في كتيب لا يزيد عن 123 صفحة من القطع المتوسط، يتابع الأستاذ جميل خرطبيل أبرز المحطات التي مرت فيها منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يتم'وأدها' على يد فصائل المقاومة التي كانت قد سيطرت على المنظمة في الدورة الرابعة لمجلسها الوطني في حزيران عام 1968، وذلك من خلال استبدالها بسلطة أوسلو التي نهضت على أرضية المشروع الاستعماري في المنطقة والذي يمر عبر تصفية قضية فلسطين.
يلفت النظر في هذا الكتاب، الموقف الواقعي الثوري الذي يعبر عنه الكاتب في تناوله للهدف المرحلي الذي طرحته المنظمة في دورة مجلسها الثانية عشرة عام 1974 عبر ما عرف ببرنامج النقاط العشر، مبيناً أن الخلل لم يكن في ذلك البرنامج، بقدر ما كان في النهج الذي تبنته قيادة المنظمة لبلوغ الهدف الذي طرحه البرنامج، والقائم على أوهام التسوية مع المشروع الاستعماري الصهيوني، ذلك أن هذه القيادة لم تلتزم بمنطلقات الثورة، وبالثوابت التي أكد عليها الميثاق القومي ومن ثم الوطني لمنظمة التحرير، والتي تعتمد إستراتيجية حرب التحرير الشعبية سبيلاً لإنجاز الهدف المرحلي كخطوة على طريق إلحاق الهزيمة النهائية بالمشروع الاستعماري، وقد مضت انطلاقاً من البرنامج المذكور وضمن عملية تحريف لمضمونه، ساعية وراء سلطة تقوم على أي جزء من الأرض الفلسطينية، وتكون مقبولة من جانب العدو الصهيوني، معولة على دور المجتمع الدولي في الوصول إلى هذه السلطة، وعلى إمكانية أن يقبل قادة الكيان بتسوية تاريخية يتم إقناعه بها عن طريق عمليات فدائية تذكره بضرورة التسوية، وقد أدرك العدو الصهيوني وخلفه الاستعماري بأن هذه القيادة قد دخلت على طريق التنازلات، وأن مزيداً من الضغوط العسكرية عليها مترافقة مع الوعود المخادعة، يمكنها أن تنقل هذه القيادة من أرضية التحرير إلى أرضية الخضوع للمشروع النقيض.
كما يتبدى هذا الموقف المتوازن في سياق الكتاب، في نظرة الكاتب إلى عملية فلسطنة منظمة التحرير على يد فصائل المقاومة، مبيناً أهمية هذه العملية على مستوى استعادة وإحياء الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني التي عمل المشروع الاستعماري على شطبها، لكن الخلل الذي رافق هذه العملية والذي أفضى إلى مستنقع أوسلو كما يوضح الكتاب، لم يتمثل في التأكيد على الهوية الوطنية للثورة الفلسطينية، وإنما في استجابة قيادة المنظمة، لميل النظام الرسمي العربي الذي باتت تقوده النظم التابعة، للتحلل من أعباء القضية الفلسطينية وإلقائها على عاتق الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية التحررية، وهي تدرك حجم هذه الأعباء في مواجهة مشروع يستهدف إهالة التراب على المشروع القومي التحرري للأمة العربية، والذي يمر تنفيذه عبر تصفية القضية الفلسطينية التي تشكل بؤرة الصراع مع المشروع الاستعماري، وإن لهاث هذه القيادة في الحصول على السلطة، هو ما دفعها إلى التماهي مع توجهات النظام الرسمي، وإلى التنصل من العلاقة الجدلية بين الوطني والقومي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ويتميز الكتاب أيضاً، بالجهد الذي بذله الكاتب، في غربلة مقررات المجالس الوطنية والتقاط ما يخدم سياق الكتاب المتعلق بمسار وأد المنظمة، وكذلك في إمساكه بالمنعطفات الحادة التي قطعتها المنظمة وهي ماضية على طريق التجاوب مع إملاءات الحلف الاستعماري، مؤملة أن يجعلها ذلك مقبولة من هذا الحلف الذي يتحكم بالنظام الدولي، وأن يوصلها إلى سلطة تقوم في سياق التجزئة التي فرضها المستعمر على المشرق العربي، وعلى الوطن العربي بوجه عام في أعقاب الحرب العالمية الأولى، غير مدركة أن المشروع الاستعماري ماضٍ على طريق استكمال التجزئة، وأنه ينطلق من الرؤية بأن أي كيانية فلسطينية هي نقيض تاريخي لدولة الاغتصاب الصهيونية التي يراد لها أن تحكم الإقليم العربي الممزق إلى كيانات أقلوية لا وجود فيها لكيانية وطنية فلسطينية.
وإذ يتوقف الكتاب عند أداء فصائل المقاومة الفلسطينية'بيمينها ويسارها'، فهو يرد ضعف هذا الأداء وعشوائيته، إلى الخلل الذي نجم عن غياب الرؤية الاستراتيجية لطبيعة الصراع مع المشروع الاستعماري – الصهيوني، والذي انعكس في عدم الجديَّة ببناء حركة ثورية متماسكة تمضي صعداً على طريق انتزاع تنازلات من العدو على حساب ثوابت مشروعه، بعد أن يشعر بالعجز عن استمرار تحمل أعباء مواجهة مكلفة مع حركة التحرر الفلسطينية المدعومة من قوى حركة التحرر العربية، راسماً مظاهر الخلل الأساسية التي طبعت بنى ومن ثم أداء تلك الفصائل، بما أدى إلى تخلي المنظمة عن ثوابتها، وانزياحها باتجاه الوقوف على أرضية المشروع النقيض عن طريق الاعتراف بشرعية دولة الاغتصاب الصهيونية، والتنازل عن حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة المسلحة باعتبارها ممارسة غير شرعية للعنف وللإرهاب.
ومن بين ما يبرزه الكتاب على هذا الصعيد:
- ترهُّل بنية الثورة في إطار منظمة التحرير، بحيث تحوَّلت حركة فتح التي شكلت العمود الفقري للثورة، إلى مجموعة فدراليات تتمحور كل واحدة منها حول قائد من قادة الحركة. وفي تساوق مع هذه الشرذمة للفصيل القائد، مضت الفصائل الأخرى على طريق الانقسامات، ولم يتم ذلك بمعزلٍ عن سعي القيادة المهيمنة إلى إضعاف تلك الفصائل لكي يسهل عليها الانفراد بالقرار والسير به على أساس نهج التسوية.
وهذا المسار من التشظي والتفتيت الذي ساد العمل الوطني الفلسطيني، ظل يمضي قدماً، فيما مقررات المجالس الوطنية وخاصة في دوراتها الأولى، بقيت تؤكد على ضرورة الوحدة الوطنية الصلبة، حيث جاء في مقررات الدورة الثامنة المنعقدة في 28 شباط عام 1971 فيما يتعلق بالأسس التنظيميَّة : ((منظمة التحرير هي الإطار الذي يضم كافة القوى الثورية الفلسطينية من أجل ثورة مسلحة تحرر كامل التراب الفلسطيني.. وإن الاندماج بين المنظمات الفدائية ذات الإيديولوجيا الواحدة، والمنطلق الفكري السياسي الواحد في منظمة واحدة، هو ضرورة وطنية)).
- هذا التشظي التنظيمي انسحب على ممارسة العمل العسكري، إذ بقيت المقررات حول إقامة الوحدة العسكرية لفصائل المقاومة حبراً على ورق، وقد انعكس ذلك في غياب خطة مدروسة لتطوير العمل العسكري تشرف على تنفيذها القيادة السياسية الموحدة للمنظمة، بما حوّل العمليات الفدائية إلى وسيلة لإعلان الحضور من جانب كل فصيل، بحيث غدا الفصيل هو الغاية بدل التحرير، وهذا الوضع دفع الفصائل إلى العناية بالكم على حساب النوعية في جسمها المقاتل، وبرزت في الساحة الوطنية ظاهرة هجرة المقاتلين وانتقالهم بين الفصائل بما يؤشر على ضعف التربية العقائدية داخل بنية تلك الفصائل التي لم تقم تعدديتها على أساس تمايز حقيقي بينها في الإيديولوجيا وفي البرامج والممارسة الثورية.
- وفي ظل هذا الوضع من التشتت الفصائلي وإعلاء مكانة الفصيل على حساب الهدف الوطني التحرري، تعمق الانقسام بين الخطاب الثوري للفصائل، وبين أدائها النضالي، ومع سيادة الشعور بأن هذا الأداء المشتت في العمل المقاوم لا يحقق تقدماً على طريق التحرير، تسربت القناعة بصوابية نهج التحرير الذي يقود إلى التسوية، وذلك ما يفسِّر عجز التيار الذي طالما أعلن مناهضته لنهج التسوية، عن تصويب مسار المنظمة، ووقف مظاهر الانحراف في خط قيادتها الذي أفضى إلى وأدها في نهاية المطاف، بعد بروز العجز الفاضح عن مجابهة الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982.
- يركز الكتاب على الخلل الفكري الذي وقع فيه تيار اليسار الفلسطيني، الذي تغلغل في وعيه الفهم الطبقي للصراع مع العدو الصهيوني، متوهماً أن التجمع الاستيطاني في فلسطين.يمكن أن ينقسم على أساس طبقي ليقوم نضال مشترك مع طبقاته المسحوقة ضد الصهيونية وضد حلفائها في القوى الاستعمارية، وهذا الوهم جرى استبطانه تحت تأثير المركز السوفييتي الذي لم يكن يميِّز لدوافع برغماتية دولتية، بين مجتمعات الدول الاستعمارية التي يمكن أن تخترقها الصراعات الطبقية، وبين التجمعات الاستيطانية التي يحكمها التناقض التعادمي الوجودي مع سكان البلاد الأصليين ومع المحيط الإقليمي.
- وهكذا فإنه بدل أن يسهم هذا اليسار من موقعه، واستناداً إلى تجربته الثورية، في تصحيح الخلل الذي وقع فيه ستالين عندما اعترف بالدولة الصهيونية، بأن يحذِّر الحلفاء السوفييت من خطر هذا المركز الصهيوني على مجموع القوى الثورية والتحررية في العالم وعل رأسها المركز السوفييتي، فإنه مضى على طريق مسايرة الحلفاء في رؤيتهم الخاطئة تجاه الكيان، الذي كان له دوراً في التآمر على الإتحاد السوفييتي وعلى روسيا الاتحادية بعد انهيار الدولة السوفيتية.
رغم جدية الكتاب على المستوى البحثي وفيما يسوده من رؤية منهجية متماسكة، إلا أنه كثيراً ما يقع في إسار اللغة العائمة التي تحوم حول المعنى دون أن تمسك بلبه، والتي تبتعد عن حقيقة الوقائع في بعض الأحيان، كقوله تحت عنوان'اليمين الفلسطيني'الذي يعني حركة فتح : ((على الرغم من هيمنة حركة فتح على الفصائل كلها، إلا أنها كانت تعاني داخلياً من الهيمنة الفردية، وفقدان القيادة الجماعية، وهذا ما أدى بها إلى الانشقاقات والصدامات)).وقوله :((لقد برز في حركة فتح تياران، هما تيار القيادة الذي ارتبط بالأنظمة العربية التابعة، واستخدم المال أداة للضغط وشراء الأتباع، وامتد تسلُّطه إلى فصائل المقاومة الأخرى وامتصاص عناصر منها بالإغراءات المالية وغيرها، وهذا التيار ظل مائعاً في الممارسة تسوده النفعية والانتهازية وعدم الصدق في المواقف الوطنية.. ثم تيار الكوادر الوسطى الذي كان يطالب بقيادة جماعية ونبذ التسلط والهيمنة والسير وفق الثوابت..الخ)). فمعروفٌ أن فتح لم تتعرض للانقسامات إلا في فترة متأخرة، وأنه لم يقم فيها دور مميز للكوادر الوسطية، التي جرى إغراقها بالعصبوية التنظيمية ذات الطابع القبلي.
مثل هذا الأمر من عدم الوضوح يبرز فيما يخلص له الكتاب من دروس، ذلك أنه بدلاً من البناء على ما هو إيجابي في مسار الثورة بقيادة منظمة التحرير، ومن التوقف عند تجربة الانتفاضات الشعبية التي أعادت للجماهير الفلسطينية موقعها الحقيقي في النضال التحرري، يقدم الكتاب نموذجاً جاهزاً من خارج الواقع الفلسطيني وهو النموذج الذي أنجزه حزب الله ضمن ظروف خاصة بالساحة اللبنانية.وقد كان على الكاتب، بدل عرضه لعوامل القوَّة لدى حزب الله التي مكنته من إلحاق هزيمتين مدويتين بالكيان الصهيوني، أن يعرض لنا، إمكانات الإفادة من هذه التجربة النضالية ضمن معطيات الواقع الفلسطيني، وأن يتوقف على سبيل المثال، عند حدث مفصلي في مسار النضال التحرري للشعب الفلسطيني ممثلاً في إخراج قوات الاحتلال من غزة وكنس مستوطناته، وعند آفاق تطوير هذا الإنجاز وما يتطلبه ذلك من إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على قاعدة هدف التحرير ومن خلال هزيمة نهج التسوية والتعويل على مفاوضات عبثية تجري في ظروف اختلال ميزان القوة لصالح العدو.
إننا إذ نقيِّم في الختام، ما قدمه هذا الكاتب الفلسطيني من قراءَة نقدية لمسار الثورة الفلسطينية المعاصرة في إطار منظمة التحرير، فإننا نرى بأن هذه المهمة ما زالت مطروحة على من شاركوا في هذه الثورة في مواقع المسؤولية، وعلى الباحثين والمفكرين الثوريين من أبناء فلسطين، الذين تغمرهم الثقة بمستقبل نضال هذا الشعب ونضال الأمة العربية، وبالإمكانية الموضوعية لإلحاق الهزيمة بالمشروع الاستعماري الصهيوني في ظل بروز مقاومة عربية أكثر جديَّة وأعمق استيعاباً لحقيقة الصَّراع مع هذا المشروع، وكذلك مع تكشف حدود القوَّة لدى مراكز هذا المشروع.
المصدر:كنعان النشرة الألكترونية
عدد 17 سبتمبر (أيلول) 2008