فلت من العقاب ؟ أجل ، لكنه مات مجرما

  المصطفى صوليح

                                                               

أولا ـ نبأ غير عادي

في يوم الأحد 10 دجنبر ، الموافق لليوم العالمي لحقوق الإنسان ، أعلن تلفزيون الشيلي ، نقلا عن المستشفى العسكري بسانتياغو خبر وفاة الجنرال و الرئيس و البرلماني السابق أوغيستو بينوتشي ، و هو في سن 91 عام بعد أسبوع من إصابته بأزمة قلبية . و على عكس ما يحدث عادة في مثل هذه الحالة حجت جماهير غفيرة من الشيليين متراقصة فرحا و مشعلة لفتائل الألعاب النارية نحو القصر الرئاسي في العاصمة ، شجبا منهم لأطوار عملية الانقلاب العسكري الذي قاده هذا الجنرال في سنة 1973 ضد الديمقراطية و زعيمها المنتخب سلفادور اليندي ، و كذا نحو الشوارع و الساحات العمومية في مدن أخرى،،، و لم تعلن الحكومة حدادا رسميا ، أما الجنازة فرغم أنها كانت عسكرية فإنها لم تتم بشكل رسمي ، و لم تحضرها ميشيلي باشيليت الرئيسة الحالية للبلاد و التي كانت إحدى ضحايا غرف التعذيب خلال العهد الديكتاتوري الذي استمر تحت رئاسة بينوتشي إلى غاية 1990 ، سنة عودة الديمقراطية إلى البلاد ، بل إن وزير الدفاع الذي كلف بهذه المهمة تعرض للشتائم داخل الكلية العسكرية حيث جرت مراسيم تشييع الجنازة بمشاركة اقتصرت على أفراد من عائلة بينوتشي و مناصري عهده الذين ما فتئوا يزعمون بأنه القائد القوي الذي يرجع إليه الفضل في إنقاذ البلاد من الوقوع في قبضة الشيوعيين و الشيوعية العالمية.

ثانيا ـ في شأن ردود الفعل

و لاشك أن ردود الفعل المتناقضة التي أبانت عنها الشيلي تجاه وفاة هذا الديكتاتور الذائع الصيت ، إنما تعكس بعضا من نفس ردود الفعل التي تعرفها دول مثخنة بجروح الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و من ضمنها المغرب بخصوص المسألة المعروفة بعدم إفلات الجناة من العقاب.و من ذلك أنه خلال الـ 15 شهر التي قضاها هو رهن الإقامة الجبرية  في بريطانيا في انتظار تسليمه إلى القضاء الإسباني لمحاكمته بناء على تهم تتعلق بممارسة التعذيب كان الضحايا المباشرون و غير المباشرين و جمعية أسر المعتقلين و المختفين بالشيلي مدعومة بالمدافعين عن حقوق الإنسان ، أفرادا و منظمات ، من شتى أنحاء العالم تهتف لانتصار قيم المساءلة و المساواة في العدالة و الإنصاف       و ترحب بعولمة القضاء الحامي للكرامة البشرية ما دام القضاء القطري إما فاسد أو ملجوم ، أو غير مستقل ،،، و في المقابل كانت هامات  دعاة " عفا الله عما سلف " و المصالحة من جانب واحد تكاد تتهاوى و كانت الغصة في حلوقهم تزداد اشتدادا . غير أنه حين تراجعت الحكومة البريطانية عن موقفها و مكنته في شهر مارس 2000 من العودة إلى البلاد التي عات فسادا في مواطنيها و مالها و ذلك بدعوى تقدمه في السن و مرضه المزمن ، كادت الصورة تنقلب ، خاصة و أن الذين عاينوا وصوله شاهدوه و هو يغادر الطائرة ماشيا على قدميه ، قائم الظهر ، و متعافي . لكن الجميع ظل ، مع ذلك ، محافظا على قدر من الأمل مفتوح المصراعين .

ثالثا ـ من اتهام بجرائم جسيمة إلى اتهام بالتستر عليها و بالفساد

إذا كان الطاغية بينوتشي قد فلت من العقاب ، فإنه مات و هو يحمل لقب مجرم . و الواقع أنه ، قبل ذلك ، لم ينعم بالراحة أبدا منذ عودته من لندن؛ فمحكمة الاستئناف في سانتياغو رفعت عنه الحصانة في 02  دجنبر 2004 لمسؤوليته عن اغتيال الجنرال التشيلي كارلوس براتس وزوجته صوفيا كوتبيرت في 30 شتنبر 1974.وسبق للقاضي التشيلي خوان غوسمان تابيا أن أوقفه  ستة أسابيع في فبراير و مارس 2001 في إطار اتهامه بقضية "قافلة الموت"، وهي عصابة عسكرية انتشرت في الشيلي في أكتوبر 1973 ، أي بعد شهر واحد فقط من وصوله إلى السلطة ، لإنجاز عمليات اغتيال  و اختطاف ضد المعارضين للديكتاتورية في البلاد . و بعد أن أقر الجيش التشيلي خلال شهر نونبر 2004،و لأول مرة ، بمسؤولية العسكريين عن انتهاكات حقوق الإنسان في عهد النظام الديكتاتوري.            و سمحت حكومة الرئيس ريكاردو لاغوس في بداية شهر يناير من نفس السنة بتداول تقرير مفصل عن التعذيب في عهد هذا النظام، توج القاضي غوسمان عمله بالإعلان عن أنه أمر بوضع الدكتاتور السابق اوغستو بينوشيه في الإقامة الجبرية واتهامه رسميا بالجرائم التي ارتكبت للقضاء على المعارضين اليساريين والنقابيين في شيلي أثناء حكمه الذي امتد من 1973 إلى عام 1990 ، موضحا أن الصحة العقلية للمتهم، تسمح بمحاكمته و ذلك بالنظر إلى           " وجود ترابط منطقي وفهم للأسئلة وردوده المناسبة " خلال استجوابه في 25 شتنبر 2004 ، و كان قرار الاتهام قد تركز حول قضية احتجاز و قتل دون العثور على جثث تسعة من ضحايا عملية " كوندور " التي استهدفت تصفية  معارضين يساريين ويساريين متطرفين للأنظمة الديكتاتورية في أميركا اللاتينية في السبعينات (الأرجنتين وبوليفيا     و البرازيل و تشيلي و باراغواي و أوروغواي).

و رغم أنه لم يثبت أن هناك منتهكون لحقوق الإنسان دون أن يكونوا فاسدين أو أن هناك فاسدون دون أن يكونوا منتهكين لحقوق الإنسان ، فإن المؤسف في هذا المسار القضائي هو أنه انتهى إلى تخفيف الاتهام الموجه ضد بينوتشي من اتهام بعشرة من جرائم جسيمة أودت بحياة 3000 من المواطنين التشيليين إلى اتهام بالتستر عليها ،و كانت النقطة الرئيسية في كل ذلك ، و التي سيستمر على كل حال التحقيق فيها ، هي اتهامه بتحويل 27 مليون دولار إلى حسابات سرية في بنوك دولية ، منها بنك ريكس الأمريكي الذي اعترفت إدارته بأنها أخفت بعض هذه الحسابات و أنها سوف تدفع منها تسعة ملايين دولار كتعويضات  للضحايا عبر مؤسسة سلفادور ألندي التي ستوكل إليها عملية إدارة هذه التعويضات انطلاقا من مركزها في مدريد .

رابعا ـ منحى التاريخ : سواء اليوم ، سواء غدا ،،، المساءلة لا بد منها

و الآن و بعد مواراة هكذا جاني قبره الأخير في يوم الثلاثاء 12 دجنبر 2006 ، و قد فلت من العقاب ، هل بإمكان جناة آخرين الاعتقاد بأنهم أصبحوا بمنأى عن كل مساءلة ؟ الواقع أن المؤشرات الدولية ، بالإضافة إلى أخرى وطنية ، تظهر توقعات مخالفة لذلك بالتمام . و يكفي سرد معطيات النماذج التالية للتأكد من أن منحى التاريخ يسير نحو تحقيق مبدإ ظل إلى أمد قريب لا يتعدى أن يكون أكثر من شعار هو القائل : سواء اليوم أو غدا فإن المساءلة لا مفر منها :

إعمالا لمبدإ " الصلاحية العالمية  " ، و بموجب اتفاقية نيويورك في شأن الإرهاب الموقعة في دجنبر 1994 ،       و تلبية لشكوى تقدم بها 05 موريطانيين أصدرت المحكمة الجنائية بمدينة نيم الفرنسية ، يوم فاتح يوليوز 2005 ، حكما غيابيا بالسجن 10 سنوات مع دفع تعويضات مالية للضحايا و لجمعيات حقوق الإنسان ضد النقيب الموريطاني علي ولد الداه بعد إدانته بممارسة التعذيب في بلاده ، سنة 1991 ، في حق عسكريين اثنين من السود الموريطانيين بذريعة مشاركتهما سنة 2004 في محاولة لقلب نظام حكم الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد سيدي احمد الطايع ، كما أمرت هذه المحكمة بتنفيذ مذكرة بحث دولية لاعتقال هذا الجاني و إيداعه السجن لقضاء عقوبته ؛

بموجب قانون السلطة القضائية في بلجيكا ، و هو قانون يسمح لهذه الدولة بإجراء محاكمات خاصة بالاتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بغض النظر عن التراب الإقليمي الذي قد تكون وقعت فيه ، أصدر قاضي التحقيق دانييل فرانسيس في 19 شتنبر 2005 مذكرة اعتقال ضد الرئيس التشادي السابق حسين هبري اللاجئ بالسينغال و ذلك جراء ضلوعه في ارتكاب " جرائم اعتقالات جماعية وارتكاب جرائم قتل وممارسة التطهير العرقي والتعذيب ضد مجموعات وقبائل في جنوب تشاد خلال فترة حكمه التي امتدت ما بين عامي 1982 و1990 " .        و إعمالا لنفس المسطرة القانونية وجهت السلطات البلجيكية طلبا رسميا للسنغال من أجل تيسير تسلمها لهذا المتهم ؛  

على إثر قرار السلطة القضائية البلجيكية ، وبعد سنوات طويلة من النضال ، نجحت حوالي 300 منظمة حقوقية متحدة في الائتلاف ضد الإفلات من العقاب في الضغط من أجل محاكمة حسين هبري الملقب ببينوتشي الإفريقي ، حيث أعلن الرئيس السنغالي في شهر يوليوز 2006 انه سيطلب من البرلمان تعديل القانون السنغالي، بما يزيل العقبات التي تحول دون محاكمة  هذا المتهم في داكار ؛

في 07 نونبر 2005 اعتقلت سلطات الشيلي رئيس بيرو السابق ، من 1990 إلى 2000 ، ألبرتو فوجيموري بعد ساعات من وصوله إلى العاصمة سانتياغو و ذلك بناء على طلب من الحكومة الحالية لبيرو. و تواجه المتهم المذكور 21 تهمة منها الفساد والمسؤولية السياسية عن قتل 25 شخصا منهم طفل على يد فرق إعدام تم إحداثها في أوائل التسعينيات من القرن الماضي ؛

بموجب اتهامات وجهتها محكمة جرائم الحرب في عام 2001 ، تتمثل في عدم المبادرة إلى منع مقتل 150 صربيا    و مطاردة 150 ألف صربي من كرجينيا بإقليم كرواتيا في غشت 1995 ، و تشمل الإشراف على إدارة  حملة للنهب  و السلب ضد المناطق الصربية من نفس الإقليم،و بناء على  تعاون معلوماتي بين السلطات الكرواتية و سلطات الأمن الإسبانية ، ألقت هذه الأخيرة القبض على الجنرال السابق انتي جونوفيا يوم 07 دجنبر 2005 و تم نقله إلى مدريد حيث تم إسماعه التهم الموجهة إليه ، ثم إلى هولندا التي بها تم تسليمه لوحدة الاعتقال التابعة للأمم المتحدة التي أودعته لدى محكمة جرائم الحرب الدولية ليوغسلافيا السابقة ؛

بناء على طلب لم تكل منظمات دولية و محلية من رفعه عديدا من المرات ، أصدر مجلس الأمن الدولي في فاتح أبريل 2005 قرارا بتقديم مرتكبي جرائم الحرب في دارفور إلى المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية . و معلوم أن الحكومة ، من جهة ، و المتمردين ، من جهة أخرى ، هم مسؤولون هناك عن ارتكاب جرائم حرب أدت منذ سنة 2003 إلى مقتل 180.000 شخص و تشرد 1.8 مليون آخرين ؛

بعد 48 ساعة من إعلان ليبيريا عن مطلق حريتها في اعتقال تشارلز تايلور رئيسها السابق المطلوب للمثول أمام محكمة جرائم الحرب في سيراليون التي تواجهه بـ 17 تهمة بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية تعود إلى دوره الرئيسي في دعم متمردين عرفوا بقيامهم بالتمثيل بالمدنيين خلال الحرب الأهلية التي دامت من 1989 إلى 2003 ،،، أعلنت شرطة نيجيريا حيث ظل يقيم في المنفى منذ سنة 2003 ، في يوم 29 مارس 2006 ، خبر إلقائها القبض عليه؛

في يوم 28 شتنبر 2006 قضت المحكمة اليوغسلافية بلاهاي بسجن الصربي مومتشيلو كرايسكي لمدة 27 سنة على ارتكابه لجرائم ضد الإنسانية تمثلت في الاضطهاد و القتل و الإبادة و في جرائم التهجير و التطهير العرقي ضد سكان البوسنة و الهرسك غير الصربيين خلال الفترة بين 1991 و 1992 كما تمثلت في انتمائه إلى منظمة إجرامية؛   

أما بعد ،

إن القائمة ما تزال طويلة ، و هي تتضمن أسماء من مسؤولين في بلدنا بعضهم توفي و بعضهم تقاعد أو أزيح من منصبه و البعض الآخر ما يزال في الخدمة ، فهل سيبادر قضاء بلدنا المغرب إلى مجابهتهم بالتهم التي ما يزال ضحاياهم يلحون على كشفها ، فيصدق القول عندها إننا بحق سباقون في شمال إفريقيا و الشرق الأوسط إلى إعلان القطيعة بشكل نهائي مع تكرار فظائع الماضي ضد الاحترام المستحق لجميع الناس ؟ أم لا بد و أن ننتظر مآل الدعاوي المرفوعة و التي قد يتم رفعها ، عاجلا أو آجلا ، ضد هؤلاء الجناة لدى قضاء أجنبي ؟ كيفما كان الحال ، فكما حدث بالنسبة لبينوتشي ، فالذين قد يفلتون من العقاب سيموتون ذات مرة و هم يحملون صفة مجرمين .

 

*المصطفى صوليح  El Mostafa Soulaih ، من المغرب ، كاتب ، باحث ، و مؤطر ، في مجال التربية على حقوق الإنسان و المواطنة – من أطر اللجنة العربية لحقوق الإنسان ( باريس ) . elmostafa.soulaih@menara.ma