Arab Commission for Human Rights
5, rue Gambetta
92240-Malakoff- France
Tel 0033140921588 Fax 0033146541913
e. mail achr@noos.fr
International NGO in special Consultative Status with
the Economic and Social Council of the United Nations
وماذا بعد جلب الرؤساء
للمحاكم الدولية؟ - صلاح
الدين حافظ
2008-07-29
لا بد أن زلزالا قد ضرب أركان قصور
الحكام، وهز عروش السلطة بدرجة لم تحدث من
قبل، بعد أن أصبح جلب رؤساء الدول وحكامها
الى ساحات المحاكم الدولية، أمرا مقررا،
لمحاسبتهم ومحاكماتهم على أخطائهم
وتجاوزاتهم في حق شعوبهم!
طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية
الدولية »لويس مارينو اوكامبو« الأرجنتيني
الجنسية الدولي المنصب، بضبط الرئيس
السوداني عمر البشير واعتقاله، وهو الذي
يتهمه بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد
الانسانية وجرائم حرب في دارفور، جاء
سابقة هي الأولى من نوعها في ممارسة
الذراع القضائية الدولية »المحكمة
الجنائية الدولية« مهماتها الصعبة
والجديدة.
وبالتالي، فإن مضت الأمور كما يحب ويريد
السيد اوكامبو ومن هم خلفه، فإن هذه
الذراع ستطال رؤساء ورؤساء كثيرين، خصوصا
في عالمنا، حيث نظم الحكم وكبار المسؤولين
متهمون على الدوام بالفساد والاستبداد،
وارتكاب الفظائع وممارسة الانتهاكات في حق
شعوبهم، من الانفراد بالسلطة الى الانفراد
بالثروة، ومن المبالغة في القهر الى توسيع
دوائر الفقر.
باسم الدفاع عن حقوق الشعوب المقهورة،
وتحت شعارات إنسانية عديدة، خصوصا حق
التدخل الانساني، أصبح لمجلس الأمن مثلا
أن يدفع للمحكمة الجنائية الدولية، بقضايا
تمس نزاهة الحكم في هذا البلد أو ذاك،
طالبا منها محاكمة المسؤولين والقبض عليهم
وجلبهم الى ساحة المحكمة، كاسرا بذلك عرفا
وقانونا وتقليدا سرى على مدى الأزمان، وهو
حصانة الرؤساء والحكام، هؤلاء لم يعد لهم
إذاً حصانة، ولم تعد للحصانة قيمة، ولن
تشكل بعد الآن مانعا من المحاكمات
الدولية.
وهنا يقفز السؤال عن سيادة الدول، تماما
مثل حصانة الرؤساء والحكام، فقد تعرضت هذه
السيادة للتآكل في ظل العولمة وضغوط
الهيمنة التي تمارسها القوى الكبرى، خصوصا
الولايات المتحدة، أكثر دول العالم
انتهاكا لسيادة غيرها.
ومن عجب أن أميركا هذه التي حرضت على قرار
المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية
باعتقال رئيس السودان، هي نفسها التي رفضت
الانضمام للنظام الأساسي لهذه المحكمة
»اتفاقية روما ١٩٩٨« حتى لا تخضع مع
مواطنيها لأي محاسبة أمام المحكمة ذاتها،
وهي ايضا صاحبة السجل الأكثر سوادا في
ارتكاب فظائع وجرائم إبادة وجرائم حرب ضد
الانسانية، وانظر الى ما فعلته وتفعله في
أفغانستان والعراق، وفي سجون باغرام وأبو
غريب وغوانتنامو... من دون أدنى محاسبة،
ناهيك عن أي محاكمة، وبالطبع لا ينافسها
في هذا السجل الأسوأ والأسود إلا اسرائيل
التي ترتكب كل جرائم الحرب والابادة ضد
الشعب الفلسطيني على مرأى العالم
ومسمعه... الصامت المذعور!
لكن ارتكاب أميركا مثل هذه الجرائم
والفظائع لا يبرر لغيرها من الدول ممارسة
الخطيئة نفسها، وتهربها من المحاسبة
والمحاكمة، بحكم قوتها المنفردة بعالم
اليوم، ولا يعني التغاضي عن محاسبة
ومحاكمة غيرها، فلو ان المحكمة الجنائية
الدولية هذه، التزمت بالقانون والبحث
الأمين والقضاء العادل، لشكلت تحولا هائلا
لمصلحة الشعوب ضد الاستبداد والفساد، لكن
المشكلة تكمن في تسييس هذه المحكمة
وتوجهاتها، وخضوعها غالبا لسياسات الدول
الكبرى.
وحين نعود الى القضية الأساسية التي فتحت
أبواب جهنم، ونعني قضية دارفور السودانية
»قدر مساحة فرنسا«، وطلب اعتقال الرئيس
السوداني البشير المتهم الرئيسي فيها، نجد
صراحة أن الحكومات السودانية المتتالية هي
المسؤول الأول عما آلت اليه هذه المأساة
الانسانية، التي أصبح العالم يرفعها على
رأسه باكيا على المذابح نائحا على
الفظائع.
لقد أهملت الحكومات السودانية، وخصوصا
حكومة الإنقاذ الحالية التي يقودها الرئيس
البشير، منذ استيلائه على السلطة عام
،١٩٨٩ الأقاليم السودانية، جنوبا وشرقا
وغربا، حتى ترعرع التمرد وزادت حدة الغضب
وصولا للحرب الأهلية، التي شهدنا تجلياتها
هنا وهناك.
وبينما تفرغت الخرطوم خلال السنوات
الأخيرة للتوصل الى اتفاق تسوية مع الحركة
الشعبية في الجنوب »اتفاق نيفاشا«، كانت
دارفور في الغرب قد انفجرت وازدحمت بأكثر
من ٣٠ حركة تمرد، مثلما تزاحمت وتكالبت
عليها الطيور الجارحة. من ممثلي الدول
والأجهزة الاستخبارية والمنظمات التبشيرية
والهيئات التجسسية، والمنظمات الانسانية
من كل لون وشكل، تعمل وتخطط وتنفذ وتسلح
وتدرب وتمول في غيبة الحكومة السودانية،
التي ردت بشكل حاد حين اكتشفت أن دارفور
تسير على خطى الجنوب، تمردا وارتباطا بقوى
إقليمية ودولية، وتوجها نحو الانفصال...
وبصرف النظر عن حكاوي صراع القبائل
الافريقية والعربية على الرعي والكلأ
والماء، فإن الحقيقة أن التدهور قد بلغ
مداه، واستخدام السلاح والعنف زاد، وصولا
لارتكاب مذابح وفظائع متبادلة بين القوات
الحكومية والميليشيات المؤيدة مثل »الجنجويد«،
وبين فصائل المتمردين، لكن التركيز
الاعلامي السياسي الدولي، وخصوصا الذي
مارسته بعض المنظمات الغربية، كان على ما
ارتكبته القوات الحكومية فقط، مع تجاهل ما
ارتكبه الطرف الآخر...
ولو كانت حكومة الخرطوم قد اهتمت بما جاء
في تقرير لجنة التحقيق الدولية عام ،٢٠٠٥
التي شكلها مجلس الأمن من خمسة أعضاء
بينهم محمد فائق الخبير الدولي في حقوق
الانسان، ونفذت توصياتها، وخصوصا محاسبة
المسؤولين من الفظائع وتحسين أداء القضاء،
والتوافق الوطني على تسوية سياسية لأزمة
دارفور، لما كانت الأمور قد تعقدت ووصلت
الى ما نواجهه اليوم من أول مذكرة اعتقال
لرئيس دولة، لمحاكمته أمام المحكمة
الجنائية الدولية، بتهم فظيعة...
وبصرف النظر عما ستؤول اليه مذكرة اعتقال
الرئيس السوداني وبعض معاونيه، وعن
احتمالات خضوعها للمساومات السياسية، داخل
مجلس الأمن أو خارجه، صاحب الولاية على
شؤون الكون، وطبقا للارادة الاميركية،
بصرف النظر عن كل ذلك، فإن السابقة قد
أقرت والباب اصبح مفتوحا لتوجيه الاتهام
من محكمة دولية، صدقت عليها ١٠٦ دول، ولم
تصدق عليها أميركا والصين وروسيا والدول
العربية باستثناء الأردن وجيبوتي، محكمة
تتمتع بحق محاسبة الدول والرؤساء والحكام
ومحاكمتهم مهما كانت مكانتهم...
اليوم دارفور وعمر البشير، وغدا لا ندري
من سيطاله سيف الاتهام، وكم هو جاهز لحصد
الرؤوس التي يراد قطفها بتهم مثل
الاستبداد والفساد وارتكاب جرائم ضد
الانسانية... وقد نجحت الحركة الشعبية
لحقوق الانسان عبر العالم، في تحريك ملف
نظم الحكم التي تنتهك الحقوق وتصادر
الحريات وتقهر شعوبها، مثلما نجحت في دعم
المحكمة الجنائية الدولية وتأييدها، كساحة
لمحاكمة مثل هذه النظم الاستبدادية.
ولن نفاجأ غدا بالمحكمة الجنائية الدولية
هذه، وبضغط قوى من حركة حقوق الانسان،
وربما بضغط من هذه الدولة الكبرى أو تلك،
تصدر قرار اتهام وأمر جلب لهذا الرئيس أو
لذاك الحاكم لمحاكمته، بتهمة قهر شعبه
ومصادرة حرياته وسلب ثرواته وانفراده
بالسلطة وسجن معارضيه واضطهاد أقلياته،
دون النظر كما قلنا، الى مبادئ سيادة
الدولة وحصانة الرؤساء والحكام... تلك
التي سقطت!!
نعرف أن تسييس أعمال المحكمة الجنائية
الدولية، واستغلالها بعيدا عن معايير
القضاء العادل، أمر قائم، وندرك أن
المعايير المزدوجة أمر شائع في مثل هذه
الأمور خاصة، ونثق بأن دولا كبرى مثل
أميركا تستغل مثل هذه المنابر القانونية
والقضائية، للانتقام من الدول والحكام
المعادين لها، ونعلن أن أزمة دارفور
تحديدا قد لعبت فيها أياد عديدة ونشاطات
خبيثة، حتى أوصلتها الى المحكمة الجنائية
الدولية.
لكننا بالمقابل نعرف أن قضية الحكم الصالح
الرشيد، وتحقيق العدالة واسترجاع الشعوب
ثرواتها وصيانة حقوقها وحرياتها، ضد نظام
القمع والفساد والاستبداد، قضية تستدعي
التعلق بقشة حتى لو كانت المحكمة الدولية،
التي نتصور أنها ستكون رادعا من بين روادع
عديدة، لمن أغوتهم قوة السلطة ونفوذ المال
المنهوب وممارسة قهر شعوبهم بلا قانون أو
شرعية...
ولعل هذا يدفعنا الى إعادة طرح مسألة
المحاسبة والمراقبة والمساءلة، التي ينبغي
أن تمارسها الشعوب الحية الواعية على
حكامها، فإن لم تفعل بجدية، فإن المناخ
الدولي قد أفرز لها من يقوم بهذه المهمة
نيابة عنها، أو حتى غصبا عنها...
هذه متغيرات جديدة صادمة... يراها البعض
اعتداء على سيادة الدولة وحصانة الحاكم،
ونراها نافذة جديدة لردع من لم تردعه
قاعدة العدل أساس الملك، فاعدلوا تعتدلوا
يا أولي الألباب!!
(*) كاتب مصري
(المصدر: صحيفة "السفير" (يومية – بيروت)
الصادرة يوم 23 جويلية 2008)