بعد تراجع فكرة الحوار الأوروبي العربي
وقبل أن تشيع اتفاقية برشلونة في جنازة
رسمية، وفي وقت أصبح الحديث في مشروع
الشرق الأوسط، كبيرا أو صغيرا، أسوأ سمعة
من التطبيع مع إسرائيل، وصارت منتديات
المستقبل جزءا من الماضي، ومع المحاولات
المستديمة لانتزاع مناطق النفوذ الأوربية
من قبل الولايات المتحدة، جاء مشروع
الوحدة من أجل المتوسط. جاء ساركوزيا بكل
معنى الكلمة وبدون أدلجة منمقة أو دراسات
معمقة، أي قائما على مبدأ الرئيس
الفرنسي: "أضرب فإن لم تصب فاهرب". وفي
حين نجح العملاق الألماني في استبدال
الشطر الأوربي من المتوسط بالاتحاد
الأوربي، لم تستطع الصعلكة السياسية
العربية من طرح عالم عربي وثقافة عربية
و/أو إسلامية وتكامل جغرافي وحضاري جنوب
المتوسط، لا يقل عنه في شماله، إلا بما
فرضت السلطات التسلطية من حدود وحالات
قطيعة بين الأقطار المتجاورة والمشتركة في
أساسيات الحياة.
حضر إذن أربعون زعيم دولة من فضاء يضم
قرابة 750 مليون إنسان، وفي رأس كل من
الحضور همومه الذاتية. وحتى يكمل الرئيس
الفرنسي المسرحية، فقد اختار قاعة "القصر
الكبير" لعقد المؤتمر، وهو قصر مخصص عادة
للمعارض والحفلات الكبيرة.
أولى نقاط ضعف هذا المشروع اعتماده على
وجود دول عربية واقعة على البحر المتوسط،
أو ليس من المصلحة إبعادها. أي أنه يستثني
عددا هاما من الدول العربية المؤثرة في
الأمن العربي والأمن المتوسطي كلاهما. وهي
مسألة ذات نتائج هامة، ليس فقط على الهوية
الثقافية السياسية للدول العربية، بل أيضا
على مستقبل العلاقات العربية-العربية في
الاقتصاد والمال والتجارة وقضايا الأمن.
النقطة الثانية هي أنه يفرض التعامل مع
إسرائيل كطرف أساسي، إن لم نقل مفضل، قبل
أن تلتزم هذه الدولة بالقرارات الكبرى
المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني والأراضي
العربية المحتلة. لذا لم نفاجأ بغياب كلمة
دولة فلسطينية من قرارات المؤتمر. أما
النقطة الثالثة، وهي الأنكد، فهي أن
الاتحاد من أجل المتوسط جاء في ظل الحرب
على الإرهاب وما حملته من عولمة للحالة
الاستثنائية واستشراس في إعادة تقسيم
مناطق النفوذ على الصعيد العالمي. من هنا
التركيز على الجانب الاقتصادي وثلاثية
البؤس (قوانين مناهضة الإرهاب، مكافحة
الهجرة السرية، والاتفاقيات الأمنية
الثنائية)، في إزاحة علنية غير خجولة،
ودون الشعور بأية عقدة ذنب، لملف
الديمقراطية وحقوق الإنسان. جرى تفضيل
صريح لحركة السلعة على حركة البشر، وأمن
الدولة على أمن المواطن، بل وتنظيف البحر
على تنظيف السجون!
عوضا عن أن تكون دول المتوسط العربية جسرا
للدول العربية غير المتوسطية، يراد منها
إعطاء الأولوية لهذا المركب الجديد على
جملة ما نجحت أو فشلت آليات الجامعة
العربية في تحقيقه. وعوضا عن أن يكون شمال
إفريقيا المعبر الإنساني بين حضارات
إفريقية وعربية وأوربية، تصبح مهمته حماية
أوربة من الهجرة السوداء. أما الطلب
التركي للانتساب للاتحاد الأوربي فيمكن
وضعه على الرف إلى أجل غير مسمى.
في 27-28 نوفمبر 1995 عقد مؤتمر برشلونة
بحضور 26 دولة ونجم عنه إعلان برشلونة
الذي يتكون من ثلاثة أقسام. الأول: خاص
بالحوار السياسي والأمن، الثاني: بالشراكة
الاقتصادية والمالية، والثالث: يتناول
المجالات الاجتماعية والثقافية
والإنسانية. ولو تتبعنا الحقوق الإنسانية
في الإعلان للاحظنا أن القسم الأول يتعرض
لهذه الحقوق في أكثر من مكان. وكان يؤكد
على التزام الدول الموقعة بالعمل وفق
ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي
لحقوق الإنسان وجملة الالتزامات الدولية
والإقليمية التي أقرت بها. كذلك التزامها
احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية
وضمان الممارسة الشرعية لهذه الحقوق
والحريات بما فيه حرية التعبير، حرية
التجمع السلمي وحرية الفكر والدين
والضمير، فرديا وجماعيا، بدون أي تمييز
على أساس العرق أو الجنسية أو اللغة أو
الدين أو الجنس. مع التزام بأن يشمل
الحوار بين الأطراف الموقعة القضايا
المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية
والعنصرية وكره الأجانب. وقد التزمت الدول
الموقعة يومذاك احترام الاختلاف والتعددية
في المجتمع، وتشجيع التسامح بين مختلف
المجموعات والنضال ضد تظاهرات العنصرية
وغياب التسامح وكره الأجانب. مع التنويه
إلى أهمية تأهيل مناسب في حقوق الإنسان
والحريات الأساسية. وأخيرا احترام
المساواة في حقوق الشعوب وحق كل منها في
تقرير مصيره. تناول القسم الاقتصادي
والمالي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والحق في التنمية مؤكدا على دور المرأة في
التنمية. أما القسم الاجتماعي والثقافي
والإنساني فقد جاء فيه أن الدول الموقعة
تعترف بأهمية التنمية الاجتماعية التي
يفترض أن تواكب التنمية الاقتصادية مع
إعطاء أهمية خاصة للحقوق الاجتماعية
الأساسية والتي تشمل الحق في التنمية.
كان برنامج العمل يومها غامضا في ملفات
حقوق الإنسان، وكانت قضايا البيئة الوحيدة
التي تم التعرض لها بالاسم وبشكل مقبول
(كما هو الحال اليوم تماما). ورغم عملية
الضخ البشرية والمالية التي رافقت
برشلونة، والتي رفدتها "شبكات" من
المنظمات غير الحكومية مدعومة من الاتحاد
الأوربي تبدأ بالثقافة والموسيقى
المتوسطية وتنتهي بحقوق الإنسان. كانت
النتائج رديئة وهزيلة ومعزولة تماما عن
هموم الناس وحياتهم ومستقبلهم. وقد وقع ما
حذرت منه في القاهرة في 1997 عندما طالبت
بمنح حيز واسع للحقوق الإنسانية يسمح
بانتساب مجتمعي لبرشلونة. كما عدم السقوط
في فخ السياحة المتوسطية تقوم مقام تفعيل
جماعات ضغط قادرة على تحسين أوضاع حقوق
الإنسان والحريات الأساسية على شطري
البحر. للأسف غابت حقوق الناس وبقيت
المساعدات والشبكات والموظفين العاملين في
"مشروع برشلونة". تماما كما نجد حتى اليوم
موظفين أوربيين منتدبين لعملية السلام
العربي الإسرائيلي، ولا يعرف سوى رب
العالمين ما هي مهمتهم بالضبط!
اليوم ومع مبادرة مشهدية تغيب عنها قضايا
حقوق الإنسان والديمقراطية، لا نتصور أن
البشر على ضفاف المتوسط سينتسبون لهوية
جديدة لا تعترف عليهم لا كوطن ولا
كمواطنين.
-------------------------
مفكر عربي يعيش في فرنسا
|