روجت وسائل الاعلام لظهور الصين على الساحة الدولية كعملاق جديد يدخل نادي الكبار من اوسع الابواب. واعتمد الكثير في طرحهم هذا على ان الصين أسرع الاقتصاديات نموا (11% سنويا)، وتحتل المرتبة الأولى في ادخار الاحتياطات الأجنبية حيث بلغت 1534 مليار دولار (بالدرجة الأولى الدولار الأمريكي). وتمتلك أكبر جيش في العالم من حيث العدد (يتراوح بين 2.5 - 3 مليون فرد)، ورابع أكبر ميزانية دفاع في العالم والتي تتزايد بنسبة 10% سنويا.
كما تعتبر الأولى عالميا في انتاج الحديد والمعادن والاسمنت، والثانية في استهلاك الطاقة بشكل عام، والثالثة في استهلاك النفط تحديدا، كما تعتبر ثالث اقتصاد من حيث الدخل القومي الاجمالي الذي بلغ 6991 مليار دولار امريكي.
وحسب موقع مجلة الايكونومست، فقد ساهم الاقتصاد الصيني بانقاذ الاقتصاد العالمي في بدايات هذا العقد من ركود عالمي خصوصا بعد الأزمات المالية التي ضربت الاقتصاد الامريكي.
ويرى بنك (مورغن ستانلي) أن انتقال الكثير من الشركات الأمريكية إلى الصين بغرض الانتاج وفر على المستهلك الامريكي خلال عشر سنوات (1996-2006) أكثر من 600 مليار دولار.
وتضاعفت صادراتها الى أمريكا 16 مرة خلال 15 عاما بينما تضاعفت وارداتها من أمريكا أربع مرات فقط، فقد استوردت شركة "Wal-Mart" الأمريكية (التي يمثل دخلها حوالي 2 الى 3% من الدخل القومي الامريكي) 80% من منتجاتها من الصين، ففي عام 2006 استوردت أكثر من 18 مليار دولار من المنتجات الصينية.
اضافة الى ذلك، يذهب الكثير من المحللين إلى المغالاة في تعظيم الدور الصيني عالميا من خلال اعتبار أن الظهور الصيني يمثل مرحلة ثالثة من مراحل التطور في الساحة العالمية خلال القرون الاربعة الماضية، حيث تمثلت المرحلة الأولى بظهور القوة الاوروبية في القرن السابع عشر. ثم المرحلة الثانية المتمثلة بنهوض الاقتصاد الامريكي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أما المرحلة الثالثة المبالغ فيها تتمثل في بزوغ قوة جديدة من الشرق وهي القوة الآسيوية وتحديدا في الصين بالدرجة الأولى ومحيطها من الهند وكوريا واليابان.
وبالعودة إلى تاريخ هذا التطور العالمي نجد أن الانتقال من مرحلة إلى اخرى كان مترافقا مع أزمات ومحاولات من طرف للتغلب على الاخر ليحل محله ويتابع مسيرة جديدة في النظام العالمي، فمثلا بروز أمريكا كقوة عالمية وقطب أوحد لم يصل إلى هذا المستوى الا بعد الاستفادة من انتصارات عسكرية لها ولحلفائها في الحروب العالمية وانتهاء مرحلة الحرب الباردة بازاحة أي منافس عن المشهد العالمي بكل الطرق. وسابقا الظهور الاوروبي والنهج الاستعماري التقليدي الذي غذى النهضة والثورة الصناعية وقدم اروربا كقوة عظمى، اما اليوم فيبدو أن المرحلة الجديدة الصينية لا تحمل هذا البعد (من انتصارات، ازاحة، استعمار..) لا لكونها أكثر انسانية بل لكونها غير قادرة على أن تزيح اللاعبين الرئيسيين في الساحة الدولية ولا تزال عاجزة ان تفرض نفسها بشكل مستقل.
إن ظهور الصين كقوة حقيقية منافسة في المجتمع الدولي أو بديل عن أقطاب رائدة في العالم أمر مشكوك فيه، فهي لا تعدو عن كونها ورشة عمل تنتج لحساب الدول المتقدمة على حساب الدول الفقيرة. ولتوضيح هذا الطرح لابد من أخذ النقاط التالية بعين الاعتبار:
- قطاع الصناعة الصينية عبارة عن مصنع او معمل ينفذ تصاميم وطلبات العالم المتقدم الذي يحدد معايير الانتاج ومواصفاته وتصاميمه ومدة الانتاج ونوعية المنتج وجودته لتتناسب مع السوق الذي تختاره الدول المتقدمة، حيث تنفذ الصين ذلك بارخص التكاليف تاركة هامشا كبيرا من الربح لتلك الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي نقلت جزءا كبيرا من خطوط انتاج شركاتها الى الصين. وبالتالي فان النمو الاقتصادي في الصين لم يخلق قطاعات ابداعية، لأن أغلب المنتجات الصينية قائمة على تنفيذ الاوامر المحددة مسبقا وتخلو من أي إضافة صينية ابداعية في أغلب مجالاتها..
- الصناعة الصينية تقدم منتجا مصنعا من مواد أولية مستوردة بأسعار رخيصة جدا من الدول الفقيرة. وتعيد تصنيعها لتحويلها إلى سلع تحتوي قيمة مضافة لترفع أسعارها إلى أضعاف ما استوردته من مواد اولية. لتقدمه للعالم المتقدم باسعار رخيصة نسبيا (في حال إذا ما قارنا عملية الانتاج هذه بين الصين والعالم المتقدم) ليتكفل مهمة تسويقه وجني الأرباح على حساب الدول النامية المصدرة للمواد الاولية الرخيصة، والصين المنتج للسلع باستخدام القوة العاملة الرخيصة. عليه, يبقى العالم الثالث (بما فيه الصين طبعا) في المرحلة المقبلة عالماً متخلفاً لا يجد اي فرصة لتحقيق تنمية تخرجه من هذه الدائرة المغلقة.
- النمو الصناعي الكبير الذي تحقق في الصين لم ينعكس على المستوى المعاشي للشعب الصيني بل تضاعفت الفجوة بين طبقات الشعب وتحول أغلب الطبقة المتوسطة إلى طبقة عاملة بدخل محدود، بينما ظهرت طبقة ثرية تستثمر بالتعاون مع الشركات العالمية التي توظفهم كوسطاء ينقلون أوامر الانتاج إلى الشركات الصينية التي تقتصر مهمتها على الانتاج بأرخص التكاليف، ولم تلعب هذه الطبقة الثرية دوراً تنموياً في الصين كما فعلت الطبقة البرجوازية التي ظهرت أيام الثورة الصناعية في أوروبا. اذاً، النمو الاقتصادي الصيني لا يحمل في طياته بعداً تنموياً بل نمواً متسارعاً نتيجة دخول استثمارات أجنبية يهمها الانتاج الرخيص وليس تحقيق تنمية تخدم الشعب الصيني.
- الثورة الصناعية في الصين خالية من مضامين النهوض الاجتماعي كونها لم تترافق مع انفتاح في الحريات وحقوق الانسان والتحرر الفكري والثقافي بل ظهرت كطفرة في مسيرة النمو على عكس ما شهدته التجربة الغربية في أوروبا.
- المنتج الصيني ليس له معايير وطنية ودولية ثابتة، فما تنتجه الصين من منتجات موجه الى أوروبا مثلاً لها مواصفات الانتاج الاوروبي. وما ترسله إلى الدول المتخلفة خال من أية معايير ومقاييس للجودة ولا تتشابه مع ما ترسله إلى الغرب الا في الشكل فقط فهي مجرد سلعة رخيصة للاستخدام بدون معايير الجودة والسلامة والامان، المهم أنها رخيصة.
- دخلت الصين نادي كبار الملوثين للبيئة ليس نتيجة الأعمال التنموية التي تحققت في الصين بل نتيجة تحولها إلى أكبر منتج لحساب الاخرين على حساب تحمل الصين أعباء بيئية أمام شعبها من جهة، حيث اصبحت أغلب المدن الصينية مصنفة من بين أسوأ المدن للعيش عالميا نتيجة ارتفاع مستويات التلوث في الجو والتربة والهواء. ومن جهة أخرى، تتحمل الصين عبئاً بيئياً دولياً أمام المجتمع العالمي الذي بدأ يضغط على الدول الصناعية لتحمل مسؤولية التلوث المسبب لاتساع ثقب الأوزون واعتبار الصين أحد أكبر المسؤولين، متناسين أن الانبعاثات الملوثة للبيئة الصادرة عن الصين ليست نتيجة بناء وتنمية بل نتيجة ما تقدمه وتنتجه بالنيابة عن العالم المتقدم والذي وجد في الصين "كبش الفداء" لتحميلها أغلب الأعباء بتصنيفها أكبر الملوثين الان، ومتناسين أيضا أن العالم الصناعي التقليدي وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية ظلت تلوث خلال الخمسين عاما مضى رافضة أن توقع على اتفاق "كيوتو"، ولكن بعد ان نقلت اغلب صناعاتها الى الصين، أظهرت الدول الصناعية اهتماما بقضية التغير المناخي وحماية البيئة ومطالبة الصين عن ذلك وتحميلها مسؤولية عن الكوارث المناخية.
- جزء كبير من الانفاق العام الحكومي الصيني يتوجه لخدمة عمليات الانتاج المخصص للتصدير (التي تخدم السوق الخارجية) مع اهمال قطاعات حيوية (التي تخدم الشعب الصيني) مثل الصحة والتعليم والتربية.
- النمو الصناعي حمل أثراً سلبياً على قطاع الزراعة حيث سحبت الصناعة الأيدي العاملة من الزراعة التي تخضع إلى العامل الموسمي غير الثابت من جهة. ومن جهة ثانية، تراجع دعم الحكومة للقطاع الزراعي وبالتالي انخفاض المستوى المعاشي للفلاحين على عكس ما يفعله الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الامريكية من دعم غير محدود للزراعة.
- تعتمد الصين الدولار الامريكي كعملة لتقييم كل الاصول الصناعية والاستثمارات وبالتالي يترتب عنه ربط غير مباشر بهذه العملة ومستقبلها، مما يعني أن الاقتصاد الصيني سيعمل جاهدا على حماية الدولار من الانهيار من خلال ضخ المزيد من الأموال لشراء سندات الخزينة الأمريكية لتغطية العجز في الميزانية الأمريكية والعجز في ميزان التجارة الخارجية ولدعم الدولار. اي تعاظم المديونية الامريكية التي بلغت 12250 مليار دولار امريكي لحساب الصين التي تعتبر اكبر الدائنين. وبكلام اخر لا يكتفي المستثمر الامريكي مما يجنيه من ارباح السلع الصينية رخيص التكاليف بل يضع الصين في موضع لا يمكنها أن تتخلى عن الاقتصاد الأمريكي أكبر مستورد للسلع الصينية. مما يجعل الصين تابعا بشكل غير مباشر للسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) التي تصدرها واشنطن، وواجب عليها أن تصلح وتتحمل أعباء ما تخربه الادارة الامريكية في الاقتصاد العالمي ككل.
- النمو الاقتصادي السريع الذي تنعم به الصين يسير في مستقبل ضبابي لكونه معتمداً على تلبية احتياجات السوق الدولية (أي تنتج للخارج فهي اقتصاد تصدير) مما يعني أن مستقبل هذا النمو الاقتصادي يعتمد على مدى استقرار السوق الخارجية، فأي أزمة في السوق الأمريكية ستنعكس على الاستهلاك الامريكي وبالتالي على الانتاج الصيني وعلى مستقبل النمو الاقتصادي هناك، لغياب سوق صيني حقيقي وغياب عملية تنمية مستدامة في البلاد.
- على الرغم من كون نموها معتمداً على التصدير فهي تعتبر من أكبر مصدري السلع في العالم من ناحية الكم، أما من ناحية قيمة صادراتها فترتيبها الرابع بما يقدر بحدود 1217 مليار دولار بينما تفوقت ألمانيا على الصين في قيمة ما تصدره 1334 مليار دولار بالرغم من الأزمات الاقتصادية التي تعانيها "العجوز الاوروبية". لذا لا يمكن تصنيف الصين كقوة اقتصادية خارقة حتى مع الاخذ بعين الاعتبار اهم عنصر من عناصر نموها وهو التصدير.
- وعلى الرغم من أن شنغهاي مركز مالي مساحته ثمانية اضعاف مساحة مدينة المال في لندن تظل الصين غير قادرة على أن تلعب دور مركز مالي عالمي يضاهي لندن او نيويورك. وعلى صعيد النظام البنكي، تعاني الصين من عدم وجود سياسيات نقدية فعالة يديرها بنك مركزي تابع لسياسات الحكومة المركزية ذات التوجه المشوش بين الاشتراكية والرأسمالية، اضافة الى غياب قطاع مصرفي يتناسب مع الانظمة البنكية العالمية، فلازالت أغلب الاستثمارات الأجنبية في الصين تدار من قبل بنوك وصناديق استثمارية غربية بالدرجة الاولى.
- صحيح أن الاقتصاد الصيني هو الثالث من حيث الدخل القومي الاجمالي ولكن عندما نوزع هذا الدخل على الشعب الصيني نجد ان متوسط الدخل السنوي بالنسبة للمواطن الصيني بحدود 5300 دولار امريكي فقط لا غير. اي تحتل مرتبة اقل من الكثير من الدول الفقيرة حيث اخذت المركز 133 بينما مصر إحدى الدول النامية تحتل المرتبة 130. أضف إلى أننا اذا أخذنا في الاعتبار أن حوالي 30% إلى 40% من الدخل القومي الصيني ناتج عن مستثمرين وشركات اجنبية ويعود لحسابها الخاص، سنجد ان متوسط الدخل السنوي الفعلي بالنسبة للمواطن الصيني سينخفض الى اقل من 4000 دولار امريكي، وبالتالي ستصنف الصين في مراتب بعد 150 بين دول العالم وستكون أكثر فقرا من كوبا مثلا التي تصنف في المركز 149. بكلام اخر سيتحول هذا التنين العملاق الناهض إلى سحلية هزيلة في عالم تسود فيه القيمة على الكم والحجم.
غير أن الامر الذي لا شك فيه هو ان التنين الصيني ينهض، ولكن يبدو أنه نهوض هزيل وتابع لدرجة أن الصين غير قادرة على أن تأخذ دورا حقيقيا في الاقتصاد العالمي، لتظهر كطرف ثالث يعمل بالوساطة لحساب أطراف أخرى، وليس كلاعب مستقل يأخذ مكانا بارزا في المجتمع الدولي ويفرض شروطه التي يفضلها بقدر ما يتقبل شروط الاخرين ويخدم مصالحهم أملا في الحفاظ على نصيب فيها او على بعض من الفتات المتبقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مدير تحرير جريدة "العرب الاسبوعي" الصادرة من لندن.
ghassan.ibrahim@yahoo.co.uk