الإتفاقيات الدولية، عموما، هي أطر للتعاون الدولي، وساحة من ساحات التفاعل الدبلوماسي، تناقضا وانسجاما، تعاونا وتصارعا بين مصالح الدول والمجموعات الاقتصادية والسياسية الدولية. لم تكن الإتفاقيات الدولية يوماً مُلزِمة، حتى وإن دلَّت بعض نصوصها على ذلك، بمعنى أنها تُجبِر الدول قسرا على القيام بإجراءات تتعارض جزئيا أو كليا مع استراتيجياتها، في فترة تاريخية محددة، تتسم بوضعٍ محددٍ لميزان القوى. فالإتفاقية في الغالب، هي إطار للتعاون وتبادل المعلومات وتنسيق الجهود وتبادل الدعم، لتحقيق منجزات تتراكم تباعا في اتجاه الإستراتيجة المشتركة التي تجسدها الإتفاقية. بعد سنوات طويلة من التفاوض بشأن وضع اتفاقية للتغير المناخي، ظهر في الواقع أن البحث عن توافقاتٍ ملزِمة تتضمَّنها الإتفاقية يشكل مقاربة هي أقرب إلى الخيال والتمني منها إلى إمكانية تحقُّقِها في نصوصٍ قانونية دولية تَخْضَعُ لها الدول بقوة الإلزام. وكانت تجربة بروتوكول “كيوتو” أكبر دليل على ذلك. فحتى لو توافقت بعض الدول على نصوص إلزامية، رأينا أن شرط تحقُّقِها في الواقع، هو تحوُّلها إلى سياسات في عدد كبير من الدول، متفاوتة التطور والنمو، ومتفاوتة القدرات المالية والتقنية، وتعيش حالات من التنافس، وأحيانا حالات من الصراع على مناطق النفوذ والأسواق ومصادر الطاقة. وتبيَّنَ أن هذا الشرط غير قابل للتحقق. إقرار نهائي بتغيُّر المناخ شكَّلت إتفاقية باريس للمناخ إطاراً لسياساتٍ وتوجُّهاتٍ استراتيجية في مجالات الطاقة، وإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، والعلاقات بما يتلاءم مع أهداف التخفيف والتكيف التي تضمَّنتها نصوص الإتفاقية. وشكَّلت إطارا ينظِّم آليات تعاون الدول، وتبادل المعلومات والتقنيات والتوظيفات المالية، ووسائل الدَّعم المالي والتقني والتطبيقي. ويعتقد كثيرون أن ذلك كاف لتيسير تطبيق هذه السياسات، وما يُشتَقُّ عنها من استراتيجيات وخطط وبرامج على المستويات كافَّة، العالمية والإقليمية والوطنية. إن عنصر القوَّة الجديد، الذي انعقد حوله إجماع لم يسبقْ له مثيل من قبل في باريس، والذي يشكِّل ضمانة موضوعية للسير بوضع وتطبيق سياسات منبثقة عن توجُّهات الإتفاقية العامة، هو الإقرار النهائي بعِلْمِيَّة الأسباب البشريَّة لظاهرة التغيُّر المناخي، والإجماع المنعقد حول تقدير مخاطرها الحاليَّة والمستقبليَّة. إن ما شهده العالم، في مناطق مختلفة، من ظواهر مدمِّرة مرتبطة بتغير المناخ، فيضانات وأعاصير وانجرافاتٍ للتربة وموجات حرارة مرتفعة وجفاف وموجات صقيع وعواصف ثلجية، وارتفاع لمستوى البحر وذوبان الكتل الجليدية، وتناقص غطاء الثلوج على القمم العالية، والخراب الذي رافق تلك الظواهر والخسائر المادية والاقتصادية والبشرية والاجتماعية، وما أدى أيضا إلى تأثيرات على الصحة العامة لملايين البشر، والتي قُدِّرت في السنوات الأخيرة بمئات مليارات الدولارات، طاولت بلدانا متقدمة وجزرا ومناطق ساحلية ومدنا كبرى في بلدان نامية وجزر فقيرة. إن كلَّ ذلك قد وَلَّد إقرارا شاملا بما يشكِّله التغير المناخي من خطرٍ حقيقي، مرشَّحٍ للتفاقم مستقبلا، ليأخذ مقاييس غير قابلة للتوقُّع في انعكاساتها السلبية، وصولا لأن تهدِّد بتغيُّراتٍ غير قابلةٍ للتصحيح تضع الحياة على الأرض موضِع تساؤلٍ جدِّي! هذا الإقرار والتسليم والإجماع المنعقد حوله، هو أكثر قوَّة وأكثر إلزاما من أي نَصٍ قانوني يندرج في فقرات إتفاقية دولية، حتى ولو كانت إتفاقية المناخ هذه. تأثيرات شاملة وعميقة كل دول العالم اليوم، وكل الأوساط العلميَّة المعْتَبَرة قد أجمعت على الإعتراف بحقيقة الأبحاث المتعلِّقة بتغيُّر المناخ، وبتأثيراتها على مختلف القطاعات والمجالات ذات الأهمية الكبرى على حياة كل الشعوب، وتطورها ونموها وأمانها الغذائي واستقرارها الاقتصادي والاجتماعي. تشمل تأثيرات تغير المناخ كل القطاعات. فقطاع المياه والموارد المائية مثلا، يعتبر من أكثر القطاعات تأثُّرا بالتغير المناخي لناحية كمِّيتها ونوعيَّتها وتجدُّد مواردها وإمدادات السكان والقطاعات الاقتصادية بها واستقرار منظوماتها البيئية. وكذلك قطاع الزراعة، المتأثِّر بما للتغير المناخي على الموارد المائية والدورة الهيدرولوجية لناحية كمياتها ونوعيتها، ونقصها، وتلوُّثها، ولناحية ما تلحقه الفيضانات واضطراب هطول الأمطار، من حيث كمِّياتها وتوزُّعها الزمني والجغرافي، من خسائر ونتائج كارثيِّة. والمتأثِّر أيضا بمساحات الأراضي الصالحة للزراعة وإمكانية تعرُّضها للخراب والتدمير، لناحية تعرُّضها لمزيد من التلوُّث بالمواد الكيميائية، ولناحية تخريب بنية تربتها وضعف خصوبتها ونقص أو زيادة رطوبتها، وجفافها وميلها نحو التصحُّر والقحْط. كل هذا من شأنه أن ينعكس تهديدا جديا على الأمن الغذائي لكثير من الشعوب. وتكون البلدان النامية والفقيرة أكثر هشاشة حيال هذا التهديد. تتأثر النُظُم البيئية، البَرِّية والبحرية والمائية والغابات أيضا، بتغير المناخ، فيؤدي إلى مظاهر اضطرابٍ في اتزانها وتخريبٍ في استقرارها، ما يمكن أن ينعكس على التنوع البيولوجي وتهديد بعض الأنواع بالإنقراض أو الهجرة. أمام كل هذه التأثيرات على المياه والمنظومات المائية، وعلى الزراعة والأمن الغذائي، وعلى إستقرار وإتزان المنظومات البيئية، نجد أن الصحة العامة تتأثر بقوة بكل تلك المتغيرات. فيؤدي نقص الموارد المائية وتلوُّثها إلى انتشار الأمراض، وتهديد صحة ملايين البشر بنقص المواد الغذائية والجوع، وما يترتب على كل ذلك من تراجعٍ خطيرٍ في الأمان الصحي ورفاه العيش لملايين البشر في كلِّ بقاع الأرض. ماذا سيحِلُّ بالنمو الإقتصادي والإجتماعي لكثير من شعوب الأرض مع ما يُحْدِثُه تغير المناخ من تأثيرات شاملة وعميقة تطاول كل مرتكزات اقتصادات الدول وعناصر نموها وتطورها لكي تُلبِّي متطلبات تزايد الحاجات المادية والخدمية والثقافية والمعنوية لشعوب الأرض قاطبة؟ ونرى أن الدول الفقيرة والنامية وشعوب الجزر الصغيرة أكثر هشاشة وضعفا حيال تلك المتغيرات. وهذا ما يجعل من التعاون الدولي، وتنشيط آليات مالية للدَّعم والمساعدة التقنية والمالية بغية تفادي إنهيارات اقتصادية وإجتماعية وصراعات وأزمات، تتسبب بهجرة ملايين البشر وتُحَوِّلهم إلى لاجئين في بلدان أخرى، حاجة موضوعية ضاغطة على الجميع، ولا سيَّما على الدول المتقدِّمة والغنية، حتى وإن لم يكُن هناك نصوصا تلزمها بذلك. منطقتنا العربية وحوض المتوسط نشهد على مستوى كل بلدان العالم، وخصوصا في البلدان المتقدمة صناعيا وتقنيا وعلميا، أن مسألة التخفيف من حِدَّة آثار تغير المناخ تتصدر الأولويات على مستوى الأبحاث العلمية في كل الجامعات ومراكز الأبحاث، وهي أيضا موضوع للتعاون العلمي والبحثي عالميا وإقليميا ووطنيا. فالتغيرات المناخية أصبحت واقعا، نشهد حلقاته المتنوعة بتأثيراتها المدمرة في كثير من البلدان سنويا، وكل المؤشرات تدلُّ على أنها ستستمر بالتفاقم لفترة طويلة، مما يستلزم وضع وتطبيق سياسات التكيُّف معها ومواجهتها في كل القطاعات، على مستوى كل بلد ومجموعة بلدان وعلى المستوى العالمي. هناك حاجة مُلِحَّة لجمع وإنتاج معلوماتٍ أكثر دقة لتحديد التدابير المطلوب القيام بها على مستوى البلدان، وكل بلد على حدة. لا أحد خارج مسؤولية البحث عن فهمٍ أكثر دقة وملموسية للآثار المتوقَّعة للتغير المناخي في كل منطقة، ومدى تأثُّر كل بلد بها، للتَمَكُّن من تحديدٍ دقيقٍ وفعَّالٍ ومجدٍ لإجراءات التخفيف من جهة، وسياسات واستراتيجيات وخطط التكيُّف من جهة أخرى. إن تداعيات تغير المناخ على القطاع المائي وآثاره الصحية المباشرة وغير المباشرة سوف تؤثر بشدة على كل مجالات التنمية الإقتصادية والإجتماعية. فشحُّ المياه، المتوقَّع في منطقتنا العربية وحوض البحر المتوسط، سينعكس سلبا على القدرة على تلبية الحاجات الحياتية للسكان، وحاجات قطاع الزراعة والري، وهو القطاع الأكثر حساسية حيال شحِّ الموارد المائية، وضعف القدرة على تجدُّدها نتيجة تناقص المتساقطات، أو عدم القدرة على الإستفادة منها، نظرا لاضطراب توزُّعها الزمني والجغرافي، وما تحدثه الفيضانات من دمارٍ وتلويثٍ وجرفٍ للتربة الزراعية. ومن جهة أخرى، ما تُحْدِثُه الحالات المتطرِّفة من مطرٍ غزيرٍ لفترة قصيرة من الزمن، أو نقصٍ حادٍ بالمتساقطات، بعيدا من معدَّلاتها السنوية المعروفة في منطقة معينة، وما تسبِّبُه من جفافٍ مستمرٍ ينعكس بشكل درامتيكي على الأمن الغذائي والصحي لشعوبٍ بأسرها. آثار بعيدة المدى هل ستنتظر الدول نصوصا إلزامية في اتفاقية دولية لكي تبادر إلى بذل الجهود لوضع سياسات التخفيف والتكيف، وللبحث الجدِّي في تكامل هذه السياسات مع سياسات واستراتيجيات التنمية؟ أم أنها ستنطلق في توفير الظروف الملائمة لتيسير وضع واعتماد تلك السياسات، ونشر الوعي والمعرفة العلمية الضرورية لذلك، وتعزيز المؤسسات والتشريعات وخطط حماية الموارد الطبيعية، ووضع الأطر لتنظيم إشراك كل الناس المعرَّضين والمهدَّدين في مواجهة المخاطر، والإنخراط بنشاط في تطبيق تلك السياسات والخطط والبرامج، المؤدية إلى ذلك بأعلى قدر من الفعالية، والعمل على وضع برامج ومشاريع مفصَّلة لكلِّ منطقة وقطاع. هناك أيضا آثار بعيدة المدى على القطاعات الإقتصادية، الزراعة والطاقة، والتنوع البيولوجي، وتدهور الأراضي وتراجع خصوبتها وتعرُّضها لمخاطر التصحُّر، وتغيُّر في مستويات المياه الجوفية ومنسوبها وكمياتها وجودتها واتجاهات تدفُّقها. وهناك أيضا إنعكاسات سلبية على التنمية الإجتماعية والتطور الحضري والنموِّ السكَّاني، ومخاطر على التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي ومكافحة الفقر والحدِّ منه. وكذلك على إنتاج المواد الغذائية كمَّا ونوعا، وتوافرها وارتباط ذلك بصحة السكَّان وسلامة المنظومات البيئية. نحن والعالم أجمع أمام ضرورة تعزيز القدرة على تخفيف مخاطر التغير المناخي والتكيف مع آثاره. وهذا يستلزم دمج تدابير المناخ في السياسات والاستراتيجيات والخطط والبرامج الوطنية لجميع البلدان، ورفع القدرات على مستوى التخطيط والإدارة، وانخراط الشباب والنساء والمجتمعات المحلِّية بفعالية أكبر في وضع وتطبيق هذه السياسات على مستوى كل بلد، وكل المناطق والعالم. ينشر بالتزامن مع مطبوعة الاعمار والاقتصاد greenarea /14-05-2016
|
|