على التعاطى مع المغتربين، رموزا دينية، تعمد بكل شراسة ودهاء إلى قهر الذات وتكريس اغترابها الثقافي، دون رحمة أو هوادة. فالآخر يعلم جيدا أنه بدون ذلك، تتضح الحقيقة ويبدو جليا حرص الأديان ـ على تعددها ـ على عدم هدر عقول معتنقيها، فيغلي مرجل الغضب في صدور المغتربين، ومن ثم يتهدد وجود الاغتراب الثقافى والأخروية!
ويحدوني فيما أنا مُقدم عليه، من تثمين أنسنى لجوهر الأديان، قول الفيلسوف الألمانى فريدريك هيجل بأن البحث عن الحقيقة سوف يظل دائما وأبدا يُوقظ حماس الإنسان ونشاطه ما بقى فيه عرق ينبض وروح يشعر. غير أني أعلم جيدا أنني قد ألتقي، في الحال، بالاعتراض الآتي: هل بامكان الإنسان معرفة الحقيقة؟ وبأى معنى؟ وغالبا ما يستند أصحاب هذه التساؤلات إلى أن هناك فيما يبدو ـ بحسب تعبير هيجل نفسه ـ ضربا من التنافر وعدم التجانس بين الانسان بوصفه موجود متناهى وبين الحقيقة التي هي مطلقة، ومن ثم فهناك شكوكا يُعتد بها حول ما إذا كان يمكن أن يكون هناك جسر بين المتناهي واللامتناهي(2)!
ورغم وجاهة التساؤلات المطروحة، وتعويلها الواضح على طبيعة الصيغة البشرية، يظل البحث عن الحقيقة يُوقظ حماس الإنسان ونشاطه ما بقى فيه عرق ينبض وروح يشعر! ويظل معنى الحقيقة المنشود معرفتها متوقفا ـ إلى حد يُعتد به ـ على الطريق الذى يسلكه الانسان فى نشدانه إياها! غير أنه ليس للانسان أن يطمح إلى ما لا قدرة له عليه، وهو المعرفة اليقينية للحقيقة، أيا كان السبيل الذى يسلكه، فالأمر شائك ومعقد للغاية، حتى أن رفاق السبيل الواحد لنشدان الحقيقة قد يرون معناها على أوجه مختلفة! خذ مثلا الفلسفة، التى تظل أحد أبرز وأهم السبل المتاحة أمام الانسان لنشدان الحقيقة، رغم قول هيجل عن السعى الفلسفى لمعرفة الحقيقة بأنه يتعارض فيما يبدو مع فضائل التواضع البشري وشعور الإنسان بضآلته، كما أن عقبة إضافية تعترضه، وهى خوف العقل وجبنه! فالعقل المهدور يجد ـ والكلام لهيجل ـ من الطبيعي أن يقول إنه سوف يكون سعيدا أن يدرس الفلسفة، من بين ما يدرس من علوم، لكن بشرط أن تتركه على نحو ما كان عليه قبل دراسته لها(3)! وذلك لقناعته بأن التفكير لابد أن يكون قد انحرف إلى الطريق الخطأ، لو أنه تجاوز نطاق السبل المألوفة فى المجتمع..!
أقول إن الفلاسفة، ورغم كونهم رفاق طريق واحد فى نشدان الحقيقة، يرون معنى الحقيقة على أوجة مختلفة، وهو ما نرى فيه تجسيدا واضحا لقول الفيلسوف سكتوس أمبيريكوس، بأن الحقائق تتعدد تبعا لتعدد زوايا النظر(4). وإلى قارئى الكريم أسوق وجهات نظر بعض الفلاسفة في معنى الحقيقة:
1ـ رأى جان أُولمُو: نهاية الحقيقة المطلقة فى العلم:
إن مفهوم الحقيقة المطلقة يتعين بالضرورة أن يرتكز على مطلق سابق على كل تجربة بل على كل فكر إنسانى. وهذا هو الحال بالنسبة لمُثل أفلاطون والحقائق الالهية عند ديكارت. أما المنهج العلمى الذى لا يعرف إلا العلاقة (السببية) ويود تجاهل المطلق، فيتعين عليه أن يتخطى نقطة الارتكاز هذه، وبذلك يُحرر الحقيقة من طابعها الدوجماطيقي(5).
2ـ رأى مارتن هايدجر: ماهية الحقيقة هى الحرية:
لقد انكشفت ماهية الحقيقة كحرية. هذه الأخيرة هى عملية ترك الموجود المنفتح يوجد، التى تكشف الموجود. كل سلوك منفتح يحدث تاركا الموجود يوجد ومتخذا موقفا من هذا الموجود الخاص أو ذاك. إن الحرية قد أسندت، مسبقا، كل سلوك إلى الكائن فى كليته. وذلك من حيث إنها استسلام لانكشاف هذا الموجود فى كليته وكما هو(6).
3ـ رأى فردريك هيجل: الله هو الحق وهو الحقيقة:
الله هو الحق الخالد وهو الماهية ذات القوة المطلقة. إنه يكشف عن نفسه فى العالم، وانه فى هذا العالم لا ينكشف شيء سواه، أعنى سوى العقل ومجده وعظمته، فهو جوهر الكون ومحرك التاريخ، هو عقل كونى Universal Mind، وما العقل البشري إلا قبسا إلهيا يسكن جسد الانسان(7).
والآن، وقد عرضنا وجهات نظر بعض الفلاسفة فى معنى الحقيقة، يصير منطقيا القول بأن أقصى ما يطمح إليه الانسان ـ مهما علا قدره وكثر علمه ـ إزاء الحقيقة، هو الوثوق بما يُفضى إليه به قلبه وعقله، لا معرفتها على سبيل اليقين. وكيف لا؟! والبائن أنه قد حيل بينه وبينها بحجاب كثيف وصلد ليس يمزقه سوى الموت! أقول هذا لألجم نفسي إن هى جمحت، فخُيل إليها أنها أدرى من غيرها بالحقيقة، أو إن هى اعتقدت ـ كما يفعل ملاك اليقين ـ أن طريق نشدانها للحقيقة هو الطريق الأمثل، وسعت لفرض رأيها بالقوة على غيرها! فالمنوط بالانسان ألا تطمح نفسه إلى المستحيل، وإن كان عليه أن يستنفذ حدود الممكن! وهو قول ـ على الأقل بالنسبة لى ـ ليس أمارة يأس أو استسلام، وانما هو مقدمة لا مندوهة عنها لحديث آخر أراه مُحببا إلى نفسي، وهو القول بروعة وجمال الرفقة الإنسانية الصحيحة، وأقصد بها الرفقة التى تسمح لكل صاحب فكر باتخاذ موقفه ومنبره في هيكل الوجود الجميل، شريطة ألا يدعى أنصار هذا الفكر أو ذاك امتلاكهم للحقيقة على وجه اليقين، فأقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء الحقيقة ـ كما ذكرنا وكما سنذكر دائما ـ هو الوثوق بما يفضي إليه به عقله وقلبه في نُشدانها، إذ أن للقلب مبرراته التى لايعلم عنها العقل شيئا..!!
غير أنى بقولى هذا، قارئي الكريم، لا أهون الأمر، ولا أزعم أنى أبت برأى قاطع فى مسألة ما إذا كان بامكان الانسان معرفة الحقيقة، فالمسألة ليست من السهولة بمكان. بل على العكس، أراها شائكة ومعقدة إلى حد يُعتد به وتُخشى تداعياته، وإلا ما كانت بى أو بغيرى من أصحاب الأقلام، عبر العصور المختلفة، حاجة لتحبير كل هذه الأوراق وكتابة كل هذه الكتب، التماسا لمعالجة موضوعية لواحدة من أهم وأخطر قضايا الوجود الانسانى! وأملى أن يساهم هذا المقال، على تواضعه، فى ابراز خطورة هذه القضية وتعقدها.
الدين هو الطريق الأكثر أُلفة لنشدان الحقيقة:
قد يكون ملائما فى بداية حديثي عن الدين بوصفه الطريق الأكثر شيوعا وأُلفة أمام الإنسان لنشدان الحقيقة، أن أسوق للقاريء الكريم دليلا يعضد قناعتي هذه، وهو حديث العالم الأمريكي صمويل هنتنجتون فى كتابه الشهير "صدام الحضارات" عن الدين، ووصفه له بأنه(8): "..أهم عامل بين العوامل الموضوعية التى تُعرف الحضارات كما كان الأثينيون يؤكدون". علاوة على حديث هنتنجتون في الكتاب نفسه عن الحضارات الرئيسية فى التاريخ الإنسانى، ووصفه إياها بأنها(9): "..كانت دائما متوحدة ومتطابقة مع ديانات العالم الكبرى وبدرجة كبيرة..".
وقناعتي المذكورة لا تتعارض بطبيعة الحال مع ما يقول به فريق من المفكرين، إذ أنهم يرون أن هناك سُبلا أخرى أمام الانسان لنشدان الحقيقة، لعل أبرزها وأهمها ـ كما أوضحنا سلفا ـ الفلسفة! أقول هذا وأنا أعلم أن حديثي قد يُساء فهمه، وقد يُؤول على نحو ظالم وجائر، رغم أنى ما قصدت من ورائه ـ والله يعلم ـ سوى مقاربة الواقع المُعاش. فلم يعد مقبولا أو لائقا التعامي عن حقائق نراها جميعا حولنا أوضح من شمس الظهيرة فى كبد السماء..!
ودعونى أتساءل: أليس الوجود الانسانى لوحة جميلة، تزداد جمالا كلما تباينت ألوانها واختلفت؟! أليست سنة كونية أن تختلف وتتباين مسالك من ينشدون الحقيقة من كل حدب وصوب؟! ألم يكن الله قادرا ـ إن هو أراد ـ أن يخلق عقولنا نسخا طبق الأصل من بعضها البعض؟! ودعونى أيضا أُجيب: بلى والله، فسبحان الله، جلت قدرته. إذن، أين الخطأ فى الحديث عن تعدد السبل المتاحة لنشدان الحقيقة؟! أليس للانسان، وقد كُرم بالعقل، الحق فى أن يفكر وأن يختار؟!
على أية حال، أظنني الآن، وقد فرغت من تعضيد قناعتي بكون الدين هو السبيل، ليس الوحيد، وإنما الأكثر شيوعا والأكثر أُلفة أمام الإنسان في نشدانه للحقيقة، مُطالب بتعريف الدين، خاصة وأنه محور الحديث فى هذه الجزئية. وها أنا ذا أفعل ما أنا مُطالب به، مستندا فى ذلك إلى "المعجم الفلسفى"، فهو يُعرف الدين بأنه يعبر عن المطلق فى إطلاقه، وعن المحدود فى محدوديته، وعن العلاقة بينهما، ولهذا يتصف أى دين ـ طبقا لتعريف "المعجم الفلسفى" ـ بما يأتى(10):
أولا: ممارسة شعائر وطقوس معينة.
ثانيا: الاعتقاد فى قيمة مطلقة لا تعدلها أية قيمة أخرى.
ثالثا: ارتباط الفرد بقوة روحية عليا، قد تكون متكثرة أو أحادية.
وقد تشاركنى أيها القارىء الكريم إعتقادى بأنه لا تعارض بين تعريف "المعجم الفلسفى" للدين، وبين التصور الذى لازم الدين منذ البداية ولا يزال يلازمه حتى اليوم، وهو أن الإله هو الحقيقة، حقيقة كل شيء. وهو البداية، بداية كل الأشياء وهو الخاتمة، خاتمة كل الأشياء. فمنه تنطلق كل الأشياء وإليه يرتد الكل ثانية. وهو القادر على حل كل ألغاز العالم، ولديه تجد التناقضات الخاصة بأعمق مدى للتفكير معناها، وقد تكشفت بعد التحجب! وهو الذى ليس لأى شيء فى جانبه وجود قائم بذاته مطلق. وهو أيضا من فى رحابه يخرس ألم القلب والعقل!
الأمر الذى يدعونى للقول بأن جوهر الأديان ـ على تعددها ـ هو معرفة الإله. وكنت قد قلت سلفا إن الدين يُعد الطريق الأكثر شيوعا وأُلفة أمام الإنسان لنشدان الحقيقة، إذن فالاله هو الحقيقة التى ينشدها الانسان عبر الأديان، ومن ثم فمعرفة الاله هى جوهر الأديان، وما اختلاف الشعائر والطقوس من دين لآخر سوى خصوصية، لا تنال ـ ولا ينبغى أن تنال ـ من القول بوحدة جوهر الأديان، فكل أصحاب الأديان ينشدون معرفة القيمة المطلقة والقوة الروحية التى تحدث عنها "المعجم الفلسفي"، كأحد العناصر اللازم توافرها فى أى دين.
قارئي الكريم، خلصت سلفا إلى أنه لا يستقيم أن يكون هناك حرجا فى الحديث عن تعدد السبل المتاحة لنشدان الحقيقة، لاسيما وأن الانسان كُرم بالعقل، وهو ما يقتضينى، خاصة وأنا بصدد الحديث عن الدين، أن أعرض لمسألة مهمة أراها مرتبطة أشد الارتباط بالأمرين ـ أقصد ما خلصت إليه سلفا وحديثي عن الدين ـ، وهى طبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة، كطريقين أمام الانسان لنشدان الحقيقة. فالحاصل أنهما يُنظر إليهما من جانب أنصارهما على أنهما يصلان فى اختلافهما إلى درجة التعارض، بل والصدام فى أحايين كثيرة، والشواهد على ذلك عديدة، يذخر بها التاريخ الانسانى فى عصوره المختلفة! وقد بات مألوفا أن نجد بين معتنقى الأديان من لا يكتفى بأن ينظر إلى الفلسفة بتجهم وريبة، بل يذهب إلى تحريمها واعتبارها خطيئة يأثم من يقترفها! وكذا بات مألوفا أن نجد بين الفلاسفة وأنصار الفلسفة من يُبدى نفورا شديدا إزاء الأديان ومعتنقيها..!
والسؤال الذى يطرح نفسه: هل هذا هو ما ينبغى أن تكون عليه العلاقة بين طريقين يُنشد عبرهما مالا سبيل لبلوغه؟! بالطبع لا، فالثابت أنه لا تعارض بين الطريقين، الدين والفلسفة، وذلك لسببين: أولا: انه أحيانا كثيرة ما يحدث أن يصل سالكوا الطريقين إلى نفس النتيجة، وهى أن الحقيقة هى الله. خذ مثلا الفيلسوف الشهير هيجل، وقوله إن الله هو الحقيقة، وهو الماهية ذات القوة المطلقة. وكذا قوله إن الله يكشف عن نفسه فى العالم، وانه فى هذا العالم لا ينكشف شيء سواه. ألا يلتقى الفيلسوف هيجل بأقواله تلك مع ما اتفقنا سلفا على كونه جوهر الأديان ـ على تعددها ـ وهو معرفة الإله؟! ثم ألا يقوم هذا الالتقاء دليلا على امكانية التلاقح البناء بين الطريقين وأنصارهما؟! ثانيا: اننا قد اتفقنا سلفا على ان البائن أنه قد حيل بين الانسان وبين معرفة الحقيقة بحجاب كثيف وصلد ليس يمزقه سوى الموت! وأن أقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء معرفة الحقيقة هو الوثوق بما يفضي إليه به عقله وقلبه في نُشدانها، ومن ثم فلا مجال للصدام بين الدين والفلسفة بدعوى معرفة أنصار أحدهما للحقيقة على وجه اليقين!!
فكيف لنا إذن والحال هذه أن نفسر تأجج العداء بين أنصار الدين وأنصار الفلسفة، على هذا النحو الذي نراه في المجتمعات المغتربة؟! أغلب الظن أنه يوجد هناك من يؤجج نيران العداء بين أنصار الطريقين. وأراني قانعا أن الآخر، محليا كان أم عالميا، هو من يفعل ذلك، وهذا ما سأتناوله بالرصد والتحليل فى الأجزاء المتبقية من هذا المقال، حتى يكون هذا المقال قد أسهم ولو بشكل متواضع فى تعرية الآخر، فهو المستفيد ـ كما سنرى ـ من هذا العداء الذى يتعارص بشدة مع الرفقة الانسانية الصحيحة..
هل الثقافة الدينية من انتاج الآخر؟
البون شاسع بين الدين والثقافة الدينية، فالدين هو ما تحدثنا عنه فى الجزئية السابقة، وعرفنا جوهره بأنه معرفة الإله، أما الثقافة الدينية فأعنى بها فهم الانسان لدينه وتعاطيه مع الحياة على أساس هذا الفهم. وأرانى قانعا أن الاغتراب الثقافى يتجلى أكثر ما يتجلى فى الانقياد الأعمى من جانب المغتربين، لما يُلقيه الآخر فى روعهم على أنه ثقافة دينية، موهما إياهم أن أية محاولة لتناولها بالنقد والتطوير خطيئة وإثم عظيم! فهذه الثقافة الدينية التى ينتجها الآخر ويلقيها فى روع الذات المغتربة غالبا ما توفر غطاءا دينيا لممارساته غير المشروعة، فبدونها يغلي مرجل الغضب في صدور المغتربين، ويصبح وجود الآخر وأعوانه مهددا. وأقصد بأعوان الآخر محترفي التبرير الديني الذين يخدمون بدورهم مصالح أسيادهم، حتى لو جاء ذلك على حساب آلام المغتربين وأوجاعهم.
ولعل فى ذلك تفسيرا منطقيا للسؤال الذي اختتمت به الجزئية السابقة من هذا المقال، وهو: كيف لنا أن نفسر تأجج العداء بين أنصار الدين وأنصار الفلسفة، في المجتمعات المغتربة، رغم أن البائن أنه قد حيل بين الانسان وبين معرفة الحقيقة على وجه اليقين بحجاب صلد ليس يمزقه سوى الموت، وأن أقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء معرفة الحقيقة هو الوثوق بما يفضي إليه به عقله وقلبه في نُشدانها؟! الآخر هو إذن من يحرص على هذا التأجيج المستمر لنيران العداء، بين أنصار الدين وأنصار الفلسفة، فبدون هذا العداء يتهدد رسوخ الثقافة الدينية التى يلقنها أتباع الآخر من محترفى التبرير الدينى للذات المغتربة، ومن ثم تتهدد مصالح الآخر وتنكشف ممارساته غير المشروعة، والأخطر من ذلك هو أن توقف الذات عن معاداة الفلسفة ينال بالضرورة من قدرة الآخر على تكريس اغترابها الثقافي، إذ كيف سيتسنى له المضى قدما فى الترويج لثقافة دينيه، ينتجها لتخدم مصالحه وممارساته على حساب مصلحة الذات، في ظل استبدال الذات العقل الفلسفي بعقلها الفقهي، واستعادتها لحقها في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة.
الآخر إذن في كل بقعة مغتربة هو من يُبدى حرصاً محموما على تلقين الذات ثقافة دينية، ليس للذات نقدها أو تطويرها. وعادة ما يتم التلقين بطبيعة الحال عبر تجار الآلام المتشحين بعباءة الدين. فلا يكاد يوجد آخر، إلا وقد أحكم قبضته على حظ طيب ممن يعتبرهم مواطنوه رموزاً دينية. ونظرا لما يحيط به الآخر هؤلاء التجار ـ أقصد محترفي التبرير الديني ـ من أسباب الإجلال والتكريم، بزعم صلاحهم وتقواهم، يبيت عسيرا، إن لم يكن مستحيلا، النيل من مصداقيتهم في عيون مواطنيهم، لدرجة تجعل أية محاولة للتشكيك في تلك المصداقية من جانب الأنسنيين جريمة مخزية، يدفعون ثمنها غاليا. فغالبا ما يغري الآخر المغتربين ـ وهو الأمر المدهش ـ بهؤلاء النبلاء فيذيقونهم الهوان أصنافا، أو يتكفل هو بهم، وساعتها يجنى الآخر الثناء الجزيل من مواطنيه المغتربين!
وغالبا لا يكتفي الآخر بتجار الآلام، فيعمد لإحكام سيطرته على المؤسسات الدينية، في محاولة لإخضاعها أو على الأقل تحييدها. وقد تكون مؤسسة الأزهر الشريف نموذجاً للمؤسسة الدينية، التي لطالما سعى الآخر إلى إحكام قبضته عليها، رغم مكانتها الرفيعة في عيون الشعوب الإسلامية. ولا يعنيني في هذا الصدد ما إذا كانت مساعي الآخر قد نجحت أم لا، فهذا أمر يخرج عن نطاق اهتمام هذا المقال، إنما يعنيني رصد قبس من تلك المساعي، والتى قد يكون أبرزها سن القانون الشهير رقم 103 لسنة 1961، وهو قانون تُفضي مواده، التى نُورد بعضها على سبيل المثال، لقارئه بمحاولات الآخر المصري في ستينيات القرن المنصرم إحكام قبضته على الأزهر الشريف(11):
مادة 2 ـ الأزهر هو الهيئة العلمية الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره، وتحمل أمانة الرسالة الإسلامية إلى كل الشعوب، وتعمل على إظهار حقيقة الإسلام وأثره في تقدم البشر ورقي الحضارة وكفالة الأمن والطمأنينة وراحة النفس لكل الناس في الدنيا وفى الآخرة. كما تهتم ببعث الحضارة العربية والتراث العلمي والفكري للأمة العربية..ومقره القاهرة، ويتبع رياسة الجمهورية.
مادة 3 ـ يعين بقرار من رئيس الجمهورية وزير لشئون الأزهر.
مادة 5 ـ يختار شيخ الأزهر من بين هيئة مجمع البحوث الإسلامية (إحدى هيئات الأزهر) أو ممن تتوافر فيهم الصفات المشروطة في أعضاء هذه الهيئة، ويعين بقرار من رئيس الجمهورية، فإن لم يكن قبل هذا التعيين عضواً في تلك الهيئة صار بمقتضى هذا التعيين عضواً فيها.
مادة 7 ـ يكون للأزهر وكيل يختار من بين هيئة مجمع البحوث الإسلامية أو ممن تتوافر فيهم الصفات المشروطة لأعضاء هذه الهيئة. ويعين بقرار من رئيس الجمهورية، فإن لم يكن قبل هذا التعيين عضواً في هيئة المجمع صار بمقتضى هذا التعيين عضواً فيها. ويعاون الوكيل شيخ الأزهر ويقوم مقامه حين غيابه.
مادة 12 ـ يكون للمجلس الأعلى للأزهر (إحدى هيئات الأزهر) أمين عام، يصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية.
مادة 18 ـ يعين بقرار من رئيس الجمهورية أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في أول تشكيل له، بناء على عرض الوزير المختص باقتراح من شيخ الأزهر. ويكون شيخ الأزهر رئيسا لهذا المجمع. ويجوز لرئيس الجمهورية خلال سنة من تاريخ العمل بهذا القانون أن يصدر قرارات بتعيين أعضاء بالمجمع بناء على اقتراح شيخ الأزهر وذلك حتى يتم تعيين جميع أعضائه وفقاً لنص المادة 16 من هذا القانون.
مادة 23 ـ يكون للمجمع أمانة عامة دائمة، يرأسها أمين عام ويشغل هذا المنصب مدير الثقافة والبعوث الإسلامية بشرط أن تتحقق فيه شروط العضوية المنصوص عليها في المادة 17 من هذا القانون ويصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية، بناء على عرض الوزير المختص وموافقة شيخ الأزهر ويكون الأمين العام للمجمع ـ بمقتضى قرار التعيين ـ عضواً في المجمع ما دام شاغلاً لهذه الوظيفة.
مادة 27 ـ يجوز منح لقب عضو فخري لأعضاء المجمع السابقين، أو لمن يؤدي للإسلام خدمات علمية ذات أثر، ويصدر بمنح هذا اللقب قرار من رئيس الجمهورية بناء على عرض من الوزير المختص باقتراح من مؤتمر المجمع.
مادة 41 ـ يكون تعيين رئيس الجامعة ( جامعة الأزهر وهى إحدى هيئات الأزهر ) بقرار من رئيس الجمهورية، بناء على ترشيح الوزير المختص واقتراح شيخ الأزهر، ويشترط فيه أن يكون قد شغل أحد كراسي الأستاذية بجامعة الأزهر أو بإحدى الجامعات في الجمهورية العربية المتحدة. وتسري عليه جميع الأحكام التي تطبق على رئيس الجامعة في الجمهورية العربية المتحدة.
مادة 44 ـ ...ويكون تعيينه (رئيس جامعة الأزهر) لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد، ويعتبر خلال مدة تعيينه شاغلا وظيفة أستاذ على سبيل التذكار، فإذا لم تجدد مدته أو ترك منصبه قبل نهاية المدة عاد إلى شغل وظيفة أستاذ التي كان يشغلها من قبل إذا كانت شاغرة، فإذا لم تكن شاغرة شغلها بصفة شخصية إلى أن تخلو.
مادة 45 ـ يكون للجامعة أمين عام يعين بقرار من رئيس الجمهورية، بناء على عرض الوزير المختص بعد استطلاع رأي رئيس الجامعة.
مادة 51 ـ يعين الوزير المختص عميد الكلية (في جامعة الأزهر) من بين أساتذة الكلية، بناء على ترشيح رئيس الجامعة وموافقة شيخ الأزهر، ويكون العميد مسئولاً عن تنفيذ القوانين واللوائح الجامعية، وكذلك عن تنفيذ قرارات مجلس الكلية ومجلس الجامعة في حدود هذه القوانين واللوائح، ويقدم إلى رئيس الجامعة في كل سنة جامعية تقريراً عن شئون التعليم والبحوث العلمية وسائر نواحي النشاط بالكلية.
......الخ
تداعيات إنتاج الآخر للثقافة الدينية:
ها أنا فى الجزئية السابقة قد ضربت مثلا على انتاج الآخر للثقافة الدينية بمساعى الآخر المصري الرامية إلى إحكام قبضته، ليس فقط على حظ طيب ممن يعتبرهم مواطنوه رموزا دينية، وإنما أيضا على مؤسسة الأزهر الشريف، رغم مكانتها الرفيعة في عيون الشعوب الإسلامية، وذلك في ستينيات القرن الماضى. وها أنا أُؤكد أنه لم يكن لمثل هذه المساعى المحمومة الرامية لانتاج ثقافة دينية بعينها، تُلقى فى روع الذات المغتربة، على أنها يقينات مسلمة، ومعلبة، ومغلقة على النقاش، ومشفرة على نحو غير نقدي ـ أقول انني أُؤكد أنه لم يكن لمثل هذه المساعي المحمومة أن تخلو من تداعيات سلبية تترتب عليها. فكون الثقافة الدينية التي ينتجها الآخر ترمى لحماية مصالحه هو وأعوانه، وكونها تُنتج بأيدي محترفي التبرير الديني، الذين عادة ما يخضعون للآخر ويدينون له بالولاء، كل هذه الأمور، وخاصة عندما تقترن بتحريم النقد والتطوير، لابد وأن يكون لها العديد من التداعيات السلبية، وفيما يلى نعمد لرصد أخطر هذه التداعيات وأهمها:
1ـ تكريس الاغتراب الثقافي:
يقترن انتاج الآخر للثقافة الدينية، وحرمانه الذات حقها في التصدي لها بالنقد والتطوير، بتكريس اغتراب الذات ثقافيا، أي تكريس تنازلها عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة. وعليه، لا تجد الذات أمامها سوى الايغال فى اغترابها، تساعدها على ذلك آليات تكريس الاغتراب الثقافى، سواء كانت بوليسية أو تعليمية أو اعلامية أودينية. فنجد الذات المغتربة وقد صبغها الاغتراب الثقافي بصبغة خاصة، حتى أنها تكفى ناظرها عبء التفكر في هويتها، فهى قلما تنبهت إلى أفضلية ستر عورة اغترابها، فنراها تُفاخر باغترابها أينما حلت، معتقدة أنه تاج يزين جبينها والحق أنه تاج شوك يدمي صاحبه. وقد يتساءل القارئ الكريم عن كيفية تمييز المغترب عن غيره، والجواب أن الاغتراب كداء يحل بصاحبه، غالبا ما تصاحبه أعراض بعينها، لا تُخطئها العين، رصدت بعضها فى كتابي "الاغتراب الثقافى للذات العربية".
وتتمة للفائدة أُورد فيما يلى، عرضا موجزا ومكثفا لأهم هذه الأعراض الاغترابية كما وردت فى الكتاب المذكور(12)، فالواضح أن بالامكان رصد مثل هذه الأعراض في كل المجتمعات المغتربة، عربية كانت أم غير عربية. لأن هذه المجتمعات المغتربة ثقافيا غالبا ما تتشابه فيها أعراض الاغتراب، وإن بدا الأمر لغير المدقق خلاف ذلك، وأظن أن هذا الرأى هو ما يمكن أن تُثبته القراءة المتأنية لأوضاع هذه المجتمعات:
[1] إدمان لعبة إلقاء التبعة بالكامل على الآخر غير المحلي.
[2] اغتيال المبدعين و معاداة الإبداع.
[3] غياب العقلانية و الشغف بالشكلية البسيطة.
[4] العجز عن التعاطي مع الآخر العالمي.
[5] افتقاد الرؤية النقدية أو الجبن العقلي.
[6] اعتياد التناقض والرؤية التجزيئية للأمور.
2ـ هدر الثروة العقلية:
مادام انتاج الآخر للثقافة الدينية يقترن ـ كما أوضحت ـ بتكريس اغتراب الذات ثقافيا، فلابد أنه يقترن أيضا بهدر ثروتها العقلية. لأنه عادة ما يكون الاغتراب الثقافي مصحوبا بهدر الثروة العقلية للمغترب، وتلك مقولة اهتديت إليها فى مقال سابق لى بعنوان "هدر العقل العربي"، انتهيت فيه إلى القول بوجود علاقة وثيقة بين الاغتراب الثقافي للذات العربية وهدر الثروة العقلية لتلك الذات، وانتهيت فيه أيضا إلى القول بأن جذور هذه العلاقة إنما تكمن فى تعريف مصطلحي الاغتراب الثقافي والهدر العقلي. فتعريف مصطلح "الاغتراب الثقافي" بأنه تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وتعريف مصطلح "الهدر العقلي" بأنه إعتقاد الإنسان، سواء امتلك عقلا فلسفيا أو عقلا لاهوتيا/فقهيا، أنه قد استطاع بناء ثقافة أو أنه قد بُنيت له ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد و التطوير(13). أقول إن تعريف المصطلحين على النحو المذكور يشي بأن الهدر العقلي يُعد أحد العناصر المكونة للاغتراب الثقافي، غير أن الهدر يمكن أن يوجد بدون اغتراب!
3ـ رفض الأديان ومعاداتها:
لعل من اخطر التداعيات السلبية لانتاج الآخر للثقافة الدينية، هى نفور البعض من الأديان، فى مجملها، باعتبارها ـ من وجهة نظرهم ـ قد سقطت فى براثن الآخر ولا سبيل لاسترجاعها! ومن ثم فالأفضل رفضها ـ أقصد الأديان ـ، لكونها توفر حماية لمصالح الآخر، وتكرس اغتراب الذات ثقافيا، إضافة إلى ما تسفر عنه من هدر للثروات العقلية للمغتربين. والأمثلة المعضدة لقولى هذا عديدة، لعل أبرزها على الصعيد المحلى كتابات الشاعر المصري الراحل نجيب سرور، فللرجل وكلنا يعلم شرفه ونبله كتابات تقطر ألما على ما فعله الآخر بالأديان، وسعيه المحموم للافادة منها وتوظيفها، ولو كان ذلك على حساب آلام الذات وأوجاعها. ومن ذلك قول نجيب في ديوانه الشهير "لزوم ما يلزم"(14):
كل العقائد ـ كلها ـ قامت تندد باللصوص
ثم انتهت ـ عجبا ـ إلى أيدى اللصوص
أوزير، كونفشيوس، بوذا، زارادشت،
موسى، وعيسى..كم تطول القائمة!
ستموت آلاف العقائد،
لتجيء آلاف العقائد،
وتظل أرض الناس ملأى باللصوص!
وإذا كان نجيب سرور بحكم أنسنيته(15)، ولاعتبارات أخرى لا مجال لسردها، لم يرفض الأديان ولم يناصبها العداء، فإن هناك من فعل ذلك صراحة وعلى الملأ. فكارل ماركس مثلا ـ وهو مؤسس النظرية الشيوعية مع رفيقه فردريك إنجلز ـ هاجم الأديان بحدة فى كتابات كثيرة، وهو سلوك أُرجعه إلى اعتقاد ماركس في صعوبة ـ بل استحالة ـ استعادة الأديان من بين براثن الآخر وتجار الآلام الموالين له. أقول هذا وأنا أعلم اختلاف مفهوم الآخر في الشيوعية عنه فى الأنسنية. فالآخر فى الشيوعية هو من يُؤثر نفسه بالثروة، أما فى الأنسنية فالآخر هو من يُؤثر نفسه بالأنسنية وثمارها. ولنقرأ سويا حديث كارل ماركس الشهير عن الأديان، لنلمس مدى رفضه إياها وإدراكه لما تصوره تأثيرا سلبيا لها، وهى قناعة أظنه وصل إليها بعد رصد دؤوب لقدرة الآخر المخيفة على إنتاج وتوظيف الثقافة الدينية، واتخاذه لها ستارا يحمى به مصالحه وأنانيته فى مواجهة الذات المغتربة. يقول ماركس(16): "الدين هو تنهدات المقهورين، وهو القلب في عالم تعوزه الرحمة، والروح في عالم تعوزه الروح، انه بحق أفيون الشعوب".
حماية الذات عبر التأكيد على جوهر الأديان:
قد يعن للقاريء الكريم بعد كل ما ذكرته أن يتساءل ـ وهذا حقه ـ: لماذا التثمين الأنسني لجوهر الأديان؟ والاجابة هى أن الأنسنية تثمن جوهر الأديان، وهو معرفة الإله، حماية للذات، وقد أوردت فى الجزئية السابقة بعض أهم التداعيات السلبية لانتاج الآخر للثقافة الدينية، وكلها خطيرة، تنال من الذات بشدة، وذلك لانطوائها على تكريس مهين لاغتراب الذات ثقافيا، وهدر مؤلم لثروتها العقلية، علاوة على كونها تدفع بالبعض إلى رفض الأديان ومعاداتها، اعتقادا منهم فى صعوبة ـ بل استحالة ـ استرداد الدين من بين براثن الآخر!
وبانارة المناطق المظلمة فى ثقافتنا الدينية، وأقصد بها جوهر الأديان، بمصابيح الأنسنية، يصبح ممكنا ـ إلى حد يُعتد به ـ تمكين الذات المغتربة، المغلوبة على أمرها، فى شتى أنحاء العالم، وبصفة خاصة فى عالمنا العربي، أن تخلع عنها نير الاغتراب الثقافي الذى يُثقل الآخر كاهلها به، فنراها وقد رفضت انتاج هذا الآخر لثقافتها الدينية، عبر تعهدها هذه الثقافة بالنقد والتطوير الدائمين، مستفيدة فى ذلك بالثروة العقلية التى وُهبت إياها. وكاتب هذه السطور واثق ـ كل الثقة ـ أنه فى ظل مناخ كهذا سيصبح ممكنا الحديث عن الرفقة الانسانية الصحيحة بين طلاب الحقيقة من كل حدب وصوب، مهما اختلفت الطرق التى يسلكونها فى نشدانهم لما اتفقنا سلفا على أنه لا سبيل لبلوغه، وهو معرفة الحقيقة على وجه اليقين..
الهوامش:
ــــــــــ
(1) راجع كتاباتنا السابقة فى مجال الفكر الأنسني: دراسة للكاتب بعنوان "بناء الذات الأنسنية"، وأخرى بعنوان "هدر العقل العربي"، إضافة إلى دراسة ثالثة بعنوان "المرأة فى الفكر الأنسني"، تجدها جميعا على شبكة الانترنت. وراجع للكاتب أيضا: الانسان هو الحل، (القاهرة: دار سطور للنشر، عام 2007).
(2) نقلا عن: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (إعداد وترجمة)، الحقيقة ـ نصوص مختارة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، سلسلة دفاتر فلسفية، العدد رقم 4، 1993)، ص ص 9 ـ 11.
(3) نفس المرجع، نفس الصفحات.
(4) نفس المرجع، ص 39.
(5) نفس المرجع، ص ص 78ـ79.
(6) نفس المرجع، ص ص 73ـ76.
(7) نفس المرجع، ص ص9ـ11. محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (إعداد وترجمة)، العقل والعقلانية ـ نصوص مختارة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، سلسلة دفاتر فلسفية، العدد رقم 9، 2007)، ص 74.
(8) صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998)، ص 70.
(9) نفس المرجع، نفس الصفحة.
(10) مراد وهبة، المعجم الفلسفي، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1979)، ص199.
(11) أنظر نص القانون ومذكرته الإيضاحية: الإدارة العامة للشئون القانونية بالهيئة، القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975 وفقا لآخر التعديلات، ( القاهرة: وزارة الصناعة والثروة المعدنية، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، 1999)، ص ص 1 ـ 48.
(12) لمزيد من المعلومات عن الاغتراب الثقافي راجع للكاتب: الاغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، عام 2006).
(13) مقال للكاتب بعنوان "هدر العقل العربي"، منشور على شبكة الانترنت.
(14) نجيب سرور، الأعمال الكاملة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد الثالث، 1996)، ص 228.
(15) راجع للكاتب: دون كيخوته المصري (دراسة علمية وثائقية لحياة وفكر الشاعر المصري الراحل نجيب سرور)، تحت الطبع.
(16) karl Marx, " Contribution to the Critique of Hegel's Philosophy of Right : Introduction " , in Robert C. Tucker ( ed )