منصف المرزوقي – عبد الوهاب معطر |
تقرير عن الانتخابات الرئاسية في موريتانيا
|
مارس 2007
بتكليف رسمي من اللجنة العربية لحقوق الإنسان قصدنا موريتانيا في مهمة
مراقبة
الانتخابات
الرئاسية حيث مكثنا في العاصمة نواكشوط من 6 مارس إلى 13 منه
وتمكننا
خلال هذه الفترة
من متابعة جزء هام من الحملة الانتخابية ومراقبة عملية الاقتراع للدورة
الأولى
التي
تمت
يوم الأحد 11 مارس 2007.
لم تسمح لنا الظروف البقاء للدورة
الثانية
التي جرت يوم 25 مارس. لذا اعتمدنا في تكملة
المعلومات الضرورية لهذا التقرير على مصادر حقوقية موريتانية كانت قد
ساعدتنا على القيام بمهمتنا طيلة اقامتنا.
كذلك على المصادر الإعلاميّة والقانونيّة المتوفّرة.
لم نخرج من دائرة نواكشوط علما أن الحكومة الموريتانية قد سهلت التنقل
للبعثات الرسمية المعتمدة لديها ووضعت تحت تصرفها وسائل نقل مكنتها من
الوصول إلى الأرياف. لكن
اللجنة العربية لحقوق الإنسان
التي رفضت كل تمويل حكومي لم تحصل على هذه التسهيلات
ولم تسعى للحصول عليها.
الإطــار العــــام
الجمهورية الإسلامية الموريتانية بلد عربي إفريقي يعاني من كل مشاكل التخلف
والفقر رغم ثرواته من السمك والمعادن (وقريبا من النفط ). وهو يعرف تفاوتا
طبقيا كبيرا يبدو في الفرق في نواكشوط بين الأحياء الراقية وأحياء قصديريّة
يسكنها خاصة الأفارقة، ويشكل وجودها إهانة للكرامة البشرية. لفهم خلفيات
الانتخابات لا بد من التذكير بالتركيبة السكانية لموريتانيا التي تنقسم
إلى: أ- أقلية من الزنوج الأفارقة الذين يقطنون بالأساس ضفاف نهرالسنغال
الفاصل بين موريتانيا والسنغال ويتكلمون ثلاث لغات أفريقية متباينة. ب-
الحراطين وهم أفارقة لغتهم الأم العربية نتيجة اختلاطهم بالعرب منذ قرون
خاصة في ظل آفة العبودية. ج- السكان المنحدرين من أصول عربية وأمازيغية (
البيضان)
الذين يشكلون الأغلبية، وهم أنفسهم منقسمين إلى قبائل متفاوتة الأهمية
ويلعب الانتماء إليها دورا كبيرا في تسيير شؤون السياسة.
شهدت موريتانيا ككل أقطار الوطن العربي صراعا بين مجتمع تعددي، حي وطموح
ونظام سياسي متخلف مبني كما الأنظمة العربية على الشخصانية والقمع والفساد
ومصادرة إرادة الشعب عبر انتخابات مزيفة تشكل غطاء هشا من الحداثة على
البيعة القديمة.
لقد عرفت موريتانيا صراعا مكلفا بين المجتمع الساعي لتحرره والنظام الذي
يكبله. من مظاهر هذا الصراع الحوادث العرقية سنة 1989، وانتهاكات حقوق
الإنسان العديدة، والاعتقالات الكثيرة التي طالت كل أصناف المعارضين، وتعدد
المحاولات الانقلابية في بداية الألفية ضد نظام الدكتاتور ولد الطايع التي
كان آخرها انقلاب 3 أغسطس 2005 الذي أطاح بحكمه والذي دبره أقرب رفاق
الرئيس المخلوع العقيد اعلي ولد محمد فال.
المثير للانتباه في هذا الانقلاب ليس طبيعة الانقلابيين وإنما قرارهم
بتسليم السلطة للشعب وعدم ترشحهم للانتخابات الرئاسية. وهذا بالطبع تحول
نوعي في السيناريو الكلاسيكي الذي يعيش عليه العرب منذ نصف قرن. لا شكّ أن
الأمور اعقد مما بدا على السطح (وسنعود للأمر عند التحليل)، لكن النظام
الجديد بدا جادا في تنفيذ قراره بتسليم السلطة للمدنيين وفق اقتراع حر
ونزيه. ومن المحطات التي يجب ذكرها الإصلاحات الدستورية والاستفتاء حولها
في يونيو 2006، وخاصة نشأة اللجنة الوطنية المستقلّة للانتخابات في 14
نوفمبر 2005.
كل هذا أعطى انطباعا بأننا أمام إرادة صادقة من قبل السلطة العسكرية
الجديدة لنقل المسؤولية لأول مرة في تاريخ موريتانيا والوطن العربي
للمدنيين واحترام سيادة الشعب.
الاهتمام الشديد الذي أبدته اللجنة العربية لحقوق الإنسان بالانتخابات
الموريتانية يعود لكون هذه التجربة يمكن أن تشكل في حال نجاحها واحدا من
الحلول السلمية للخروج بأقل التكاليف من أزمة النظام السياسي العربي،
ونموذجا ممكنا اتباعه. هذه الأهميّة هي التي ركزت عليها اللجنة في تصريح
لممثلها لقناة الجزيرة التي غطت الانتخابات بصفة مكثفة عاكسة بهذا اهتمام
المواطن العربي بتجربة سعى البعض لتحقيرها والتنقيص من مغزاها.
الإشكاليــــة
السؤال المركزي الذي حملناه معنا هو : هل تحترم الانتخابات الرئاسية المزمع
إجراؤها حق الشعب الموريتاني في اختيار من يحكمه طبقا للمادة 21 من الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان، بما يعنيه ذلك من ممارسة حق الرأي والتنظم وتنظيم
عملية انتخابية تضمن فيها سرية الاقتراع وعلنية الفرز؟ من البديهي أن هذا
السؤال كان مبنيا على شك عميق في صدقية نوايا السلطة الموريتانية، لما
خبرناه دوما من الحكومات العربية من هوة سحيقة بين القول والفعل وباع طويل
في كل أشكال التزييف. ومن منطلق هذا الشك الدفين راقبنا كل ما يجري أمامنا
دون أن نغفل - عبر اتصالاتنا المكثفة بالعديد من الأطراف - محاولة فهم ما
يجري في الكواليس. كل هذا حتى تتكون لدينا صورة أقرب ما تكون للموضوعية
التي ننشدها.
منهجيــة العمـــل
سعينا لجمع المعطيات من مصادر مختلفة نذكر منها : القوانين ذات الصلة
بالإنتخابات، بما في ذلك الدستور، وقانون اللجنة الوطنيّة المستقلّة
للإنتخابات، والمجلّة الإنتخابيّة، وسائر النصوص المختلفة الأخرى : كمتابعة
الأحداث عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة وعبر منشورات مختلف الجهات
الرسميّة والمدنيّة الفاعلة.
1-السلطة والدوائر الرسمية: نذكر بأننا لم نتلق جوابا على
الرسالة التي بعثت بها
اللجنة العربية لحقوق الإنسان
للسفارة الموريتانية في باريس قبل سفرنا كي يتم اعتمادنا بصفة رسمية. وفي
نواكشوط، لم نستقبل من قبل أي مسؤول سياسي، لكننا تلقينا زيارة مستشار لدى
وزارة الخارجية، السيد باباه سيدي عبد الله الذي أبلغنا بأننا نستطيع
التحرك بحرية ودخول كل مكاتب الاقتراع. لقد رجانا بعبارات واضحة عدم التعرض
للنظام التونسي. فذكرناه بأننا لم نأت بصفتنا الوطنية، وإنما كممثلين عرب
لجمعية حقوقية عربية تنظر للموضوع من الوجهة الحقوقية لا غير.
أهم لقاء لنا على مستوى المسؤولين كان مع رئيس اللجنة الوطنية المستقلة
للانتخابات السيد سيدي أحمد ولد بابا أمين وعضو اللجنة
الدكتور محمد ولد بوعليبة. لقد رحبا بنا وأكدا أن هذه الهيئة
مستقلة فعلا عن السلطة التي لها جهاز موازي رسمي (اللجنة الوزارية المشتركة
لشفافية الانتخابات)، وأنّها تقوم بعملها بكل استقلالية سواء على الصعيد
المركزي أو على صعيد ممثليها في الأقاليم.
2- المرشحون والمجتمع المدني : استحال لقاء كل المرشحين وعددهم 19
لأن أغلبيتهم كانت داخل البلاد في حملة انتخابية. إلا أننا تمكنا من مقابلة
أربعة منهم ينتمون إلى تيارات سياسية جد متباينة هم السادة : صالح ولد حننا
وهو مرشح مدعوم من التيارات القومية والإسلاميّة، ومحمد ولد مولود وهو زعيم
حزب يساري، ومسعود ولد بلخير وهو رئيس حزب مشكلّ في غالبيته من الأفارقة
العرب (الحراطين)، والسيد سيدي ولد الشيخ عبد الله وهو مرشّح مستقّل لا
ينتمي إلى المعارضة التقليديّة ويروّج أنّه مدعوم من أوساط متنفذة في
السلطة العسكريّة.
كما أمكنا لقاء ممثل التيار الإصلاحي الوسطي ( الإسلاميين ) السيد جميل ولد
منصور، وممثل فرع المنظمّة العربية لحقوق الإنسان السيد محمد الأمين ولد
الكتاب، والسيدة امناتو منت علي مناضلة حقوقية، والسيدان بوبكر مسعود
وممادو مختار صار عن منتدى المنظمات الإنسانية الموريتانية، والسيدان أحمد
فال ولد الدين و محمد فال ولد اكاه عن المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان.
3- المواطنون : حاولنا الاتصال بأكبر عدد ممكن منهم خاصة طوال
المهرجانات التي نظمها المرشحون (ضمن خيام منصوبة يتجمعون فيها بكثرة)،
وأيضا طوال يوم الاقتراع الأول وبعده لمعرفة آرائهم حول جدية العملية.
4-وسائل الاعلام: إضافة لهذه المصادر حاولنا استقاء القدر الأقصى من
المعلومات عبر الصحافة اليومية وبرامج التلفزيون الموريتاني. ثم اعتمدنا
لتقييم الدورة الثانية على مصادر الصحافة وعلى اتّصالاتنا مع النشطاء
السياسيين والحقوقيين.
5-معاينة العملية الانتخابية
: تحولنا لمكاتب الاقتراع منذ الصباح الباكر وتوزعنا لمشاهدة أكبر عدد ممكن
من المكاتب. لقد تمكنا من زيارة مكاتب أحياء جد متباينة من الناحية
الاجتماعية مثل مكاتب حيّ تفرغ زينة، وهو حي ميسور، وحي المنطقة الخامسة،
الغارق في الفقر والذي تسكنه الأقلية الإفريقية. تابعنا في هذه المكاتب
تفاصيل كل العملية: من التقدم إلى مكتب الاقتراع إلى إمضاء محاضر النتيجة
في المكتب المعني بالأمر.
الملاحظـــــات
كان واضحا لدينا وجوب التفرقة والتمييز بين الجانب الإداري والفني للعملية
الإنتخابيّة من جهة، وجانبها السياسي المضموني من جهة أخرى. ذلك أنّ الجانب
الأوّل تتحكّم فيه السلطة القائمة أساسا، فيما تتداخل معها في الجانب
الثاني عناصر أخرى. المهمة التقليديّة لمراقبي الإنتخابات تكمن أساسا في
جانبها التقني والإداري، أي مراقبة كيفيّة ممارستها على الأرض وأسلوب
تحققها بصفة عملية بقطع النظر عن النتائج السياسيّة المتمخّضة عنها. بما
يعني أنّ المهمّة تتمثّل في التأكّد من إتاحة الفرصة الكاملة للمواطن
للإدلاء بصوته، مع ضمان وصول هذا الصوت إلى مبتغاه دون حرفه عن مساره، وذلك
بقطع النظر عن هويّة أو برنامج المستفيد من هذا الصوت.
التفرقة وعدم الخلط بين هذين الوجهين للعملة الواحدة هو الذي مكّننا من
الناحية المنهجيّة من الوصول إلى نتيجة مفادها أنّ الانتخابات الرئاسيّة
الموريتانيّة كانت على قدر كبير من النزاهة والشفافيّة من الناحية الفنيّة
التقنية، إلاّ أنّها في جانبها السياسي كانت محكومة بالعناصر والمؤثّرات
النافذة في المرحلة الحاليّة الانتقاليّة التي يمرّ بها المجتمع الموريتاني
اليوم.
أوّلا : الجانب الفني والتقني : نزاهة وشفافيّة العمليّة الإنتخابيّة
من الناحية الفنيّة، إنّ أيّة عملية انتخابيّة تحتوي على محطّات عديدة هي
بمثابة الحلقات المترابطة لسلسلة واحدة، بحيث إذا إختلّت إحدى الحلقات
ستؤثّر حتما في المحصلة. وهذه المحطّات هي على التوالي : الترشح، ونظام
الإقتراع، واللوائح الإنتخابيّة، وبطاقات الإنتخاب، ومكاتب الإقتراع،
وكيفيّة التصويت، وفرز الأصوات، والإعلان عن النتائج.
من خلال ما عايشناه يمكن لنا التأكيد على ما اتفق عليه كافة المراقبين
الدوليّين والمحليّين والأطراف المترشّحة وتنظيماتها من أن الانتخابات
الرئاسيّة الموريتانيّة لمارس 2007 كانت في جانبها التقني – الإداري على
درجة كبيرة من النزاهة في مراحلها المختلفة :
-الترشيح
: خلافا لبقية الأنظمة العربية التي تجعل عملية الترشح إما مستحيلة أو من
قلب النظام بأحزابه المرخص لها في افتعال المنافسة، فإن القانون الانتخابي
الموريتاني ترك الباب مفتوحا على مصراعيه لحرية الترشح لكافة المواطنين،
باستثناء جميع أعضاء المجلس العسكري للعدالة والديمقراطيّة وأعضاء الحكومة
الإنتقاليّة. فهو لا يشترط إلا تزكية خمسين من المستشارين البلديين. الأمر
الذي مكّن تسعة عشر شخصا من الترشّح سيّما أنّ الإنتخابات البلديّة
والتشريعية التي سبقت الرئاسيّة كانت تعدّدية بأتمّ معنى الكلمة وسمحت
لمختلف أطياف المعارضة والمجتمع المدني من الفوز بالمقاعد.
- نظام الإقتراع :
حذا القانون الإنتخابي الموريتاني في هذا الباب حذو أنظمة الإقتراع في
الأنظمة الديمقراطيّة، إذ يقع انتخاب رئيس الجمهوريّة بالأغلبيّة المطلقة
من الأصوات ( أي 50%
زائد واحد ). فإذا لم يحصل أحد المترشّحين على هذه الأغلبيّة في الدورة
الأولى تعاد دورة ثانية يشارك فيها المرشّحان الأكثر أصواتا. وهو ما تمّ
فعلا إذ أعيدت دورة ثانية بين كلّ من سيدي ولد الشيخ عبد الله وأحمد ولد
داده.
- اللوائح الإنتخابيّة :
تمثّل القاعدة الإنتخابيّة أي مجموع الناخبين. وهي ذات اهميّة قصوى إذ
كثيرا ما تعمد بعض الأنظمة الإستبداديّة للعبث بهذه اللوائح. فتقصي منها من
تشاء وتحرم بذلك شرائح من المواطنين من المشاركة في الترشح وفي الانتخاب.
وقد أطلعنا على القانون الموريتاني ولمسنا أنه أتاح لأوسع فئات الجماهير
ممن بلغ سنهم 18 سنة وأكثر التسجيل في اللوائح الإنتخابيّة. هذه اللوائح
التي تم إعدادها من طرف البلديّات تحت إشراف اللجنة الوطنيّة المستقلّة
للإنتخابات وتحت مراقبة القضاء في صورة وجود إعتراضات أو طعونات.
وفعلا وقع إعداد لائحة إنتخابيّة للإستفتاء الدستوري الذي جرى في
يوليو/تموز 2006 ثمّ تم تحيينها عبر الإحصاء التكميلي المجري بمناسبة
الإنتخابات التشريعيّة والبلديّة لنوفمبر/تشرين الثاني 2006. وقد أدّى كلّ
ذلك لعدم وجود أيّة شكاوي أو احتجاجات لدى عموم المواطنين في هذا الشأن.
لكنّنا نلاحظ أنّ الموريتانيين الموجودين خارج التراب لم يقع تسجيلهم
باللوائح الإنتخابيّة، كما أنّ بعضهم الآخر ممّن كان مسجلا فيها لم يتمكّن
من التصويت في يوم الإقتراع، نظرا لتواجده في الخارج. إذ أنّ السلطات
الإداريّة لم تنظّم مشاركة الموريتانيين المقيمين في الخارج في الإنتخابات.
وهي تعزو ذلك لأسباب حرصها على النزاهة والشفافيّة، في حين ربّما يكون
السبب هو كثافة تواجد نخبة مثقّفة كبيرة العدد معارضة في الخارج.
-بطاقات الإنتخاب
: بعد إعداد اللوائح الإنتخابيّة وقع إعداد بطاقة شخصية لكلّ ناخب مرسّم
فيها. وهذه البطاقة هي التي يتم بها التصويت. تحتوي كلّ بطاقة على الهوية
الكاملة للناخب وتحمل رقما تسلسليّا بالإضافة إلى رقم بطاقة التعريف وكذلك
رقم وعنوان مكتب الإقتراع التابع له صاحب البطاقة. كما تضمّنت هذه البطاقة
تنصيصا على وجوب ان تكون يوم الإقتراع مرفوقة ببطاقة التعريف. وهي كلّها
تدابير غايتها منع أيّة إمكانيّة تزوير أو إستنساخ البطاقة، كالحيلولة دون
أيّة إمكانيّة للتصويت أكثر من مرّة واحدة للناخب الواحد.
ممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ اللجنة الوطنيّة المستقلة للإنتخابات قد
وضعت منذ اغسطس/آب 2006 بطاقة وحيدة وموحّدة لكلّ ناخب. وهي سهلة الإستخدام
بهدف تقليص فرص التزوير تولّت البلديّات في أرجاء موريتانيا توزيعها على
أصحابها مباشرة بعد دعوتهم لتسلّمها بواسطة البريد. كما انّ من لم يتمكّن
من تسلّم بطاقته قبل يوم الإقتراع أتيحت له فرصة تسلّمها مباشرة في ذلك
اليوم من مكتب الإقتراع التابع له، ذلك بعد إظهار الرّسالة الموجّهة إليه
والتثبت من وجود إسمه في قائمة مكتب الإقتراع المعني.
لقد تأكّد لنا من خلال المعاينة الميدانيّة أنّ بطاقات الإنتخاب قد تم
توزيعها على أوسع نطاق إذ قلّ وندر أن شاهدنا مواطنا يوم الإقتراع يحصل على
بطاقته من مكتب الإقتراع مباشرة. ممّا يجيز لنا القول بأنّ الحياد في هذا
المجال كان هو القاعدة.
-مكاتب الإقتراع :
توزّعت هذه المكاتب على مختلف أنحاء الجمهوريّة الإسلاميّة الموريتانية.
ومن خلال القائمة
التي حصلنا عليها لمكاتب الاقتراع وتوزيعها لم نلحظ شيئا مريبا مثل الكثرة
المفتعلة التي تعمد لها كثير من الأنظمة الاستبدادية لجعل عملية المراقبة
مستحيلة. كذلك لم نتلق شكاوى حول غيابها في بعض المناطق.
وقد احتضنت المدارس ودور التعليم والثقافة أغلبيّة مكاتب الإقتراع في
نواكشوط بحيث وجدنا العديد منها في فضاء واحد. كما أنّ هذه المكاتب كانت
منظّمة في الداخل ومجهّزة بطريقة محكمة، إذ فضلا عن هيئة المكتب المكوّنة
من رئيس وعضوين يوجد مراقبا ممثلا للجنة الوطنيّة المستقلّة للإنتخابات،
كما يوجد مراقبين عديدين تابعين للمترشّحين وبحوزتهم قائمة الناخبين
المرسّمين بالمكتب. كما ويسود جوّ من الوئام والإحترام والتعاون بينهم وبين
أعضاء المكتب وكأنّهم جميعا شركاء في تأمين سلامة العمليّة الإنتخابية
وليسوا متنافسين.
- التصويت : كان رئيس المكتب يعلن عن هويّة الناخب الذي يدخل بصوت
مرتفع مسموع لجميع المراقبين، فيتولّى هؤلاء التثبت من الاسم في القوائم
الموجودة بحوزتهم، ثم ضعوا علامة فوق إسمه حتّى لا يمكن له التصويت أكثر من
مرّة واحدة، أو الإعتراض عليه إن لم يكن إسمه موجودا بالقائمة.
لفت نظرنا الحرص المبالغ فيه أحيانا من طرف المتواجدين بمكتب الإقتراع على
منع أيّ تلاعب أو تزوير. من ذلك أنّه يقع التثبّت في هويّة الناخب من خلال
بطاقة الإنتخاب، ثم ّيتم اقتطاع ورقة التصويت من دفتر مرقّم تسلم للناخب
ويطلب منه الإنعزال في الخلوة. بعدها يضع الناخب ورقة التصويت مطويّة في
صندوق شفاف مقفل ويقوم بغمس السبّابة في حبر أسود قبل أن يتم وضع ختم في
بطاقته ليسترجعها وينصرف.
ممّا لاحظناه أنّ نسبة الإقبال كانت هامّة، بدليل وجود الطوابير الطويلة
أمام مكاتب الإقتراع، بل وحدوث بعض الخلافات بين الواقفين في الطابور بخصوص
أولويّة الدخول إلى المكاتب.
- فرز الأصوات :
ما لمسناه من خلال مكاتب الإقتراع يوم الإنتخاب يجيز لنا الإشادة بطريقة
العمل الشفافة والنزيهة التي توخّتها. وما يؤكّد ذلك أنّ فرز الأصوات من
طرف المكتب كما عايشناها كانت علنيّة وفي غاية النزاهة. لقد شارك فيها جميع
المتواجدين إذ وقع أوّلا إفراغ الصندوق وإحصاء عدد الأوراق الإنتخابيّة
الموجودة به. ثمّ جرت مراقبة هذا العدد مع عدد الناخبين الذين أدلوا
بأصواتهم والمعلّم عليهم بالقائمة الإنتخابيّة للمكتب. بعدها قرأ رئيس
المكتب بصوت عال إسم المترشّح ثمّ عرض الورقة على الجميع حيث تولّى كلّ
مراقب تسجيلها لديه. قد يحدث أن تكون ورقة ما غير واضحة كأن يضع الناخب
الختم أو حرف ب في غير المكان المخصّص لهما، عندئذ يقع عرضها على الحاضرين
للإتّفاق جماعيّا حول مآلها.
بعد إنتهاء الفرز يتم تحرير محضر أصلي يمضي عليه أعضاء المكتب وممثلّي
المترشّحين وممثّل اللجنة المستقلّة للإنتخابات، ثمّ يسلم كلّ واحد منهم
نسخة موقّعة من رئيس المكتب. يوجّه بعدها المحضر الأصلي مع صندوق الإقتراع
إلى الولاية ومنها إلى وزارة الداخليّة لفرز الأصوات على المستوى الوطني.
واجب التجرّد والموضوعيّة يمليان علينا الجزم بأنّ أعمال مكاتب الإقتراع
كانت على درجة كبيرة من الحياد المطلق ومن النزاهة القصوى المشفوعة
بالتعاون الواضح بين جميع الأطراف القائمة عليه.
والخلاصة أنّه بناءا على ما عايناه ميدانيّا وما لمسناه فعليّا، يمكن القول
أن الإنتخابات الرئاسيّة الموريتانيّة كانت في مراحلها الفنية والإداريّة
والتنظيميّة انتخابات سليمة، ممّا يفسّر عدم وجود أيّ إعتراض أو طعن فيها،
كما أعلن عن ذلك المجلس الدستوري الموريتاني يوم 29 مارس 2007.
هذه النتيجة ما كان بالإمكان التوصّل إليها لولا التدابير المتّخذة من طرف
السلطة القائمة لضمان شفافيّة وحياد العمليّة الإنتخابيّة. فقد تم في 14
نوفمبر 2005 إنشاء لجنة وطنيّة مستقلّة للإنتخابات، وهي مطلب قديم لأحزاب
المعارضة. وقد أنشئت بمقتضى الأمر القانوني رقم 12/2005، وهي سلطة إداريّة
مستقلّة تتمتّع بالشخصيّة القانونيّة وبالإستقلاليّة الماليّة وتسهر على
إحترام القانون الإنتخابي وتضمن للناخبين والمترشّحين حريّة ممارسة حقوقهم
وتؤمّن الإعلام والتهذيب المدني للمواطنين. بالتشاور مع الإدارة تتأكّد
اللجنة الوطنيّة المستقلّة للإنتخابات من صحّة وشفافيّة ونزاهة العمليّات
الإنتخابيّة بدءا من التسجيل في اللوائح وصولا إلى فرز الأصوات والإعلان عن
النتائج.
تتمتّع اللجنة الوطنيّة المستقلّة للإنتخابات بسلطة تعليق كلّ الإجراءات
التي من شأنها المساس بنزاهة وانتظام الإنتخابات. إنها لجنة جماعيّة تتكوّن
من 15 عضو على المستوى الوطني ويتوفّر لها على المستوى الجهوي والمحلّي 97
لجنة (13 لجنة انتخابيّة جهويّة و 53 لجنة انتخابيّة مقاطعيّة و31 لجنة
انتخابيّة بالمراكز الإدارية ). تمتلك اللجنة وسائل بشرية وماديّة وضعتها
الدولة تحت تصرّفها، وتستفيد فضلا عن ذلك من الدعم المالي المقدّم من
الشركاء في التنمية. كلّ هذه الموارد تخضع للتدقيق والمحاسبة.
يؤدّي أعضاء اللجنة الوطنيّة المستقلّة للإنتخابات يمينا للعمل على إنجاز
الأهداف الأساسيّة للتنافس الإنتخابي بكلّ حياديّة وتجرّد، كما أنّ طاقمها
اللاّمركزي يقع تعيينه من قبلها حسب معايير النزاهة والتجرّد والحياد.
لاحظنا حضورا واضحا لممثّلي اللجنة في مكاتب الإقتراع حيث كانوا مكلّفين
بمراقبة الإقتراع فيها، كما بفرز الأصوات وإعداد تقرير خاص للجنة الوطنيّة.
وقد حرصت وزارة الداخليّة الموريتانيّة من جهتها على ضمان الحياد، حيث وضعت
على ذمّة أعضاء مكاتب الإقتراع دليلا يتضمّن بصفة تفصيليّة جميع الجزئيّات
الخاصّة بعملهم، كما مكّنت جميع المراقبين والملاحظين من الوقوف على
الشفافية الكبيرة لعمل المكاتب.
ثانيا : الجانب السياسي
ضمور الخطاب السياسي في الحملة
وحضور العصبية والمال في الإقتراع
لا شكّ أنّ العمليّة الإنتخابيّة لئن كانت في حد ذاتها ذات طابع تقني
فإنّها في مضمونها وجوهرها ذات مدلول سياسي مكثف. خاصّة في بلد يخطو أوّل
خطواته في التداول السلمي على السلطة وقد خرج لتوّه من نظام دكتاتوي عسكري
جثم على صدره منذ حقبة طويلة.
هذه الوضعية الإنتقاليّة للشعب الموريتاني لا شكّ أنّها ستلقي بظلالها
وستتحكّم إلى حدّ كبير في المحتوى السياسي للعمليّة الإنتخابيّة الأخيرة
التي كانت مثالية في جانبها المؤسساتي الإداري كما أسلفنا. وفعلا عندما
نحوّل إهتمامنا للمحتوى السياسي للعمليّة الإنتخابيّة ليس بوسعنا الاّ
تسجيل ضمور هذا المحتوى ومحدوديّته على أكثر من صعيد ليس أقلّها الحملة
الإنتخابيّة. كما أنّ اتّجاهات التصويت كانت محكومة أكثر بتأثير العصبيّة
والمال.
-
الحملة الإنتخابيّة :
لقد عايشنا هذه الحملة طيلة أسبوع كامل ولاحظنا نسبة الحرية التي يتمتّع
بها الموريتانيون في التعبير عن آرائهم، سواء تعلق الأمر بالملصقات أو
بتنظيم الإجتماعات والمهرجانات. نذكّر أن التلفزيون الموريتاني أفسح المجال
للمرشحين لعرض وجهات نظرهم ولم نسمع بأي شكوى بخصوص توزيع الحصص. كما لمسنا
الجوّ المسالم الذي كان سائدا، حيث لم نشاهد أو نسمع عن أيّة عمليّة تبادل
عنف جسدي أو لفظي بين أنصار المرشحين. العكس هو الذي كان واضحا. الأمر الذي
أدهشنا كثيرا حيث بدا الجو أقرب منه إلى جوّ أعراس متجاورة منه إلى حملة
إنتخابيّة ستقرر مصير البلاد. وطوال الأسبوع، خاصة عند زيارتنا مختلف
الخيام، استمعنا إلى النقاشات التي كانت تدور بين الموريتانيين والتي كانت
خالية من كلّ تشنج، (بل وأحيانا تميل للمزاح والهزل وكأنّ المواطنين لا
يحملون على محمل الجدّ حتى تجندهم لهذا المرشّح أو ذاك). وكأن مجرد التقدم
للاقتراع والترشح خلق أجواءا احتفالية لم يعتد عليها الموريتانيون.
مما يسترعي الإنتباه أيضا المكانة المتميّزة للمرأة، وإن كان من المؤسف عدم
وجود ولو مرشحة واحدة بين التسعة عشر مرشّحا. حضورها كان كبيرا في الحملة
وليس فقط للأداء الغنائي داخل الخيام.
لكن بالمقابل، اعتمدت الحملة الانتخابية كثيرا على الإشهار لشخص المترشّح
وليس لبرنامجه السياسي. وكأنّ الموضوع ليس اختيار الرجل الأنسب لقيادة
البلاد وإنما الأكثر أبهة وثراء وكرما وقدرة للوصول بأساطيل السيارات إلى
المناطق النائية. فقد تنافس المرشحون في تقديم الخدمات الترفيهية أكثر مما
تنافسوا في الدفاع عن برامجهم.
لا يتوفر لدينا معطيات حول تكلفة الحملة بالنسبة للمرشحين التسعة عشر، لكن
من البديهي أن بعض المترشّحين كانوا أكثر تواجدا من غيرهم وبالتالي أكثر
حظا. ويشار هنا لدور رجال الأعمال الذين كونوا ثروات طائلة تحت حكم ولد
الطايع ولعبوا حسب مخاطبينا من الموريتانيين دورا هاما في تمويل بعض
المرشحين دون غيرهم.
لا شكّ أنّ مسألة تمويل الحملة الإنتخابيّة هي قضيّة في غاية الأهميّة
خاصّة في موريتانيا حيث كان المال هو عصب الإنتخابات السابقة. وحضور المال
كان واضحا في الحملة الحاليّة. ذلك أنّ القانون الإنتخابي الموريتاني لم
يتولّ تحديد سقف مالي لكلّ مترشّح، ولا يطالبه بالتصريح بأملاكه وبثروته.
كما أنّ أي من المترشّحين لم يقدّم مشروع ميزانيّة لحملته ولم يقع الكشف عن
مصادر تمويله.
هذه المسألة نقيصة أساسيّة يتعيّن الإشارة إليها بشدة لما لها من تأثير في
نتائج الإنتخابات. لقد إعتبر المترشّح ولد مولود، رئيس حزب اتّحاد قوى
التقدّم، أنّ " أموالا طائلة استثمرت في شراء الولاءات والذمم كانت وراء ما
حصل من صعود صاروخي لبعض المرشّحين ". الاّ أنّنا في ذات الوقت لا يمكننا
الاّ تسجيل اجماع مختلف الفرقاء السياسيين عن أنّ الأموال المبذولة في
الحملة هي أموال خاصّة وليست أموال عموميّة.
هذه العوامل أدّت إلى ضعف الجدل السياسي وحصر الخطاب الإنتخابي في
الصبغة الإشهارية فكأنناّ بنواكشوط وبقية المدن والبوادي قد جدت في الحملة
فرصة لقطع رتابة الحياة والتمتع بشيء من الترفيه. هكذا أصبحت المطربات
الشهيرات جزءا من " القوة الضاربة " لدى المرشحين القادرين على التعويل
على خدماتهن. كذلك يخيل لمن تابع العملية أنّ المطلوب هو ترويج بضاعة بكل
وسائل الإشهار الحديثة، وهذه البضاعة ليست أفكارا وبرامج وإنما صورة وخصال
شخص.
يضاف لهذا أن الوقت لم يكن كافيا لعموم المواطنين للتعرف على كافة
المترشحين نظرا لعددهم. وهو ما يفسر أن الكثير منهم بقوا مترددين حتى آخر
لحظة بخصوص الذي سيصوّتون له.
إنّ غياب المضامين السياسيّة كان عموما السمة الأبرز للحملة الإنتخابيّة،
على الأقل في دورتها الأولى. فالمترشّحون أنفسهم لم يكن هاجسهم الأساسي
التعريف ببرامجهم وأوجه إختلافها مع برامج منافسيهم. ناهيك عن أنّ أغلبهم
قد استغلّ الحصّة التلفزيونيّة المخصّصة له في نقل صور عن تنقّلاته داخل
البلاد والخيام التي نصبها والمطربات اللاتي قمن بتنشيط السهرات فيها.
مؤشّرات تدلّ كلّها على ضمور العامل السياسي البرامجي للحملة الإنتخابيّة.
وكأن القوم يعرفون مسبّقا أنّ التصويت لن يكون حسمه على ضوء خصوصيّة
البرنامج السياسي لهذا المترشّح أو ذاك بل أنّه سيتحدّد بعوامل أخرى.
هناك أمور أفرزتها الحملة الإنتخابيّة تستحقّ الوقوف عندها ولا يمكننا
إلاّ ان نسجّلها، وهي بعض المسلكيات التي كانت حاضرة بقوّة خلال الحملة
الإنتخابيّة. من مثل إطلاق الشائعات قبل وأثناء وبعد عمليّة الإقتراع،
والتي كانت تقف وراءها جهات تتّهم بأنّها تحاول القفز على معطيات قد تسفر
عنها نتائج صناديق الإقتراع. وعلى الرغم من ذلك، ظلّت الصبغة السلميّة
للإنتخابات واقعا ملموسا. ويظهر أنّ اللجنة الوطنيّة المستقلّة قد ساهمت
بشكل كبير في إيجاده عبر " مدوّنة حسن السلوك " التي إقترحتها ووقعت عليها
يوم 07 سبتمبر 2006 كافة الأحزاب السياسيّة. تضمّنت هذه المدوّنة مجموعة من
المبادىء والقيم التي تنظّم مسلكيّات ومواقف وخطابات الفاعلين السياسيين،
مثل خوضهم حملة إنتخابية هادئة وتأطير أنصارهم وقبول حكم صناديق الإقتراع
مهما كان.
- اتّجاهات الإقتراع :
يمكن القول بأنّ الإنتخابات الموريتانية، ورغم ما حظيت به من إشادة من كلّ
الأطراف السياسية والمراقبين، كانت انتخابات عرقيّة وجهويّة بل وقبلية
أيضا. وهو ما يفسّره البعض بالنتائج الباهرة التي حقّقها المرشّحون في
مناطق ينتمون إليها قبليّا وأخرى متدنّية في مناطق تصنّف هي الأخرى ضمن
طابور هذا المرشّح أو ذاك. ففي مكتب المنطقة الخامسة بنواكشوط مثلا - وهي
منطقة بالغة الفقر يسكنها من يسمون الزنوج الأفارقة - اكتشفنا عند الفرز أن
الأغلبية الساحقة للأصوات ذهبت للسيد مختار ابراهيما صار، وهو من المنتمين
لهذه الأقلية العرقية. في حين أن هذا المرشح لم يحصل إلا على المرتبة
الخامسة على الصعيد الوطني.
هذه الظاهرة أكدها لنا كل من تحدثنا إليهم. فالعوامل الأساسية التي تحكمت
في الخيار كانت القبلية والعرقية والمال وصورة الشخص التي وقع
تسويقها كما رأينا حسب تقنيات الإعلان التجاري. مما أكد هذه الظاهرة
النتائج الهزيلة التي حصل عليها السيد ولد حنانة (,6
7%)
والسيد ولد مولود (
4%)،
وكلاهما ترشح على أسس سياسية: الأول كممثل للتيار القومي والإسلامي،
والثاني كممثل للتيار اليساري.
بالإضافة لذلك لا بدّ أن نشير إلى ما ذكره لنا العديد من النشطاء من أنّ
المفارقة في التجربة الموريتانية تتمثّل في جدية اللجنة الوطنية المستقلة
للانتخابات وحياد الإدارة من جهة، ومن جهة أخرى التدخل السياسي المتواصل
للسلطة للتأثير على مجرى الانتخابات. وكأن هناك سياستان ورأسان مدبران وراء
العملية.
هذه العناصر تجعلنا في تفاعلها نقرّ بأنّ حصيلة الإنتخابات الموريتانية في
مضمونها السياسي كانت بمثابة الترجمة الأمينة لتواصل حجم المال السياسي
والتوظيف القبلي والدعاية الجهويّة. يضاف لها توجيه السلطة القائمة
للفاعلين السياسيين قبيل الإستحقاقات خصوصا.
الإستنتاجــــات
مهما كان الأمر، من الصعب جدّا إصدار حكم نهائي على ظاهرة لم نعايش منها
الاّ بعض ملامحها ولم نر منها الاّ واجهتها. لذلك حاولنا عبر ساعات طويلة
من النقاش مع أصدقائنا الموريتانيين النفاذ إلى ما وراء الستار. وفي حدود
ما أمكننا معاينته في الدورة الأولى، وفي حدود ما استطعنا فهمه من ساعات
طويلة من التحاور مع جلّ الاطراف التي قابلناها، وإستنادا إلى قناعة شخصيّة
هي نتيجة تجربتنا السياسية والحقوقية، يمكن التأكيد بأننا أمام تجربة
وليدة. باعتبار أنّ تنظيم انتخابات نزيهة من الناحية التقنية ليس بالأمر
السهل. كما أن نجاح الموريتانيين في هذا المضمار دليل على نضج كبير لدى كل
الأطراف. ولا ننسى أن النواقص التي تعرضنا لها، مثل قضية التمويل، وحتى
التدخل الخفي للاعبين من وراء الستار، موجودة في كثير من البلدان العريقة
في التجربة الديمقراطية. لذا فاحترامنا الكبير لأشقائنا الموريتانيين من
جهة، واحترامنا الأكبر للحقيقة، هو الذي جعلنا نسجل النواقص السياسيّة
المذكورة على أمل أن تقع معالجتها وتجاوزها في التجارب المقبلة.
خاتمة مؤقتة
يبقى أن نردّ على السؤال الذي كان منطلق مهمتنا، أي مدى جدية العملية
كلها، خاصة بعد فوز السيد سيدي ولد عبد الله، المحسوب على طرف قوي داخل
المؤسسة العسكرية. حيث أن المأمول من الانتخابات الديمقراطية هو التغيير
الحقيقي لتجاوز مخلفات آفة الاستبداد، أي تغيير نظام الحكم السابق وليس
تجديده باستبدال شخص بآخر. فالسؤال الكبير الذي تطرحه الانتخابات
الموريتانية هو إن كان بمقدور النظام الاستبدادي حماية مصالح المنتفعين من
العهد السابق والمواصلة في ثوب جديد، عبر الاستعمال الذكي لآليات
الديمقراطية نفسها ؟
فإن كان الجواب بالايجاب، يمكن القول بإنّ التجربة الموريتانية هذه لن تكون
تلك التي علق عليها الديمقراطيون العرب بعض الأمل لتصفية الاستبداد بوسائل
سلمية. وإنما ستكون نموذجا قد تجد فيه الأنظمة الاستبدادية حلا لأزمتها. ما
يمكن أن يقوله النموذج الموريتاني لها هو أن هناك بديل للنموذج القديم (
الانتخابات التاسعة والتسعينية وتزييفها الساذج ) التي تقاتل أنظمة متخلفة
للحفاظ عليه إلى نموذج أرقى يتمثل في التعويل على الأمية السياسية الواسعة
الانتشار داخل الشعب والتي نماها وسهر عليها الاستبداد. كذلك الاستثمار في
جوادين أو أكثر بالمال والنفوذ الخفي وخلق أكبر عدد ممكن من الترشحات
الرامية لتوزيع أصوات المعارضة. كل هذا في ظل دستور يضمن صلاحيات واسعة
للقادم الجديد تمكنه من المحافظة على هيكل النظام وتوابعه، أي على مصالح
ونفوذ الأجهزة الأمنية والمافيات الاقتصادية.
من الثابت أن النظام السياسي الموريتاني هو الآن في مفترق طرق، ولا يمكن
التنبؤ بالمسار الذي سيأخذه. فإما أن يتواصل نفوذ الأجهزة والمافيات في ظل
حكم مدني صوري عاجز عن حل المشاكل الاقتصادية الضخمة، وسرعة العودة للتضييق
على الحريات، وآنذاك سنكون قد شاهدنا فعلا النجاح الأول للنموذح المتطور في
تواصل الدكتاتورية... وإما ستغتنم المعارضة مساحة الحريات التي حصلت عليها
قبل وإبان العملية الانتخابية لجعل التراجع عنها مستحيلا. بالتأكيد يفهم
الرئيس المنتخب حجم الآمال المعلقة عليه، بحيث يمكننا من القول أن آخر حيل
النظام الاستبدادي للتواصل عبر استعمال بالغ الدهاء لآليات الديمقراطية قد
فشلت وأن السحر انقلب على الساحر.
تهنئة وشكر
في نهاية المطاف، تتوجه اللجنة العربية لحقوق الإنسان بالتهنئة للشعب
الموريتاني على نجاحه في تنظيم انتخابات ديمقراطية وشفافة، وعلى المناخ
السلمي الذي انطلقت منه وانتهت اليه. كما وتهنئ الأحزاب السياسية ومنظمات
المجتمع المدني على هذه التجربة الرائدة في موريتانيا، آملة أن يتواصل
نموها وتجذرها ونجاحها في ضمان المزيد من الحقوق والحريات للشعب
الموريتاني، بما يؤدي بداية لزوال جيوب الفقر المذل في نواكشوط وخاصة أحياء
المنطقة الخامسة أو "كبّة" وغيرها. كما تأمل تطوير الأخوة العربية
الأفريقية كي تكون موريتانيا الديمقراطية همزة الوصل الناجحة بين الوطن
العربي وشعوب أفريقيا جنوب الصحراء.
كذلك تهنئ كل المرشحين على جهودهم والروح الرياضية التي أبدوها إبان الحملة
وعند نهايتها، بمن فيهم الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله الذي
تنتظره مهمات صعبة وحساسة. فموريتانيا اليوم أمام منعطف مصيري، من
احتمالاته التي يتأملها المجتمع، نهاية عهد الفساد وحكم الأجهزة واكتظاظ
السجون بالرهائن السياسيين. الأمر الذي لا يحول دون وجود خوف من عودة آفة
وعاهة الاستبداد التي كلفت الشعب والأمة غاليا.
وتعرب البعثة عن بالغ شكرها للسادة صالح ولد حنن ومحمد ولد مولود ومسعود
ولد بلخير وسيدي ولد الشيخ عبد الله، المرشحين الذين استقبلوا ممثليها
وأفادوهما بكثير من المعلومات الهامة. كما تعبر عن خالص امتنانها للسيد
أحمد ولد بابا أمين والدكتور محمد ولد بوعليبة، وعن عميق شكرها لأعضاء
المجتمع المدني لعونهم الكبير وعلى وجه الخصوص السيدة امناتو منت علي
والسادة محمد محمود ولد معلوم
وبدّي ولد
ابنو وأحمد
فال ولد الدين ومحمد فال ولد اكاه ومحمد الأمين ولد الكتاب وبوبكر مسعود
وممادو مختار صار.
C.A. DROITS HUMAINS -5 Rue
Gambetta - 92240 Malakoff - France
Phone: (33-1) 4092-1588 * Fax:
(33-1) 4654-1913 *
Email:
achr@noos.fr
http://www.achr.nu
عودة إلى الرئيسة |