أعلنت صحف عديدة في بلدان عربية مختلفة أنها على وشك وقف إصدارها الورقي والاكتفاء بموقع الكتروني، ففي لبنان مهد الصحافة العربية قررت يوم 15 آذار/مارس الماضي أربع صحف يومية هي "السفير" و"النهار" العريقتان، إضافة لـ"المستقبل" و"اللواء"، تسريح الصحفيين والتوقف عن الإصدار الورقي. وبالرغم من أن ناشر السفير طلال سلمان تراجع عن القرار، وكتب أن الصحيفة ستستمر في الصدور بالطاقم الصحفي نفسه، وفي صيغتيها الورقية والإلكترونية، فلا شيء يقي اليوم الصحيفة الورقية أو "الجورنال" كما كان يُسمى، من الاندثار المحتوم. وحتى في ديمقراطية عريقة تتسم بغزارة صحافتها، مثل سويسرا، أظهرت إحصاءات "معهد الأبحاث والدراسات حول وسائل الإعلام المنشورة" تراجعا في عدد قراء المطبوعات بعشرات الآلاف، وهي ظاهرة غزت جميع البلدان المصنعة، وتُعزى بالخصوص إلى الإنتشار المتزايد لوسائل الإعلام الإلكترونية. وفي العالم العربي زحف الإعلام الإلكتروني على الورقي فهزمه شر هزيمة، ففي لبنان يُرجح أن يكون الاحتجابُ هو المصير المحتوم لكل من "النهار"، التي لم تستطع صرف رواتب محرريها وموظفيها منذ أشهر، و"المستقبل" التي لم تصرف مستحقات العاملين فيها أيضا منذ أشهر عديدة، أما "اللواء" ففتحت باب الاستقالة للصحفيين والموظفين الذين لا يقدرون على تحمُل ظروف العمل القاسية في ظل التقشف السائد. ولم تقتصر الأزمة الاقتصادية التي تضرب وسائل الإعلام في لبنان على الصحف، بل امتدت أيضا إلى بعض القنوات والمحطات الإذاعية أسوة بـ"تلفزيون المستقبل" و"إذاعة الشرق"، بل وغمرت كذلك عددا من المواقع الإلكترونية، لكن ما أعاد بعض الأمل في استمرار نبض الصحف اللبنانية أن "السفير" عادت لتؤكد في مطلع الشهر الجاري على لسان رئيس تحريرها أنها لن تتوقف عن الصدور وأنها بصدد البحث عن شركاء للتغلب على أزمتها المالية. أزمات مالية خانقة وقد سبقت الصحافة الورقية في مصر نظيرتها اللبنانية منذ العام الماضي إلى هذا المصير الذي لا مناص منه مع تطور وسائط الاتصال الحديثة، ما يُهددُ بدفن الصحيفة الورقية والاستعاضة عنها بالموقع الالكتروني، لمواجهة أزمات مالية خانقة. ويتعلق الأمر هنا بالصحف الخاصة وليس بالصحف "القومية" (صحافة القطاع العام)، فصحيفة "التحرير" الأسبوعية أوقفت إصدارها الورقي منذ الأول من سبتمبر/أيلول العام الماضي، وقالت إنها أقدمت على هذا القرار بعد معاناة قاسية استمرت أكثر من سنتين. ولم تنقض سنة 2015 إلا وصحيفة "البديل" تُبصرُ المصير نفسه، بعدما عزا مجلس إدارتها القرار الذي اتخذهُ بوقف الإصدار الورقي، إلى "العزوف عن الصحافة المطبوعة واعتماد الغالبية على استخدام العالم الالكتروني". وفعلا كان العدد الصادرُ في 18 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي هو النسخة الورقية الأخيرة من الصحيفة، وفي الفترة نفسها بدأت صحيفة "المصري اليوم" تستعد للالتحاق بركب الصحف المُهاجرة من العالم الورقي إلى العالم الإفتراضي، وسط صراع حاد بين إدارة الصحيفة والمُحررين، الذين أيدتهم نقابة الصحفيين. وفي ليبيا جارة مصر أوقفت صحيفتا "قورينا" و"أويا" طبعتيهما الورقيتين واقتصرتا على إصدار إلكتروني، رغم كونهما صحيفتين عريقتين كانتا تصدران قبل ثورة 17 فبراير 2011. وفي الإمارات ورغم الأوضاع الاقتصادية الجيدة وضخامة سوق الإعلانات، اضطرت صحيفة "الإمارات اليوم" الناطقة بالانجليزية "Emirates Today" والتابعة لحكومة دبي، لوقف طبعتها الورقية مؤخرا والتحول إلى موقع إلكتروني. عشرون صحيفة مُهددة بالاحتجاب أما في الجزائر فتُواجه الصحافة الورقية صعوبات من نوع آخر، ولاشك أن تراجع إيرادات البلد من المحروقات أربك قطاعات كثيرة، وقد انعكس ذلك على مداخيل الصحف أيضا، كما أن الأزمة التي اندلعت بين شركة الطباعة العمومية والصحف التي تُطبع فيها حول ضرورة تسديد المستحقات، حملت ست صحف على التوقف عن الصدور منذ يونيو/حزيران الماضي. وهناك عشرون صحيفة أخرى تعتبر نفسها مُهددة بمصير مماثل إن لم تدفع المستحقات التي عليها، بعدما تلقت إشعارا من الشركة بضرورة اعتماد جدولة زمنية للتسديد. وأثار موقف الشركة تساؤلات عدة في الأوساط الإعلامية عمَ إذا كانت هناك دوافع سياسية وراء هذا الإجراء، بالنظر إلى أن الصحافة الورقية في الجزائر هي الأكثر تجاسرا على انتقاد السلطات، وخاصة رئيس الجمهورية، من الإذاعات والمحطات التليفزيونية؟ ويستدل مُحللون جزائريون على ما يقولون إنها "إجراءات عقابية"، بأن أولى ضحايا الضغوط المطبعية هما صحيفتا "ألجيري نيوز" (بطبعتيها العربية والفرنسية) و"الفجر" اللتان كانتا الأعلى نبرة في انتقاد الحكم. كما أن سوق الإعلان يُشكل مدخلا آخر للضغط على الصحف التي بات كثيرٌ منها مُهددا بتوقيف الإصدار الورقي والاكتفاء بموقع الكتروني، بسبب ضآلة الإيرادات من الإعلانات، التي تحتكرها تقريبا "الوكالة الوطنية للنشر والإشهار"، وهي بيد الحكومة. واللافتُ أن موقف الناشرين (أصحاب المؤسسات الاعلامية) يتقاطع في نقد هذه الظاهرة مع موقف النقابة الوطنية للصحفيين التي أبدت رفضها "الاستخدام السياسي لسلاح الإعلان"، ورأت أنه "بمثابة ابتزاز حقيقي استخدمته السلطة على الدوام سلاحا ضد أي إصدار ذي خط تحريري مُخالف أو حتى مُزعج (للسلطات)، الأمر الذي يُهدد عشرات من مناصب الشغل (فرص العمل)". ويُشبه موقف نقابة الصحفيين الجزائرية في هذا المضمار الموقف الذي عبرت عنه نظيرتها في تونس يوم 30 مارس/آذار الماضي، والتي حمَلت في بيان لها الحكومة مسؤولية المصاعب المادية التي تمر بها الصحافة المكتوبة، وحذرت من أنها ستدفع الصحف الورقية "إلى الإفلاس والتوقف النهائي". وأشارت إلى أن "حرية الصحافة والتعبير، وفي القلب منها الصحافة المكتوبة، هي أكبر مكسب تحقق للجميع بعد الثورة"، مُعلنة أنها تعكف على إعداد "خطة لتحرك يرمي للدفاع عن المهنة وحقوق العاملين فيها". وتُطالب نقابة الصحفيين التونسيين بمعاودة النظر في توزيع الإعلانات، الذي يتم حاليا بحسب قانون السوق، بُغية إنشاء هيئة مستقلة تسهر على توزيع عادل للإعلان، بالإضافة لإحداث صندوق لدعم الصحافة المكتوبة "يكون كفيلا بتأمين التمويل اللازم لإنقاذ القطاع من الانهيار". ظاهرة عالمية غير أن احتضار صحف ورقية في العالم العربي ليس ظاهرة خاصة بهذه المنطقة من العالم، وإنما هو ميل عام لا يكاد يستثني أي بلد، وخاصة البلدان الصناعية، ففي 26 مارس/آذار الماضي أصدرت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية طبعتها الورقية الاخيرة، بعد ثلاثين سنة من بداية صدورها (تأسست في عام 1986)، لتعلن بذلك انتهاء حقبة مهمة في تاريخ الصحافة البريطانية المكتوبة. واتخذت الصحيفة هذا القرار بسبب تراجع مبيعاتها في السنوات الأخيرة ما اضطرها إلى الانتقال نحو الصحافة الرقمية بشكل كامل، وجريا على عادات الصحافيين في بلاد الضباب أظهرت صُور بُثت في مواقع التواصل الإجتماعي العاملين في "الإندبندنت" يقرعون على الطاولات، وهو تقليد يُستخدمُ لدى رحيل أحد الزملاء لتوجيه التحية إلى روحه، لكن الراحل هذه المرة هو البيت نفسه وليس واحدا من سكانه. وأكدت الصحيفة في افتتاحيتها الأخيرة، "أننا سنتذكر هذا التحول الجريء نحو الصحافة الرقمية بشكل كامل كنموذج تحتذي به صحف أخرى في العالم"، وأضافت أن "اليوم توقفت المطابع وجف الحبر وقريبا لن يصدر الورق حفيفا"، وتابعت "لكن مع إغلاق فصل، يُفتح آخر، وستواصل روحية ذي اندبندنت الازدهار". ولم تقتصر ظاهرة تساقط المطبوعات وتوقف الإصدار الورقي على الصحف، وإنما هي في سبيلها لتشمل المجلات العلمية والأكاديمية أيضا، بيد أن مؤشرات إيجابية تبعث الأمل بأنه مازال في عمر الصحافة الورقية بقية، إذ أظهرت دراسة أجريت على صحف أمريكية في وقت سابق من العام الجاري، أن نصف قراء الصحف لا يدخلون إلى المواقع الالكترونية لتلك الصحف التي يقرأونها في طبعاتها الورقية. وأفاد مركز "بيو" لاستطلاعات الرأي الذي أجرى الدراسة أن "هذه النتائج مماثلة لنتائج المسح الوطني الأمريكي، التي أفادت بأن 56 في المئة من القراء يفضلون النسخة المطبوعة"، كما أثبت المسحُ أيضا أن حوالي 75 في المئة من دخل الإعلانات يأتي من النسخة المطبوعة. وبرغم مؤشرات التفاؤل القليلة هذه، يحق لنا أن نتساءل عمَ إذا كان العالم سيشهد إقفال المطبعة وإنهاء وظيفتها بعد الاختفاء التدريجي للصحيفة الورقية؟ هذا السؤال توحي به نظرة سريعة إلى احتضار الصحف في أرجاء مختلفة من العالم، في أعقاب تكاثر المنصات والبوابات والصحف الالكترونية، التي هزمت "الجورنال"، فبعدما كانت الجريدة هي مصدر الأخبار الوحيد لمجتمعاتنا قبل أن ينافسها الراديو ثم التليفزيون، من دون أن ينتصرا عليها، هاهو العالم الافتراضي يصهر في بوتقته جميع الوسائط الناقلة للمعلومات، ويمنحها سرعة وكثافة يستحيل على الصحيفة المطبوعة أن تُسايرهما مهما أنفقت على تطوير تقنياتها.
24/04/2016
|
|