هناك فارقٌ أساسي بين فكرة «الحرب المنسيّة» وبين الجدال والتقاذف الذي يدور باستمرار، خلال الحروب، عن «المقاييس المزدوجة» و»الكيل بمكيالين» وحملات البروباغاندا التي تبثّ سرديّة أحادية عن الأحداث، وتقدّم الأحداث كموقفٍ سياسي، وتجعل المشاهد حاملاً ــــ أو خادماً ــــ لهذا الموقف.
في الحالة الثانية انت تملك، وإن جزئياً، خيارٌ وإرادة. من الممكن لك ــــ إن شئت ــــ أن تعرف ما يجري في حلب والزارة والعراق، وهناك مئات التقارير والروايات عنها (بمقدار التلاطم الدولي عليها)، وفي وسعك أن توازن بينها وأن تحاول اقتفاء الحقيقة وتكوين موقفٍ مستقلّ. وبإمكانك ايضاً أن توكّل عقلك الى غيرك وتستمع الى الإعلام وتتماهى معه وتنضمّ الى ركب البروباغاندا؛ وحتّى حين تتجاهل أحداثاً وضحايا ووقائع معاكسة لموقفك، وتسقطها من عالمك، فأنت هنا تأخذ ايضاً خياراً، وهو خيارٌ سياسي وفكري (المفارقة هي أنّ الإعلام، في المبدأ، من المفترض به أن يساعدك على معرفة ما يجري وجلاء الأحداث المعقّدة، حتّى تتمكن من اتّخاذ موقفٍ على أساسٍ معرفي وواعٍ، لا أن يعلّمك عن الأخلاق ويخبرك عن الموقف المعلّب الذي يجب أن تستوي فيه).
أمّا في حالة «حربٍ منسية» كما في اليمن، فالجمهور لا يملك أساساً وسيلةً لمعرفة ما يجري، وأكثر الأحداث على الارض لا يتمّ نقلها؛ ونحن لا تصلنا صورٌ من صعدة ولا بثّ مباشر لأنّ اليمن هي حربٌ من «جانبٍ واحد»، ولا تنازع دولي عليها، والمؤسسة الغربية، على ما يبدو، تعتقد أن في وسعها «تمرير» هذه الحرب، وكأنّها لم ترتكبها وليست مسؤولة عنها، من دون أن ينتبه أحد.
إن كان هذا التعتيم يطال العناصر الأساسية في الحرب، فماذا عن ما يجري خلف الكواليس، وما يحضّر في الخفاء لمستقبل اليمن؟ هل يعرف الجمهور العربي، مثلاً، عن وضع الساحل الجنوبي لليمن، وملابسات «تحرير» المكلّا والشريط الواقع بينها وبين عدن، والذي كان في يد «القاعدة» لمدة سنة؟ هل انتبه الإعلام العربي الى الإعتراف الأميركي الرسمي، منذ أسبوع، بإنزال وحداتٍ أميركية في المكلّا، «تساعد التحالف في حربه ضد القاعدة»، وأن اليمن صارت فيه ــــ «رسميا» ــــ قوى غزو أميركية؟ جاء هذا الإعتراف، على لسان متحدث البنتاغون جيف دايفيس، بعد أسابيع من التسريبات والتقارير التي تتكلّم عن «قوات خاصة» و»مدربين» و»وحدات دعم» نزلت مع القوات الإماراتية الى البرّ اليمني. أمّا اليوم، فهناك مزاعم عن وجود أكثر من مئتي جندي أميركي في المكلّا (المرفأ الأساسي لتصدير النفط والغاز في اليمن) من مقاتلي الوحدات الخاصّة الأميركية، تدعمهم سفينة انزال بحرية ترسو قبالة خليج عدن وعليها أكثر من 1200 جندي من مشاة البحرية يشكلون «الوحدة 13 لقوات الحملة»، و»قوات الحملة» هي تشكيلات معدّة لأن تكون قوة تدخل سريع، ووحدة قتال صغيرة ومتكاملة تعمل في الأراضي الأجنبية والعدوة.
يوصّف باحثان في «مركز واشنطن للشرق الأدنى» الحملة في جنوب اليمن، والمركز صهيوني كما هو معروف، اذ أضحت المراكز القريبة من اسرائيل هي التي تحصل على المعلومات عن الحملات التي تجري في بلادنا (بسبب علاقاتها مع المؤسسة العسكرية الأميركية، وايضاً بسبب الانفتاح العلني للخليج ومسؤوليه على هذه المؤسسات في السنوات الأخيرة، فلا يكاد يخلو تقرير لها من اقتباس من جهات عليا في الخليج). يقول الباحثان، مايكل نايتس والكساندر ميلو، أن «التحالف» قد أعدّ ودرّب «تشكيلة» من القوى المحلية لاستعادة الشريط الساحلي وابعاد خطر «القاعدة» عن عدن، لا يجمع بينها سوى القيادة الأجنبية: في عدن أنشئت «ست وحدات من مئة فرد من مقاتلي المقاومة المحلية، تدعمها قوات خاصة اماراتية، فيما عملت وكالات الاستخبارات الخليجية مع السكان المحليين لإنشاء لائحة أهداف ضد القاعدة والدولة الإسلامية». أمّا لـ «تحرير» المكلّا، فقد تمّ إعداد «جيش» من مشارب كثيرة: 4500 مقاتل من وحدات الجيش اليمني الموالية لهادي، 4000 من قوى ميليشيا محلية «معادية للقاعدة»، و1500 مقاتل من قبائل حضرموت.
عبر هذه القوى، التي يقف فوقها ضباط خليجيون وفوقهم، في غرف العمليات، ضباط اميركيون، يريد الخليج والغرب أن يحكم اليمن. في مقابلة مع محافظ حضرموت، اللواء أحمد بن بريك، عن «التحرير»، لا يتردّد اللواء بذكر أفضال الراعي الأجنبي وقيادته: «لعب الأخوة الاماراتيون دوراً حيوياً عبر تقديم الدعم الجوي واللوجستي... هم درّبوا قوات النخبة لدينا لعامٍ كامل، ودفعوا رواتبها، وسلّحوها، وسيستمرّون بمدّ يد العون لنا حتى نقف على رجلينا». هذا هو «الجيش الشرعي» في اليمن، وفقاً للإعلام العربي، وهذه هي الحرب التي قامت من أجل «حفظ سيادة اليمن» وصدّ ايران ومنع «التغلغل الأجنبي» (وهم ما زالوا، الى اليوم، يصرّون على هذه السردية المترهّلة، ولا يعترفون بأن اليمن قد دُمّر ــــ ببساطة ــــ حتّى يظلّ تابعاً للخليج وقاعدةً للغرب، وأن قسماً من الجمهور العربي قد أيّد هذه الحرب لأسباب طائفية بلهاء).
مع تحويل اليمن، أو أجزاء منه، الى ساحةٍ تشبه ليبيا ــــ وهي «حربٌ منسية» أخرى ــــ وظهور مشاريع «تسوية» في سوريا والعراق تعد بأفقٍ مماثل، نجد أنفسنا أمام «خيار سليمان». لا ضرورة هنا للتذكير بنتيجة أكثر «التسويات الدولية» للنزاعات الداخلية في العقود الماضية، وأنّه حين يتّفق «المجتمع الدولي» على إحلال سلامٍ في بلدٍ ما، وتدخل القوى الأجنبية ووحدات الأمم المتحدة ومنظّمات حلّ النزاع والتدريب على الديمقراطية، فإنّ هذا البلد غالباً ما يلاقي مصيراً سيئاً؛ أو سلاماً ناقصاً وحرباً يمكن أن تتجدد في أي وقت ــــ من الصومال، الى البوسنة، الى لبنان والعراق ــــ أو ينجز هذا «السلام» بأثمان تاريخية هائلة، كما حصل في السودان ويوغوسلافيا، قد تكون اسوأ من الحرب نفسها. حين يتمّ التنازع على الوطن ومفهومه، ويتدخّل الخارج ويفرض خططه، فإنّ «الأمّ الحقيقية» للولد، كما في قصّة النبي سليمان، هي تلك التي ترفض تقسيمه ومسخه أو الاكتفاء بجزءٍ منه، فيما المرأة الكاذبة الطامعة هي التي ترضى بدخول نفق المساومات والتنازل (تحت أي شعارٍ ومن أجل أي غاية)، أو تفضّل أن يفنى الولد على أن يناله الخصم.
المصدر: صحيفة الأخبار اللبنانية/ 16-05-2016
|