في كوستاريكا نعم في هذا البلد القصي بل
في تشيلي وفي نيوزيلندا يوجد أساتذة
عراقيون جامعيون وعلماء وخبراء في مجالات
العلوم التطبيقية والنظرية، وما من أحد
يحكي مرارة الاغتراب وما يكتنفها من أبشع
حالات الاستغلال والابتزاز والتصفية! منذ
عقود وهذه النخبة العراقية تتعرض للمطاردة
والتصفية بكل أشكالها فاضطر مئات وآلاف
منهم على ترك بلاد لم يترك قادتها طوال
تلك العقود نهمهم للحروب العبثية ولوضع
العلماء والأساتذة وقودا في محرقة حروبهم
الكارثية...
ومع انتهاء حقبة وبدء أخرى بدأت ماكنة
جهنمية جديدة تطال هؤلاء الأساتذة من
تكنوقراط ومفكرين وعلماء وجاءت يد الإرهاب
الدموي لتقضي على مئات وآلاف منهم فتصفيهم
جسديا في هولوكوست العلماء العراقيين..
ونجا من نجا منهم بحياته ولكنه ما أن وصل
أرض المنفى وبلدان الشتات القصية حتى بدأ
مع معاناةِ لا الاغتراب وحده بل وتصفية
وجوده العلمي حيث بتر علاقته بالبحث
العلمي وقطع علاقته بمراكز البحوث
والجامعات ومنعه من الاشتغال بشهادته أو
توظيفها. وسنة فأخرى تتم تصفية المعارف
التي اكتسبها أو يجري تقادم زمني عليها
فلا تتابع المتغيرات ويكون الاغتيال
العلمي هذه المرة..
يفقد الأستاذ والعالم والمفكر مكانته حيث
يضطر دخول المخيمات ليُعامل معاملة
الأميين والجهلة وهو مضطر لقبول السكن في
أماكن تجمعه في كثير من الأحيان مع سوقة
ومجرمين.. وفي ظل ضغوط نفسية واجتماعية
وفي ظل عامل الزمن وترك العمل الوظيفي
تتداعى معلوماته إلى حيث النسيان تدريجا
حتى يفقد الأساس المعرفي العلمي الذي بناه
بجهود مركبة عظيمة في سنوات لا تقل عن
العقود الثلاثة ليفقد ما بناه كما تتهدم
عمارة ضخمة في ثوان بفعل زلزال أو تخريب
أو عملية إزالة وهدم...
ومما يفعِّل عامل الزمن سلبيا الانقطاع
اضطرارا عن الكتاب وعن كل مصدر للقراءة
والاطلاع في التخصص حيث لا يملك العالم أو
المفكر فرصته لاقتناء الكتاب أو متابعة
مصدر عبر أنترنت لا يملك أساس الوصول إليه
أو الحصول عليه في أغلب الأحيان.. وطبعا
تضطر الغالبية أن تعمل في مجالات لا علاقة
لها بالعمل الجامعي العلمي البحثي لأسباب
تتعلق بشؤون من نمط الإقامة الرسمية وشروط
اللغة في بلدان لا تتحدث الأنجليزية أو
الفرنسية وشروط أسبقية ابن البلد أو اللغة
الأم في ظروف البطالة التي تعانيها تلك
البلدان التي ساقته حالته للوصول إليها...
وحتى عندما حاول عدد من هؤلاء الأساتذة
والعلماء تأسيس مشروعات أكاديمية علمية
بغاية تفعيل جهودهم وخدمة طلبة العلم
وقعوا ضحايا انعدام الدعم لإنشاء
مشروعاتهم أو تعرضوا لحصارات وأشكال
ابتزاز بين السياسي والبيروقراطي الإداري
والمالي حتى أن بعض المشروعات تمّ سرقتها
لتجييرها لمصالح فردية بدل وضعها على
سكتها الطبيعية في خدمة العلماء وبحوثهم
واحتضان جهودهم المعرفية...
وفي مثل هذي الصدمات كانت تتزايد أشكال
حالات الاحباط وينعزل بعض العلماء وينزوي
أساتذة بعيدا عن العمل الجمعي المؤسساتي
المنتظر لإدامة عطائهم الأكاديمي
المتخصص.. هذا بخلاف أنهم جرى قطعهم عن
حاضنتهم الأساس أي الجامعة العراقية ومركز
البحث العلمي الوطني حيث خبراتهم الفعلية
وحيث فعلهم المعرفي ميدانيا وبيئته
الصحيحة للعمل...
وبين رحلة النجاة من التصفية الجسدية و
رحلة النجاة من التصفية العلمية ضاع ويضيع
كثير من النتاج العلمي من بحوث ومؤلفات
ودراسات وقراءات معرفية إن لم تكن تفيد
عراقيا فهي قطعا تفيد إنسانيا ولكن ما من
منفذ للظهور والولادة حتى القيصرية منها
لأنه لا دار نشر ولا مطابع ولا مركز للبحث
العلمي يحتضن هذا الجهد المنقطع المبتور
كرها.. فكل هذه مما يطلب أموالا بدل أن
يمنح الباحث حقه مقابل الطبع وليس من قدر
ولو اليسير من المال لهذي الأمور لأن هذا
العالم الجليل الذي بلغ عقده السابع أو
الثامن ما كان يجزى حقه ليملك عقارا يبيعه
أو حسابا بنكيا يستخدمه وفوق هذا وذاك هو
مازال مسؤولا عن عائلة لم يستطع تلبية
حاجاتها يوم كان يفنى من أجل العلم والوطن
وها هو يفنى مجددا ليلبي متطلبات كفاف
العيش في الغربة وفي أعمال هامشية من
الأعمال المضنية فوق القدرات البدنية
والصحية لهؤلاء!
ولا تقاعد يحظى به هذا الأستاذ بسبب من
مداخلات قانونية وروتين وحسابات لا تنظر
إلى وضعه بقدر ما تنظر إلى أمور أخرى..
ولا مكافأة نهاية خدمة ولا أية محاولة
لإعادة ربط هذا الجمع من الآلاف المؤلفة
من العلماء والمتخصصين بالوطن وكل ما أمام
هذا المستلـَب المُعرَّض للتصفية الرحيمة
(تصفية العقل لا الجسد) هو أما أن يعود
مستشارا لقوى أجنبية تتحكم بالوضع العراقي
أو أن يرتبط بحزب حاكم جديد أو يبقى حيث
تصفيته (الرحيمة) انتظارا لمغادرته الحياة
بصمت رهيب....
الجهلة وسوقة القوم تتصاعد أرصدتهم
البنكية بين نهب وسلب وسرقة وفساد من كل
نوع؛ والعلماء تتنامى الضغوط بحقهم ويتقدم
بهم زمن النسيان والإهمال والإغفال
والاستلاب والمحاصرة والتصفية. والجهلة
يحظون بالمال وغيره بلا قرار سوى قرار
مزيد من الإمعان في الرذيلة والفساد
الأعلى عالميا في وطن النبل والقيم
والمبادئ، فيما العلماء والمفكرون في أفضل
الأحوال يسمعون مكرر الوعود بالتفكير
بدراسة قرار لن يأتي يوم عقد اجتماع يفكر
في قرار لتشكيل لجنة تفكر في جهة يمكنها
أن تضع الموضوع بيد لجنة ثالثة تفرّخ
رابعة أو خامسة لتفكر بدراسة ومماطلة تلو
مماطلة وتسويف يعقب آخر وننتهي بقرار
روتيني يحفظ الموضوع بإعلان عن وفاة آخر
العلماء والأساتذة العراقيين!!
هكذا هي الأحوال؛ مآسِ ِ وتراجيديات وليس
من يفكر بوضع حد لها والمسؤول واضح، إنّه
جهاز الحكومة العراقية ممثلا بوزارة
التعليم العالي وأية جهة تختص بمراكز
البحوث العلمية وبمن يربط الكوادر الوطنية
بهذي الجهات وليس بالضرورة يعيدهم إلى
داخل الوطن حيث لم تصل الظروف لإمكان
استقبالهم وتطمين أمر عودتهم ..
ولكن هذا لا يمنع من وضع خطط مناسبة
برعاية هذه الآلاف من الكوادر وربطها
بجهاز البحث والتأليف ومنح كل بحث أو
مؤلَّف أو كتاب أو دراسة ما يغطي الجهد
العلمي ويسد حاجاته المادية التي لا
يستطيع الباحث تحقيقها في مغتربه الذي
يستغله في أعمال تطحنه نفسيا وتؤذيه
اجتماعيا وتسحق جهوده وتبتر عطاءه فتحرمنا
على أقل تقدير مما صرفه المجتمع على هذه
الكفاءة ليعدها فلا ينتهي بها المطاف إلا
بهذه التصفية البائسة!
أقترح لقاءَ َ يجمع كل اللجان والهيئات
الأكاديمية العلمية بخاصة العالمة في خارج
الوطن لتوحيد الجهود وتنسيقها ولوضع برامج
كفيلة بإحصاء هؤلاء ورسم آلية ربطهم
بالجامعة العراقية وبمراكز الوطن البحثية
مستثمرين المكتبات والمراكز الموجودة في
بلدان وجودهم.. على أن ترعى وزارة التعليم
العالي مؤتمرا سنويا للكفاءات في كل ميدان
وتخصص يخطط لصيغ العلالقة وآلية العمل
بالارتباط مع خطط الجامعات العراقية
والأنشطة المؤملة... وليس بالضرورة نقل
هذا المؤتمر داخل الوطن إذ يمكن تفعيله في
أماكن وجود العلماء العراقيين..
متى وكيف ومن سيمتلك شجاعة هذا القرار
الإنساني الوطني الصادق بحق علمائنا.. لا
أعتقد أن الأمر بحاجة لزعيم أو فرد أو شخص
فإذا أقول (إذا) كانت الحكومة تعمل بطريقة
مؤسساتية وإذا كانت منتخبة وتلبي مطالب
منتخبيها وإذا كانت صادقة عهدها لمتابعة
رعاياها وفي مقدمهم العلماء والمتخصصين في
شؤون المعرفة وإذا كانت تروم وقف هدر
الطاقات التي تمثل رأس المال الرئيس
للعراق في يومه وفي غده وإذا تحقق اجتماع
الإرادات الأكاديمية وغادرت سوق سرقة جهد
العلماء والمتاجرة به وإذا (التي لانهاية
لها) تنتهي فإن الإجابة على متى وكيف ومَن
ستأتي وآمل عندها أن يكون امرؤ من هؤلاء
الذين أتحدث عنهم موجودا ليطاله القرار
المنصف ويُرَد عنه الإجحاف فيحتفي
بالراحلين الذي جرى تصفيتهم جسديا أو
معرفيا عقليا.................... والحليم
تكفيه إشارة أنني بدأت بمعالجة موضوعية
وأنهيت بتساؤل يعرفه جمع كبير مثلما يدرك
فحواه الراسخون في العلــــــــــــ...م.
مقترحات أولية عجلى:
1. عقد مؤتمر سنوي للكفاءات في كل
ميدان تخصصي في العواصم الأوروبية
والعربية التي ينتشر فيها العلماء
والأساتذة العراقيون..
2. تسجيل جميع الكفاءات وخريطة سابق
أعمالها وأنشطتها داخل العراق وخارجه..
3. دعم ورعاية المشروعات العلمية
والاعتراف بها ومتابعة قياس مستويات عملها
المعرفي مثل الجامعات ومراكز البحوث
العلمية..
4. رصد جوائز لأفضل المؤلفات
والبحوث...
5. رعاية جميع تلك الأنشطة وطباعة
الكتب والدراسات ومكافأة أصحابها
بميزانيات مخصوصة من الجامعات ودور النشر
العراقية...
6. إيجاد علاقة وظيفية [بأجر] للعلماء
والأساتذة من نمط أستاذ زائر أو تكليف
ببحث أو بتأليف للمناهج المدرسية
والجامعية لقرب هؤلاء من مصادر علمية
حديثة.. وكذلك نقل التجاريب العلمية
والإدارية الأكاديمية بوساطة هؤلاء
بتكليفهم بإجراء اللقاءات البحثية مع
الجامعات العالمية وتجاريبها المتنوعة..
وأية علاقة متاحة ممكنة باستمرار إدامة
الصلات بين العلماء والوطن ومؤسساته...
7. تشكيل مكتب متخصص بالأمر في وزارة
التعليم العالي وموظفي ارتباط في الوزارات
المعنية للإفادة من هذه الخبرات...
هل من الصحيح أن نستكثر على هذه الطاقات
مرتبا مقابل جهدها ينقذها من التصفية
ويمتاح من قدراتها ليضيفه في عملية بناء
الوطن المخرّب؟ أليست الفائدة في ألا نخسر
رأس مالنا الذي بنيناه بدماء أبناء الوطن؟
أسئلة كثيرة لا تنتظر بقدر ما تثير
اعتراضها على سلبية مقيتة قاتلة. وليُجبني
أي مسؤول حكومي عمّا كتبت هنا.
أكاديمي عراقي \ ناشط في حقوق الإنسان
20تموز 2008
tayseer54@hotmail.com
|