يعرف الوضع السياسي والحقوقي في المغرب
حركة قوية من التجاذبات
تظهر جلية في النقاشات الحادة في بعض
الأحيان، من خلال أفعال وردود أفعال
الفاعلين السياسيين وتعدد التقارير
والتحريات الميدانية والوقفات
الاحتجاجية التي تقوم بها الجمعيات
الحقوقية وغيرها. كل هذا يبشر من دون
شك بهامش من العمل وبدينامية المجتمع
المدني والحركة المستمرة في مواجهة
ما يصفه البعض بالتراجعات الخطيرة التي
يشهدها المغرب حالياً في مجالات
متعددة. فالبلد يظهر وكأنه يعيش على وتيرة
خطوة إلى الأمام وأخرى إلى
الوراء وهذا يعطي الانطباع بأن المغرب لا
يبارح موقعه في الحقلين الحقوقي
والسياسي.
عرف المغرب في التسعينات من القرن الماضي
سلسة من التغييرات
مست جوانب عديدة، اجتماعية وسياسية
وحقوقية، بحيث أن العاهل الراحل الملك
الحسن الثاني بدأ سلسة من اللقاءات مع
قادة سياسيين ستتوج فيما بعد بمجيء
عبدالرحمن اليوسفي، الزعيم السابق لحزب
الاتحاد الاشتراكي إلى رئاسة
الوزراء، وإطلاق سراح عدد من المعتقلين
السياسيين وتوسيع هامش إبداء الرأي
وحرية الصحافة. جاءت هذه التعديلات لتضاف
إلى بعض الإصلاحات القليلة
والمهمة التي عرفها المغرب في نهاية
السبعينات، كتوقيع الدولة على العهد
الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية،
والاعتراف بسجن تازمامارت وإطلاق
سراح بعض معتقلي الرأي في الثمانينات. مع
مجيء حكومة اليوسفي وتولي العاهل
محمد السادس الحكم استمرت وتيرة التغيير
لكن في الاتجاهين السلبي
والإيجابي. حيث أن المغرب أجرى تعديلات
مهمة على قانون المسطرة الجنائية
سنة 2003 ومدونة الأحوال الشخصية سنة
2004، وأزال بعض التحفظات عن عهود
دولية وقعها في الماضي وانضم الى معاهدات
أخرى، لكن في الوقت نفسه مرر
قانون الإرهاب سنة 2003 والذي أفرغ قانون
المسطرة الجنائية من التعديلات
الإيجابية التي طرأت عليه. هذا بالإضافة
إلى الاعتقالات التي طالت العديد
من المنتسبين الى الحركة السلفية بعد
أحداث 2003 المأسوية، والمستمرة من
خلال تفتيت ما يوصف بخلايا إرهابية،
والأحكام التي مست بعضهم كما مست بعض
وسائل الإعلام.
لكن ربما يبقى أهم انجاز حقوقي بامتياز
نتيجة النضال
المستمر لعائلات المعتقلين السياسيين
والمختفين منهم وعمل جل منظمات حقوق
الإنسان بالمغرب، هو تشكيل «هيئة الإنصاف
والمصالحة» بقرار ملكي سنة 2004،
للنظر في الخروقات التي عرفها المغرب منذ
فترة الاستقلال وإلى نهاية 1999،
أي فترة تولي العاهل المغربي السابق زمام
السلطة بعد وفاة والده. تلخصت
مطالب المجتمع المدني والعائلات في الكشف
عن حقيقة ما حصل والتركيز على
عدم افلات مرتكبي تلك الجرائم الشنعاء من
العقاب والتعويض عن الضرر الفردي
والجماعي، واعتذار الدولة، واصلاح
المؤسسات حتى لا يكرر المغرب التجربة
الأليمة. أنجزت اللجنة الكثير بما فيه
تعويض ما يناهز 9 آلاف ضحية، والكشف
عن حقيقة بعض المقابر الجماعية، وإعداد
تقرير يتضمن توصيات للعاهل
المغربي، تشمل إصلاح سلك القضاء والعمل
على فصله عن باقي السلطات وتوفير
الشروط اللازمة لاستقلاليته. كانت الدولة
تحاول جاهدة العمل على الطي
النهائي لملف الانتهاكات الجسيمة، وربما
كان هذا أحد أسباب الفشل الجزئي
الذي طال عمل الهيئة. فالملف لم يعرف أي
تقدم في ما يخص إصلاح القضاء الذي
تضمنته توصيات تقريرها، كما أن قضيتي عدم
الإفلات من العقاب واعتذار
الدولة لم يبت في أي منهما حتى اليوم. كما
يؤخذ على اللجنة عدم استكمال
الكشف عن كل الضحايا. فلا زلنا نسمع اليوم
عن العثور على مقابر جماعية
تعود إلى الثمانينات من القرن الماضي، كما
أن هناك حالات جديدة للاعتقالات
التعسفية والتعذيب، وأحكام منافية
للمعايير الدولية.
هناك من يقول إن
الهدف الملكي من القبول بإنشاء «هيئة
الإنصاف والمصالحة» هو الفصل بين
الفترتين، فترة الحسن الثاني وفترة محمد
السادس، حيث أن الإبن يريد أن
يحدث القطيعة مع حكم وسياسة الوالد في ظل
استمرار النظام ككل. أي أنه يريد
أن يقول، كما قال الأب في حياته «أنا لست
هو»، على أنه، أي الإبن المتقلد
للسلطة ليس الأب، وبالتالي يجب أن لا
يحاسب على ما حصل في تلك الفترة.
فالدولة تحاول إحداث القطيعة داخل
الاستمرارية. وما تسمح به براغماتية
الفترة الراهنة، في نظر الدولة، هو تعويض
الكثير من الضحايا والكشف عن جزء
من الحقيقة وعدم التركيز على العقاب.
لم يكن جل هذا التغيير وليد
الصدفة أو هبة من الدولة، كما يقول رئيس
المنتدى المغربي محمد الصبار،
ولكنه جاء نتيجة عمل دؤوب، بالرغم من كل
المخاطر المحدقة، قامت به عائلات
المعتقلين السياسيين ابتداء من سبعينيات
القرن الماضي، والدور الإيجابي
لبعض البرلمانيين في طرح أسئلة حول
الاعتقال السياسي، في زمن لم يكن يجرؤ
أحد على الوقوف في وجه سياسات الراحل
الحسن الثاني. فالمدخل لهذا التغيير
لم يكن نتيجة إرادة سياسية اقتنعت بفشل
التجربة السالفة، كما يقول البعض،
ولكنه كان نتيجة مطالب حقوقية صرفة
بالدرجة الأولى من خلال عائلات
المعتقلين السياسيين ومنظمات المجتمع
المدني التي كانت تتألف في أغلبها من
معتقلين سياسيين.
لكن وبالرغم من كل هذه الإصلاحات
الإيجابية، يرى بعض
الفاعلين السياسيين وبعض الجمعيات
الحقوقية أنه في حقيقة الأمر لا يزال
هناك استمرار للماضي في الحاضر من خلال
التدهور في المجال الحقوقي الذي
تعرفه البلاد، حيث أن هناك محاكمات مستترة
تحت غطاء انتهاك المقدس،
واستمرار التعذيب وحالات الاعتقالات
التعسفية، وعدم استقلالية القضاء،
وهذا يشكل خطورة على طي ملف الخروقات ودفع
البلد نحو انتقال ديموقراطي
حقيقي يضع قطيعة مع الماضي، ويضعنا أمام
سؤال مهم هو: هل كل الإصلاحات
التي عرفها المغرب جاءت وفق استراتيجية
حقيقية لتمكين البلد من هذه النقلة
النوعية نحو دولة الحق والقانون أم أنها
اصلاحات تجميلية تهتز مع أي زلزال
سياسي يعرفه المغرب أو مع تغير الظروف؟
فقضية الجريدة الأولى مؤخرا والتي
اصدرت المحكمة حكما بوقف نشرها شهادات
شخصيات أدلت بها أمام «هيئة الإنصاف
والمصالحة»، في قضية رفعها رئيس المجلس
الاستشاري لحقوق الإنسان ضدها خير
دليل، كما تقول، على المواقف التي تتحدث
عن انتكاسة حقيقية في المشهد
الحقوقي في المغرب. فالحكم الصادر ضد
الجريدة يفتقد لأي سند قانوني، بحيث
أن الأوراق التي تم نشرها هي جزء من
الأرشيف العام وغير مصنفة كسر من
أسرار الدولة. والأخطر من هذا أن القضية
رفعها أمام القضاء رئيس المجلس
الاستشاري لحقوق الإنسان، والذي يتعين
عليه في المقام الأول ترسيخ مبادئ
حقوق الإنسان وفق المعايير الدولية التي
وقع وصادق عليها المغرب.
يبدو
أن المغرب يحاول من خلال اصلاحات جزئية في
الحقلين السياسي والحقوقي إحداث
نقلة مجتمعية إلى مكان ما، لا أظن أن
الدولة نفسها مدركة له. فبنية النظام
ودستور البلد لا يسمحان بأكثر مما أنجز،
وربما لهذا يستمر الحديث عن
«الانتقال
الديموقراطي» منذ مجيء الملك محمد السادس
إلى سدة الحكم، بدل
الوصول إلى نهاية الطريق. إن النظام
الملكي كما وصفه العاهل المغربي في
خطاب عيد العرش هو: «ملكية فاعلة، لا
تختزل في مفهوم أوسلط منفصلة تنفيذية
أو تشريعية أوقضائية». فالنظام الملكي
المغربي يضع نفسه خارج أو فوق مبدأ
فصل السلطات. وعندما يضع النظام نفسه خارج
هذا الفصل فإنه يصبح خارج أي
محاسبة مجتمعية. مع نظام كهذا يصعب الحديث
عن دولة مؤسسات فعلية، يمكنها
أن تلعب دورا أساسيا في دفع المجتمع إلى
الإمام والتحديث ورفع مستوى
الخطاب السياسي واحترام تعهدات المغرب
للمجتمع الدولي. على الدولة أن تحسم
إن كان هذا انتقالاً ديموقراطياً لا نهاية
له أم ترسيخاً لديموقراطية
حقيقية بما لها وما عليها.
*
باحث مغربي
الحياة - 19/07/08//
|