من الناحية الشاعرية، ليس ثمة أجمل من
كلمة السلام لمناضل حقوق الإنسان. ولكن
الحركة الحقوقية على الصعيد العالمي لم
تعد تتعامل مع الكلمة بشكل شاعري أو
بالنوايا الطيبة.
فكما قال فريدريك إنجلز ضاحكا من أحد
المدافعين عن طيبة القصد، "النوايا الطيبة
قد تؤدي إلى جهنم". من هنا نجد اليوم أهم
منظري الحركة الحقوق إنسانية والفكر
النقدي يطرحون مفهوم السلام ضمن نظرة
شاملة تجمع العدالة والسلام والأمن
الإنساني. لهذا يوجد تنسيق عالمي اسمه (لا
سلام بدون عدالة)، ومنظمة لإصلاح الأمم
المتحدة اسمها منتدى السياسات الشاملة
GPF،
ومنظمات تعمل على البعد المتعدد الأسباب
للصراع وضرورة بعدٍ متعدد الميادين
لمواجهة الصراعات.
تردنا من وكالات الأنباء أخبار عن
المباحثات غير المباشرة بين الحكومتين
السورية والإسرائيلية بوساطة تركية. وحتى
لا يتصور البعض أن غاية هذه الأسطر قرع
طبول الحرب، أسارع للقول أنه من وجهة
نظري، سورية والمنطقة لم تعد تحتمل "حالة
الحرب بدون حرب". فهي حالة عدم استقرار
نفسية مجتمعية، وعامل زعزعة اقتصادي
تنموي، وحالة استثنائية تبرر كل أشكال
القمع. فسورية تعيش في قوانين الطوارئ منذ
1963 باسم الصراع العربي الإسرائيلي. 45
سنة من القوانين الاستثنائية مقابل أقل من
45 يوم من حالة الحرب الفعلية. كما وأن
الجبهة السورية أهدأ من المصرية. لذا هناك
مشكلة.
المتابع لخيار التسوية منذ مدريد، يلاحظ
أن الحكومات السورية المتعاقبة كان لها
خيار واحد لم يتغير : هو السلام الكامل
بين البلدين مقابل العودة لحدود 1967. في
حين أن السياسة الإسرائيلية كانت تتراقص
على انغام صعود التطرف اليميني في الحياة
السياسية، وتفوق الجيش الإسرائيلي عسكريا،
وأخيرا شبه الإندماج بين السياستين
الإسرائيلية والأمريكية في ظل إدارة بوش.
في الدولة العبرية، هناك من بدأ يدرك أن
السياسة الإسرائيلية قامت منذ ستين عاما
على التحالفات الغربية لدفع خطر دول
الجوار. الأمر الذي لم يحقق السلام مع
أحد، وبقيت اتفاقياته على الورق يحترمها
المسئول السياسي في مصر والأردن الخ.
في الجانب الإسرائيلي، لا بد من تغيير
جراحي في نمط التفكير القائم على أن بقاء
الآخر ضعيفا وهزيلا وتحت السيطرة يسمح
لهذا الكيان بالحياة. وأن التفوق لدولة هو
فرصة تاريخية لا تتكرر كل يوم، على
الإسرائيليين استثمارها بأكبر قدر ممكن من
المكاسب وبأقل قدر من التنازلات. هكذا نمط
تفكير سيوصل، بتوافق مختصين أصدقاء للكيان
العبري، إلى أحد أمرين على الأغلب : إما
الاستمرار في خيار العسكرة الدائمة
المسدودة الأفق، أو ولادة تيار يدافع عن
استراتيجية جديدة لمفهوم الجوار الجغرافي.
نعلم أن تقدم الدول وأمنها ودمقرطتها
ترتبط عضويا بالعلاقة مع الجوار. فالجار
قبل الدار في المنطق الشعبي وفي النظريات
السياسية الحديثة. وما لم يستوعب
الإسرائيليون هذه الفكرة البسيطة، فإن
وجودهم هو الذي سيكون على كف عفريت، وليس
وجود أكثر من مليار مسلم!
بدأت المباحثات السورية- الإسرائيلية غير
المباشرة في مرحلة انتقالية بكل معاني
الكلمة. بين مرحلة بوش-شيني وما بعدها،
بين مرحلة أولمرت ومن يليه، بين دور
إقليمي هام لتركيا بفضل سياسة أردوغان
ومشكلات داخلية عند الوسيط الأساسي. كذلك
بين وجهين غربيين للتعامل مع السلطة
السورية: الأول اعتبارها غير مرغوب بها،
والثاني قبولها في لعبة الأمم الإقليمية.
حالة الانتقال هذه تجعلنا نعتقد بأن
أولمرت فتح الملف السوري لتخفيف ضغط الملف
الداخلي، والحكومة السورية تخفف الخسائر
في الوقت الضائع بانتظار 2009.
لكن كيف يمكن الخوض في مباحثات تسوية
سياسية (وليس سلام، لأن السلام كلمة كبيرة
بالنظر لما يحدث وحدث في المنطقة حتى
الآن) بين السوريين والإسرائيليين، دون
إعادة النظر في سياسة السلطات السورية
الداخلية بكل معاني الكلمة؟ سورية اليوم
أضعف عسكريا، وليست بأحسن حالاتها مع
النظامين السعودي والمصري. وهي تحاول
بصعوبة تمزيق الحصار الأوربي المفروض
عليها منذ أزمة الحريري.. مصادر قوتها
تكمن في الجبهة الممانعة لأية تسوية
(المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين
والتحالف مع إيران). في حين أن الجبهة
الداخلية ضعيفة سياسيا وقوية أمنيا. لكن
السيطرة الأمنية شئ، والقوة السياسية
الداخلية شئ آخر.
جوزف ستالين خاض مناقشات يالطا بوضع أمني
وحزبي قوي، وملايين دفعوا حياتهم في الحرب
العالمية الثانية، مع ذلك نجاحه كان
محدودا. وفشل أنور السادات في كامب دافيد
في تحويل مباحثاته لقضية سلام، لأنه فرضها
من فوق على المجتمع المصري وعلى المنطقة.
في حين نجح الحسن الثاني في تغيير مسار
الوضع في قضية الصحراء، لأنه لجأ لسياسة
انفتاح مختلفة راديكاليا على المعارضة
السياسية المغربية.
كيف يمكن الحديث عن مباحثات جدية وفي نفس
اليوم، ويالها من مصادفة، يقف أمام محكمة
الجنايات الأولى في دمشق 12 ناشطة وناشطا
سياسيا ومدنيا؟ هؤلاء يعرفهم الناس
بأقلامهم المتميزة ونشاطهم السلمي ودورهم
الاجتماعي الثقافي الخاص ومواقفهم
الوطنية. كيف بالإمكان ضرب الجبهة
الداخلية بخنجر الاعتقال التعسفي وتكميم
الأفواه ورصد الكلمة الحرة وملاحقة
المدافعين عن الحريات والكرامة الإنسانية،
ثم الحديث عن مواجهة الجبهة الإسرائيلية
بشكل جدي؟
يمكن لسورية أن تكون بوضع أقوى بكثير في
أية تسوية إذا عززت جبهتها الداخلية
بإصلاحات ضرورية وعاجلة، تشمل عفوا
تشريعيا عاما وإصلاحات دستورية تخرج
الدستور الحالي من قمقم الحزب الواحد
والاستفتاء الرئاسي. هذا الأمر يفتح الباب
لقانون أحزاب وجمعيات عصري، وقانون صحافة
غير متخلف ومتسلط، وحوار وطني واسع حول
إشكاليات وتحديات التسوية السياسية مع
الدولة العبرية.
------------------------------
مفكر عربي يعيش في باريس
|