في التاريخ شعوب كثيرة اكتشفت نفسها من
خلال اسطورة، رواية، ديوان شعر، تمثال، أو
لوحة، او حتى ايقاع موسيقي، تحول الى لغة
محكية، الى ثقافة متجددة، ثم الى حضارة لا
تزال حية الى اليوم... لأنها كانت اقوى من
بقية اشكال الهوية الوطنية وأسلحتها.
في التاريخ العربي والاسلامي، دول عديدة
قامت على النص القرآني الاول، الذي هو
اشبه بالشعر، وعلى دواوين وقصائد، كان
بعضها بمثابة البيان الرقم واحد، وكان
بعضها الآخر بمثابة النعي الرسمي الاخير.
لكنها كلها كانت، وحتى ما جاء منها من
الحقبة الجاهلية، تعلن ولادة امة، بكل ما
للكلمة من معنى.
كان الشعر العربي على الدوام وثيقة
الميلاد الوحيدة المعترف بها، وسجل
اليوميات الرسمية للدولة واحوالها
السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان
الشاعر مثل الوزير الاول الذي يضبط امور
الخلافة ورئيس الاركان الذي يعبئ الجيوش
والبرلمان الذي يمارس المراقبة والمحاسبة،
والموسيقي الذي يعزف لحن الموت في وداع
الخليفة، وفي رثائه الخالد على مر العصور.
لم يخرج محمود درويش عن هذا التقليد
العربي العريق. لعله كان احد ابرز الشعراء
العرب الذين احترموه وحافظوا عليه، برغم
انه لم يتح له ان يكون شاعر بلاط او دولة
او حتى ثورة، بل ظل شاعر قبيلة عربية
خانها الدهر، فلم يتركها يوما من حياته،
ورافقها حتى اللحظة الاخيرة وهي تهيم في
البراري بحثا عن وطن وعن هوية.
كانت اعوامه الـ٦٧ عمرا كاملا لفلسطين،
وشاهدا على ترحالها الطويل: من الاحتلال
الى المنفى الى البندقية الى الوثيقة الى
التوقيع.. ثم الى ما يشبه العودة التي
تعادل الانكسار. سبعة عقود كانت مثبتة
بالوقائع والصور والالوان في دواوينه
وقصائده التي تتنقل في الشتات مثل نص
تأسيسي للوعي الوطني الفلسطيني في القرن
العشرين.
كانت الرحلة الشخصية شاقة جدا، لكنها كانت
تختزل مسيرة القبيلة كلها : من الداخل
كانت البداية، بالفكرة الشيوعية التي بدت
لفترة ملاذ القضية وسلاحها الوحيد، الى
القاهرة التي صارت محركها العربي الابرز،
الى بيروت التي باتت ملجأها العلني، الى
عمان التي كانت محطتها الالزامية، ثم الى
عواصم بعيدة عن حدود الوطن، قبل العودة
بشروط صعبة الى العاصمة الافتراضية رام
الله.. قبل النهاية المعبرة، في احد
مستشفيات اميركا.
كان لا بد من ان تنتهي الرحلة على هذا
النحو المفجع، بعدما شعر للمرة الاولى
بالغربة عن القبيلة التي حماها برموش
عينيه وروح قصائده، عندما استعادت اسوأ ما
في التاريخ العربي واكثره عيبا، ولجأت الى
الغزو والحرق والسبي في مضارب الخيم نفسها
التي كانت تشكل مشروعا للدولة، وقاعدة
للوطن، ومصدرا للشعر.. عندها اعلن الشاعر
ان كل شيء قد ضاع، وقرر ان يسير بسرعة
اكبر نحو الموت الذي كان ينتظره منذ عشرين
عاما.
كان محمود درويش هوية فلسطينية ثانية،
صارية يرفع عليها العلم الفلسطيني، نشيدا
وطنيا يغنَّى كل صباح. لن تجد القبيلة من
بعده من يكتب اعلان الاستقلال.. وإذا وُجد
فلن يكون من هواة الشعر ولا من غواة الحب.
المصدر جريدة السفير2008-08-11
|