بيروت في: 10/8/2008
"لا توقفوني من الموت، لا ترجعوني إلى
نجمة من تراب"
محمود درويش في ديوان "أرى ما أريد" عام
1992
وأخيراً أنهى محمود درويش "محادثاته"
الطويلة مع الموت، وقد احتلت حيّزاً
كبيراً من قصائده، لاسيّما الأخيرة منها،
بعد أن خاض مع "الغياب" جولات دخل في
بعضها فضاء الموت "الأبيض" ليعود ويخبر
عشاقه، ولا أقول قراءه، بتجربة فريدة مع
موت اعتبره درويش مساحته الشعرية الجديدة
والفسيحة، بعد أن امتلأ شعره بالحياة أو
امتلأت الحياة بشعره.
كان محمود درويش شاعراً وناثراً، مقاوماً
صاحب رؤية، وسياسياً ذا مواقف، مفكراً
بلغة الشعر، وفيلسوفاً بأناقة الأدب،
موهوباً وواهباً، جدلياً في شعره، وشاعراً
في جدله، حراً في سجونه المتكررة وسجيناً
في منافيه المتعددة، لذلك كان شعره مليئاً
بصور المتقصي بدقة، وكانت قصائده سرداً
لتفاصيل لا يسكن فيها الشيطان، ولا يصيب
سامعها الملل.
حمل فلسطين في وجدانه وعقله، كما حملته
فلسطين في قلب جراحها وآلامها، فخاف العدو
من قصائده أكثر من خوفه رصاص المقاومين
وعبواتهم وصواريخهم، فمنع تدريسها في
مدارسه والجامعات، لأنه أدرك أن هذه
القصائد تتفجر مراراً وتكراراً، فهي حافز
للحرية عند طالبها، وهي مثيرة للشك والقلق
في قلوب أعدائها وعقولهم.
22 لغة احتضنت دوواينه وكتبه العديدة،
فتنقل شاعر فلسطين بين الوطنية والإنسانية
بسلاسة لا افتعال معها، وببساطة لا ترويج
فيها، وبثبات على الحقوق لا تنازل فيه،
وبصمود على القيم لا تساهل إزاءه.
كان محمود درويش مشروعاً ثقافياً
فلسطينياً وعربياً متكاملاً، بل كانت
حياته وكتاباته وقصائده والتزامه العميق
مجرد مداميك متينة في بناء ذلك المشروع
الذي عالج دون تكلف إشكالية العلاقة بين
الحرية والالتزام، بين الحداثة
والكلاسيكية، بين اللغة "الثقيلة"
والتعابير الشفافة، فتناول أكثر التعقيدات
بأبسط الكلمات، وصوّر اليوميّ من تفاصيل
الحياة بأرشق الصيغ وأبهى الحلل، فكان
خزاناً رائعاً للتراث، وذاكرة أصيلة
للشعب، ومستودع الآلام والآمال، ومنارة
للسفن التائهة، ووقوداً لنضال شعب لا يعرف
التعب.
كان الفراشة في تنقله بين أزهار الحياة،
وكان "الدوري الأزرق" في خفقان جناحيه في
سماء رآها "مرآة للبحر"، وكان دائماً
"الحصان" الذي أحب "غزالة" وأخذ يجري
"وحيداً" في سباق لا نهاية له إلا في
فلسطين، وقد كانت بالنسبة إليه "أم
البدايات وأم النهايات"، حتى "البعوضة"
التي لم يعرف اسماً لذكرها، كانت له معها
حكاية تلخص حكاية كل شعب مع مصاصي الدماء.
أما الحمامة فسفيرته التي تطير "بروميته"
إلى حلب لتحمل "سلام الندى لابن عمه أبي
فراس الحمداني شريكه في الشعر والسجن
معاً.
كانت له وصاياه الجميلة، فدعا إلى شكر
"الهوية" التي كان بها يعتز، ودعا إلى شكر
من يتذكر "حرفاً من اسمه أو اسم بلاده"،
ودعا من "يعد فطوره أن لا ينسى قوت
الحمام"، ودعا من يعد للحرب أن "لا ينسى
من يطلبون السلام"، ودعا من كان له بيت أن
"لا ينسى شعب الخيام".
كانت الوطنية حاضرة في قصائده دون
استعراض، قوية دون إقحام، بل، بشكل خاص،
دون مباشرة تجافي الإبداع، أو وطأة تثقل
الكلمات، بل أحياناً تظن وأنت تقرأ قصيدة
من قصائده أنه ربما "تعب" من الشعر الوطني
أو فرّ منه، فإذ به يفاجئك وهو غارق في
شعره الحياتي أو الفلسفي أو الإنساني أو
التأملي بدفق من روح، بل، من ريح، وطنية
وقومية عارمة.
في مسيرته الشعرية الطويلة المميّزة مذ
كان طالباً ثانوياً في الجديدة وعين الأسد
وقد هجّر إليهما داخل فلسطين المحتلة عام
1948، وقبل أن يستقر في حيفا، "الشديدة
الحضور في وجدانه"، تلمس تطوراً كبيراً
وخطيراً، في الشكل والأسلوب وفي تناول
الأشياء، لكنك تشعر دائماً أن خيطاً
"متيناً" يربط بين كل مراحل شعره الذي لم
"يسجل" له فقط أنه بقي "عربياً" من
فلسطين، بل سجل له أيضاً أنه عربي يعرف
كيف يضيف لعروبته معان جميلة عميقة، وانه
فلسطيني مسكون بالعطاء الزاهي لفلسطينه.
لقد اضطرته ظروفه إلى "السفر" المؤقت من
فلسطين سنوات تفوق نصف عمره القصير، لكن
وطنه لم يتحوّل أبداً إلى "حقيبة" بل بقي
دائماً البوصلة التي بها يهتدي، والقبلة
التي باتجاهها يسجد مصلياً.
لبنان الذي عاش فيه محمود درويش سنوات
طويلة، عاش هو الآخر في قلب درويش وعقله
ووجدانه تاركاً آثاراً عميقة تماماً كما
ترك الشاعر الكبير في لبنان من قصائده،
وصداقاته، بصمات كثيراً ما غناها
اللبنانيون، وذكريات جميلة كثيراً ما
اغتنى بها شعب لبنان.
فكان صنوبرة في "الكرمل"، وقد حمل معه
الجبل الذي عاش في كنفه في فلسطين إلى
مجلة عاشت والقضية في كنفه في بيروت
وباريس، ولم تنسى هذه "الصنوبرة"
الحيفاوية أن تنادي دوماً "أرزة في جبل
لبنان : مساء الخير"، كما جاء في آخر
أمسياته في عمان.
لقد اكتشف محمود درويش في رحلته القصيرة
ولكن الممتلئة أن "الشعر لم يكن بريئاً"،
لكننا اكتشفنا مع محمود درويش بصدقه
ورهافة حسّه كيف يكون الشاعر بريئاً، بل
تأكدنا معه أن "سيد الكلمات هو سيد المكان
أيضاً".
فيا حبيب شعبك وأمتك لم نستطع فعلاً أن
"نوقفك من الموت" والموت حق وقضاء يأمر به
الله، ولكن بالتأكيد لن نعيدك نجمة في
التراب، وأنت الذي جعلت من كل حبّة تراب
في وطنك نجمة تضيء في سماء الحرية.
ونعدك أن لا نضع – كما أردت – على قبرك
"البنفسج لأنه زهر المحبطين يذّكر الموتى
بموت الحب قبل أوانه"، بل سنضع على
تابوتك، كما طلبت "سبع سنابل خضراء إن
وجدت، وبعض شقائق النعمان إن وجدت"، وهل
من اخضرار يفوق اخضرار شجرة زيتون من
"نعلين" التي تقاوم منذ أشهر، كغيرها من
قرى فلسطين ومدنها، بصمود أسطوري "جراد
الجدار" الذي يلتهم الأخضر في فلسطين
والأكثر اخضراراً، وهل من احمرار يعادل
احمرار دم شهداء وطنك وأمتك وقد نثروه فوق
كل الهضاب والتلال والسهول يرسمون به
خارطة طريق مختلفة، خارطة للاستقلال
والعودة والقدس.
|