إعلان حكومة الوحدة الفلسطينية
يمثل, وبكل المعايير, انعطافة مفصلية في تاريخ النضال الفلسطيني في
العقود الأخيرة,
وتحولاً جوهرياً في طبيعة النظام السياسي الفلسطيني. إنها المرة الأولى
التي تتوافق
فيها القوى الفلسطينية على تحالف جبهوي من دون سيطرة مطلقة لتيار رئيسي
على بقية
القوى, وتلتقي بناءً على معطيات موضوعية أفرزها الواقع, وليس سياسات
المحاصصات
المسبقة, أو الضغوطات المفروضة من قبل قيادة كارزمية أو أبوية. وهي
المرة الأولى
التي تتوافق فيها "فتح" و"حماس" تحديداً وعبر مخاض عسير على برنامج
سياسي مشترك,
فيلتئم الوطني والإسلامي على صعيد واحد.
الأمل كبير بأن تتعمق وتترسخ التوافقات
والأرضيات التي قامت عليها هذه الحكومة, رغم أن التحديات التي تواجهها
ستكون هائلة,
داخلية وخارجية. داخلياً سيكون التحدي الأبرز هو ضمان استمرار الحكومة
وتسييرها
بشكل متناغم لتعمل على تحقيق برنامجها, ويتمثل التحدي الثاني في الوضع
الأمني وضبط
إيقاع التهدئة بشكل جماعي يقطع على إسرائيل توفير أي مسوغ يمكن أن
تستخدمه لمواصلة
سياستها العسكرية الباطشة, وبالتالي يزيد من كشفها دولياً. كان من
المؤمل داخلياً
أن تنضوي "الجبهة الشعبية" و"الجهاد الإسلامي" تحت سقف حكومة الوحدة,
ولا تبقيان
خارجه بقرار هو أقرب إلى المزايدة الحزبية منه إلى الانصياع لمنطق
المصلحة الوطنية
العليا.
خارجياً, سيكون المطلوب من هذه الحكومة ليس فك الحصار الاقتصادي الظالم
على الشعب الفلسطيني فحسب, بل والمبادرة بإطلاق هجوم دبلوماسي موسع
وعلى مستوى دولي
ضد إسرائيل، وبهدف انتزاع الحقوق الفلسطينية. جدول المهمات الوطنية
المُلح يتضمن
وقف وإزالة الجدار العنصري, وتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية, ووقف
تهويد القدس,
وذلك كله في سياق سابق أو موازٍ لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ومتواصلة
وذات سيادة.
الموقف الفلسطيني الآن وكما هو معبر عنه في برنامج الحكومة ورسالة
التكليف يمتاز
بقوة ومتانة تؤهلانه للإمساك بزمام المبادرة إقليمياً ودولياً فيما
يتعلق بملف
الصراع مع إسرائيل. ومع إعلان احترام الاتفاقات السابقة التي وقعتها
"منظمة التحرير
الفلسطينية" وتأكيد رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية على مبدأ
الدولة
الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة (وتأكيدات مماثلة لذلك من خالد
مشعل رئيس
المكتب السياسي لـ"حماس" في الخارج) لا يظل مسوغ لأي كان لمواصلة
مطالبة
الفلسطينيين بتحقيق شروط إضافية. كما لا يستطيع أي طرف من الأطراف,
أميركا أو
أوروبا تحديداً, من الآن فصاعداً تأليب جهة فلسطينية على جهة أخرى عن
طريق فرض
اشتراطات أمنية محددة. في السابق كان تُفرض على السلطة الفلسطينية شروط
مستحيلة من
قبيل نزع سلاح المقاومة كشرط للاستمرار في أي عملية تفاوض. لم تستطع أي
سلطة تحقيق
ذلك الشرط. الآن "السلطة والمقاومة" صارتا في كرسي الحكومة. وعلى
الموقف الفلسطيني
أيضاً أن يستثمر وحدة الصف والبرنامج ليخاطب قوى إقليمية ودولية من
منطق أن هذه
اللحظة الفلسطينية الجامعة هي اللحظة الوحيدة التي يمكن فيها
للفلسطينيين أن يقدموا
موقفاً موحداً, لا مجموعة مواقف استقطابية يذري أحدها الآخر خلال
التمترس في مسارات
متعاكسة.
وعلى الموقف الفلسطيني الموحد أن يستثمر مناخاً إقليمياً مواتياً أحد
عناصره المؤثرة التسابق من قبل قوى إقليمية متنافسة، لكسب ود
الفلسطينيين بهدف
الحشد الإقليمي ضد بعضها بعضاً. وأحد عناصره الأخرى هو التورط والفشل
الأميركي في
العراق الذي يلوي ذراع السياسة الأميركية في المنطقة, خاصة مع تزايد
نفوذ إيران,
وهو فشل تريد واشنطن أن تخفف من أشباهه الإقليمية, خاصة في فلسطين.
ولهذا فإن
الموقف الأميركي المعلن من الحكومة الموحدة, وهو رفض التعامل معها,
سيوازيه موقف
أكثر مرونة وهو غض النظر عن الدول والأطراف التي تتعامل مع هذه
الحكومة, وتدعمها.
ومن المفروض والمتوقع أن يستقوي الموقف الفلسطيني بموقف القمة العربية
القادمة في
الرياض التي قد تكون بمثابة "اتفاق مكة عربي", يدعم الموقف الفلسطيني
الموحد وعلى
قاعدة المبادرة العربية، التي يجب أن تُفعَّل وتُنشَّط وتُستخدم لإحراج
وحشر
إسرائيل والولايات المتحدة في أصعب الزوايا.
وعلى الموقف الفلسطيني أيضاً أن
يستثمر انزياحات مهمة جداً تتطور على صعيد دولي إزاء ما يحدث على جبهة
الصراع
العربي- الإسرائيلي, وخاصة في الملفين الفلسطيني والسوري. فالزخم
الدولي, حتى ولو
كانت العلاقات العامة فيه والتظاهر بالحرص على حل القضية الفلسطينية هي
جوهر
التحرك, أي على حساب أي جهد جدي في هذا السياق, فإنه مفيد ومن الممكن
أن يوفر
مناخات مواتية. والأصوات المتصاعدة والمتكاثرة سواء في الولايات
المتحدة أو الاتحاد
الأوروبي تؤكد على حقيقة بديهية وهي أنه من دون إيجاد حل عادل للقضية
الفلسطينية،
فإن الأمن والاستقرار في كل المنطقة سيظلان بعيدي المنال. لكن هذه
الحقيقة الصلدة
كانت في كثير من أروقة صناعة السياسة الغربية واحدة من البدهيات
المرفوضة دائماً.
ودولياً أيضاً, يمثل انفكاك الموقف الروسي, مثلاً, من مظلة الموقف
الغربي العام
في المنطقة خطوة كبيرة تحدث شروخاً مهمة في جبهة "الحصار الدولي" ضد
الفلسطينيين
وحكومتهم. وقريباً من ذلك موقف الصين ومعظم دول آسيا الكبرى. أما
أوروبياً فهنا
كذلك تتسع الشقوق وتكبر داخل مواقف دول الاتحاد الأوروبي, حيث تقف دول
مثل فرنسا
وإيطاليا مواقف أكثر تحرراً من سيطرة القبضة الأميركية التي بدت لفترة
وكأنها شبه
مطلقة. حتى في بريطانيا فإن الرأي الرسمي العام هو التعامل مع من هو من
غير "حماس"
من الحكومة, أي مع نصف الرسمية الفلسطينية أو أكثر بإضافة الرئيس "أبومازن"
إلى
التصنيف.
عربياً وإسلامياً, صار في حكم الواقع انتهاء الحصار على الحكومة
الفلسطينية وإعلان الاعتراف بها من قبل الغالبية الكاسحة للدول العربية
والإسلامية.
فبعد أن فتح "اتفاق مكة" أبواب الشرعية العربية والإسلامية على
مصاريعها، لم تعد
تركيا وماليزيا وإندونيسيا وباكستان وغيرها هي الدول الوحيدة التي
تتجرأ على
التعامل مع "حماس"، أو ما يتفرع عنها.
على صعيد إسرائيل وسياستها الوحشية
المستمرة، فإن هناك فرصةً كبيرةً للحكومة، كي تكشف تفاصيل الوحشية
الإسرائيلية في
ظل قلب ميزان المسوغات التي كانت تعتاش عليها تل أبيب خاصة تلك الناشئة
عن العمليات
الانتحارية. إن سياسة الإغلاقات والفصل العنصري وتقطيع أوصال الضفة
الغربية, وسجن
الفلسطينيين فيما وراء المعابر, كبيرها وصغيرها, وتوسيع المستوطنات,
والإذلال
اليومي للعرب, وغير ذلك مما لا يتسع المقام لحصره, يتطلب نهضة علاقات
عامة
ودبلوماسية فلسطينية نشطة مدعومة بشبكات الجمعيات والمنظمات المدنية
الفلسطينية
المنتشرة في العالم.
نريد أن نرى نفس الجهد الجهيد الذي بُذل من قبل "فتح"
و"حماس" في الدفاع عن مصلحة كل تنظيم خلال مفاوضات حكومة الوحدة، يُبذل
الآن في
تطبيق برنامج الحكومة ومنطلقاته وأهدافه. ويمكن الزعم وباطمئنان كبير
بأنه لو
يتواصل نفس الجهد الكبير المبذول ذاك، ويستنسخ خلال السنوات الثلاث
القادمة، ولكن
هذه المرة باتجاه الصراع مع إسرائيل, فإن انعطافات أخرى كبيرة ستتحقق.
19
عن الاتحاد 19 مارس 2007
مارس
2007
19
مارس 2007