سوريا وحالة الاستعصاء السياسي....

بقلم د. فيوليت داغر

 

 

مستجدات كثيرة تتسارع وتيرتها اليوم على الساحة اللبنانية مع تداعيات الجريمة النكراء لاغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وتحرك قوى واسعة في الشارع اللبناني من كافة الطوائف للمطالبة بكشف الضالعين فيها وفي ما سبقها من محاولات اغتيال وتعدي على الكلمة الحرة والرافضة للأمر الواقع. مهّد للحادثة مناخ من اتهامات واستفزازات وتعديات على الحريات، وتبعها تحركات واعتصامات سلمية حاشدة للمطالبة بحجب الثقة عن الحكومة وكشف الجناة ومحاكمة المسؤولين عن تعطيل الحياة السياسية في لبنان. كما تصاعدت لهجة الدعوات من أجل تطبيق اتفاقية الطائف بحذافيرها وانسحاب الجيش السوري من لبنان وكف يد السلطات السياسية والأمنية السورية عن التدخل في الشأن اللبناني والتأثير في القرار السياسي. ورغم الخوف من ردود الأفعال التي يمكن أن تنحو منحى عنفيا غير محمود العواقب، في الوقت الذي يقف فيه المتربصون بمصالح هذا البلد للانقضاض عليه عبر ثغرات يمكن أن تفتح باب جهنم على الغد، بدا مستوى الأداء حتى الآن جيداً. خاصة في بداية الجلسة التاريخية الخاصة للبرلمان اللبناني التي عقدت بعد أسبوعين على حادثة الاغتيال لمناقشة ظروفه والتي تبعها بعد ساعات استقالة الحكومة، وللمرة الأولى في تاريخ لبنان إثر حركة شعبية حاشدة ترافقت بكلمات شديدة اللهجة للمعارضة من داخل قبة البرلمان. وعلى الرغم من بعض مماحكات استفزازية لسياسيين من مشارب مختلفة، جسّد هذا الحراك حتى الساعة حس عال بالمسؤولية يشهد له. كما وأبرز الحرص على وحدة لبنان وسيادته بعيداً عن أي تدخل أجنبي، مظهراً إصرار الجميع على علاقات لبنانية –سورية مميزة وعلى تخوف من عواقب التعنت في الرأي وتغييب الرأي الآخر.

الجميع يعلم أن ما يحصل في لبنان له علاقة وثيقة بوضع دولي طامح لتشكيل خارطة المنطقة الشرق أوسطية على نحو جديد ضمن استراتيجية قوة عظمى ودول متحالفة معها لها مصالحها في هذه المنطقة. لكن ما لم يحسن المعنيون قراءته هو ما يمكن أن تؤول إليه تراكمات كثيرة منذ دخول الجيش السوري إلى لبنان في صيف 1976 إلى تعثر تطبيق اتفاقية الطائف وما جرى من مترتبات خلال الأربعة عشر عاما الأخيرة في العلاقات السورية-اللبنانية تفسر ولا تبرر الانفعالية والتوتر اللذان يطغيان على هذا النقاش. هذه العلاقات التي وإن حملت وجها إيجابيا في تمتين الروابط بين بلدين شقيقين، فيها ما أساء لهما وللعلاقة الوثيقة بين الشعبين ولجبهة المقاومة للمخططات العدوانية. وبقدر كبير أساء للبنان المحتل من قبل نظام عرف في بدايات الحروب اللبنانية كيف يستفيد من تناقضات وضع محلي وإقليمي ليدخل كلاعب قوي على الساحة اللبنانية تحت غطاء دولي بارك لسوريا طموحها هذا حينها قبل أن ينقلب اليوم عليها.

جل من يعارض التواجد السوري في لبنان لا يناقش في ضرورة تمتين العلاقات بين البلدين، وإنما في طبيعة هذه العلاقات وما تفرزه من ظلم وتعسف وشعور بالمهانة عند اللبنانيين. فهناك انتقاص لسيادة لبنان عبر التدخل في قراره الوطني والسيادي في كافة المجالات وخاصة من طرف الأجهزة الأمنية السورية (وبالطبع اللبنانية التي تعمل تحت مظلتها) التي بسطت جواً من الخوف وإرهاب الدولة وفتتت الكثير من المكاسب الديمقراطية وأجواء الحرية.

إن كان هناك من هذه المعارضة من لم يقم كفاية وزناً لنتائج تطبيق القرار 1559 بما يطال حزب الله- الذي حرر لبنان من الاحتلال الإسرائيلي والذي هو لذلك المستهدف الأساسي- والمنظمات الفلسطينية على الأرض اللبنانية، يبقى أن أطرافا واسعة منها تنئي عن الزج بها في تحالفات دولية تشوه صورتها وتضعف مشروعية مطالبها المحقة بتحقيق كامل السيادة في ما تدعوه انتفاضة الاستقلال. لكن لم يكن من الحكمة بشيء الإسراع بتوجيه أصابع الاتهام لسوريا في اغتيال الحريري في الوقت الذي لم ينته فيه التحقيق بعد، هذا إن انتهى لكشف الحقيقة. وفي الحين الذي تساق فيه احتمالات قوية في ضلوع أطراف أخرى في الجريمة، لها كل المصلحة في خلط الأوراق والاستفادة من تردي الوضع وتنفيذ الاستراتيجيات المعدة للمنطقة.

أن نشهد هذا التصعيد العنيف اليوم ليس مفاجئة لمن كان يجيد قراءة مؤشرات الاحتقان على الساحة اللبنانية وكان مضطلعاً على حقيقة ما يجري من عسف عار داخل سوريا بحق مواطنيها. ما أريد الإشارة له هو طبيعة هذا النظام السوري الذي كان بنهجه المتصلب والتعسفي والمصلحي وراء هذه التداعيات والتسبب في تفاقم حالة مرضية تتفاعل منذ زمن بعيد (بما لا يعفي أطراف الموالاة والنظام الحاكم في لبنان من مسؤوليتهم بشئ). مما سمح للطامع الأجنبي بالاستفادة من الثغرات الواسعة والدخول عبرها لتحقيق أغراضه وفرض إملاءاته. 

في صيف 2000 قصدت سوريا لإجراء دراسة متعددة الميادين لأوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان فيها. ما حدث حينها أن وافت المنية الجنرال حافظ الأسد. فشهد هذا البلد وضعا انتقاليا ترافق بتطور في حركة المثقفين والمعارضة الديمقراطية التي بدأت بطرح مطالبها وتصوراتها للمرحلة المقبلة. شجعها في ذلك خطاب القسم الدستوري للرئيس بشار الأسد الذي تفاءل به كثيرون.

لكن الحذر غلب على قسم كبير منهم لم يراهن على المظاهر الظرفية معتبراً : أنها قد تكون قصيرة المدى ومرهونة بالحدث الطارئ. ذلك انطلاقا من أن الرئيس الجديد لم يأت بإرادة شعبية وإنما فرض من فوق وبموافقة الأطراف التي تملك موازين القوى الفعلية داخل النظام. وهو إن كان يمتلك بعض الرؤى الإصلاحية، لم يأت بمشروع إصلاحي وبرنامج للتغيير. وافتراضا أن نواياه في التغيير الفعلي جدية، فشخصيته وتجربته لا تساعداه على التأثير في موازين القوى لصالح التغيير. إضافة إلى أن أقطاب السلطة الذين حكموا إلى جانب والده خلال سنوات طوال والزمرة المصلحية والأمنية التي تشكلت حينها ما زال لهم اليد الطولى في كل شئ.

بعد مرور أكثر من سنة على الحدث وقبل الدفع بالكتاب للمطبعة ( الذي خرج بلغات ثلاث وساهم فيه باستثنائي 17 كاتبا وباحثا سوريا معظمهم من داخل سوريا، ولم يدخل بالطبع إلى لبنان أو سوريا إلا تحت المعطف)، عرضت في مقدمته ما مفاده، أنه نظراً لتغيير شخص الرئيس الذي طبع السلطة بطابعه خلال عقود، ولتطور الظروف الموضوعية على الصعيد المحلي والدولي، ولتأثير العلاقات الخارجية، من المستحيل تصور وضع مشابه لما عرفه هذا البلد خلال المرحلة العصيبة التي مر بها. مع ذلك، ليس من تغيير أساسي في الجوهر يؤمل، حيث أن ديناميات هذا التغيير ما زالت عاجزة عن فرض تحول فعلي. فالتكوين القمعي ما برح هو نفسه عند المتحكمين بمقاليد السلطة، وإن اختلف لأسباب مصلحية وموضوعية المظهر الذي تغلف به أحيانا بعض تعبيراته. من أجل تغيير جذري جدي ومجدي، لا بد من تحول يمس عمق الوعي والسلوك عند الذين يقررون سياسات البلد. وهذا لا يبدو ممكنا الآن، بل سيتطلب وقتا طويلا قبل أن يتحقق، خاصة إن بقيت الرموز الفاسدة نفسها في السلطة.

منذ سنوات وليس الآن فقط تقوم تحركات وتظاهرات واعتصامات ضد الوجود السوري في لبنان، أكان ذلك من طرف قوى سياسية أو هيئات دينية. كما كان هذا الموضوع قد طرح للنقاش داخل مجلس النواب، وتناولته الصحافة اللبنانية والعربية مراراً وتكراراً. لكن غلب عليه أحياناً الطابع المسيحي الذي أعطاه بعداً طائفياً فئوياً. بالمقابل، اندفعت بعض الفئات اللبنانية المؤيدة لسوريا لدعم استمرار الوجود السوري في لبنان رافعة راية تقوية العلاقات السورية - اللبنانية.

ردت السلطات السورية بإعلان رفضها الخضوع للضغوطات، مزاوجة ذلك مع بعض انسحابات وإعادة انتشار لقواتها. فهي قد دخلت لبنان على خلفية لعب دور إقليمي هام. لكنها وإن تنبهت أحياناً للشكل، حملت معها في المضمون نفس التكوين والعقلية والممارسات القمعية. فلم تتورع أجهزة الأمن السورية في لبنان عن ممارسة نفس أساليب العسف والفساد التي اتبعتها مع مواطنيها، والتدخل السافر في القرارات اللبنانية والتعيينات ورسم السياسات والائتمان على السيادة.

يقول سمير العادلي (في فصل سياسة سوريا الخارجية في نفس الكتاب) " بعد نجاح المقاومة اللبنانية في تحرير جنوب لبنان من القوات الإسرائيلية، توضحت للعيان حقيقة التواجد السوري في لبنان. هذا التواجد الذي تحول إلى أداة للمحسوبية والولاء السياسيين ووسيلة اغتناء لعدد من الضباط الذين بنوا ثرواتهم الموازية من الشبكة اللبنانية. ولم يعد هناك من ذريعة للتواجد العسكري السوري، بعد أن أعيد بناء قوات الأمن اللبنانية على الطريقة السورية وبعناصر موالية، سوى تقوية الموقف السوري عند العودة لطاولة المباحثات. إلا أن كلفة هذا الوجود كبيرة على صعيد العلاقات الودية بين الشعبين التي شوهتها قوات الردع، وعلى الحريات العامة في بلد حافظ على حد أدنى من التعددية السياسية حتى في ظل الحرب الأهلية. من هنا كبرت النقمة على التواجد السوري في لبنان، ليس فقط من وجهة نظر المدافعين عن احترام الحقوق الإنسانية، وإنما أيضا سياسية باتساع جبهة المطالبين بانسحاب القوات السورية ضمن أو خارج نطاق اتفاق الطائف".

للأسف، لم يكن بمقدور العقلية السياسية الجامدة، التي اعتبرت وجود قوات سورية في لبنان ورقة هامة في المفاوضات السورية الإسرائيلية المعلقة، أن ترى أن هذه الورقة، التي ربما كانت بالمعنى الجيو السياسي رابحة بعد حرب الخليج الثانية، هي بالضرورة خاسرة بعد احتلال العراق. أما سلوكيات أجهزة الأمن السورية فقد استمرت بالاحتماء بعباءة أيديولوجية ومعايير سياسية وتبريرات أمنية، وتجاهلت تبعات الاستهانة بمشاعر ورغبات المتضررين أو غير المستفيدين من وضع فرض عليهم بالقوة. هذه الخلفية الذهنية- النفسية (التي أفردت لها بحثاً في الكتاب المذكور) هي بعلاقة مع البيئة التي انطلقوا منها لصياغة أفكارهم وإيديولوجياتهم، ترجمت لأهداف وأجهزة ومؤسسات تقود المجتمع، ولوسائل وطرق سعوا من خلالها لفرض شرعيتهم.

هذه السلطة التي تعجز اليوم عن استبيان ما اقترفت يداها وقراءة التحولات بشكل صائب، تتشنج في مواكبة ما يفرضه تطور الواقع المتجدد والمتبدل، دون كبير خلاف مع تلك التي سبقتها. تلك التي حجبت الدولة عن المواطن، وتركت المجتمع السوري مغلقا على ما يدور خارجه وفشلت في استخدام وسائل أكثر مرونة وحضارية في التعامل معه. كان الاستقرار الأمني هاجسها، فامتلكت الأدوات وابتكرت الوسائل التي من شأنها إخضاع الآخرين والاستحواذ على حريتهم وضمان الطاعة والولاء لها. لقد أطلقت اليد الطولى لفروع المخابرات المختلفة وأجهزة الأمن تراقب من قريب وبعيد وتحاسب من يشتبه بهم. كما وأشاعت جوا من الذعر الدائم، بحيث أصبح محظور أي كلام يمكن أن يجاهر به المواطن. بقي الحكم حكرا على أقلية يجمعهم الانتماء العضوي العصبوي العقائدي أو الطائفي أو العائلي أو المصالح المشتركة أو المنفعة الشخصية والتملق والإستزلام. تم إغراء بعضهم بالمناصب والمكافآت والاستحواذ عليهم وتكليفهم بمهمات وزجهم في ممارسات ما أفقدهم حيادهم وأجبرهم على الإخلاص للسلطة. فأصبح ما يسئ للسلطة يسئ لهم. وللمحافظة على سلامتهم، كان لا بد أن يدافعوا بكل الأشكال عن استمرار هذه السلطة بفسادها واستبدادها، خاصة عند انعدام الأهلية والكفاءة لأفرادها في ملء المكانة المطلوبة منهم.

خلصت للقول بأنه لاسترداد التوازن المفقود في العلاقة القائمة بين السلطة وبين المواطن، على هذه السلطة أن تصبح تلاؤمية (أي تعتمد على الحوار والتوافق واحترام كرامة المواطن وحقوقه) بعد أن كانت قسرية مع أكثرية (تلجأ معهم للإكراه والعنف لكسب الخضوع واغتصاب الولاء لها) وتعويضية مع أقلية (تخضعها لولائها عن طريق المكافآت والعطايا والمكاسب التي تشتري بها ذممهم مقابل الطاعة والسكوت عنها وحفظ أسرارها).

هل تبدّل أو تطور الوضع منذ ذلك الحين؟ قلة ربما من يعّول على سلامة حس هذا النظام أو مقدرته على حسن قراءة المتغيرات والمطاطية في الاستجابة لما تفترضه من سلوكيات تتأقلم مع الواقع إن كان على صعيد الداخل السوري أو الخارج. وكأنه كتب على هذه المنطقة أن تدفع على الدوام الأثمان الباهظة لأطماع القوى الخارجية في ثرواتها ولتخلّف من ائتمنوا على مقدساتها وحكموا مواطنيها. ومع تقاعس، إن لم نقل غياب، الرأي العام العربي الناقد والمحاسب، كان علينا للأسف أن ننتظر قرارات دولية لفرض تطبيق اتفاقيات لم تنفذّ إلى أن أصبحت المنفذ لمطامع الخارج.

كما يقول أدورنو، التكوينات الستاتيكية تفتقر للدينامية كونها لا تملك جمرة الابتكار والقدرة على متابعة العالم. لكن هل تُفقِد السلطة الأشخاص الحد الأدنى من غريزة الدفاع عن النفس التي تتطلب اليوم ليس فقط الطلب إلى المصنفين في عوالم الممنوع والمحروم العودة للفضاء المرخص به أمنيا، وإنما شراكتهم كموضوع أساسي في ممارسة السيادة، لا كموضوع لممارسة القمع؟

في اللحظات الحرجة للدكتاتوريات، منها من يصيبه العمى التام، بحيث تنطبق عليه مقولة حنا أرندت: "في النظام الدكتاتوري، كل شيء على ما يرام حتى الربع ساعة الأخيرة". ومنها من يستدرك أن مشروعية الغفران الأكبر عن أخطاء، حتى لا نقول جرائم، الأمس يتطلب اللجوء إلى الحكمة واحترام الحقوق الأساسية للبشر والبحث عن المحكوم وراء قضبان السجن والتهميش والملاحقة والنفي لصنع رد تاريخي للخروج من أزمة مستعصية. هذا الرد اسمه المشاركة الجماعية في رسم سياسة البلاد وحفظ كرامة العباد. فلأين نتجه اليوم، وهل لنا أن نطمئن لسعة إدراك وحكمة بعض أقطاب صناع القرار السياسي في سوريا ولبنان لإنقاذ هذين البلدين من المخططات التي تتوعد بالنار والدمار الذي ما زال مستقرا في الذاكرة الجماعية؟ من له الحق بحرمان هذا الجيل الشاب المدرك والواعي من المساهمة في صنع حاضره ومستقبله وتفادي فقدان أمله في وطنه ؟

 

----------------  

رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان

القدس العربي 4/3/2005