إن التحقيق والمحاكمة الدولية ليسا بالضرورة أكثر عدالة من التحقيق والمحاكمة المحلية حيث أن عملية التحقيق والمحاكمة يفترض أن تكون ملكاً لأصحاب الشأن، ولا بدّ من احترام السيادة الوطنية والاختصاص القانوني الأساسي للمؤسسات القضائية الوطنية في أي دولة من دول العالم. لكن موضوع الدولة وسيادتها على ما يحدث على أراضيها هو في صلب الصراع المستمرّ في فلسطين منذ نحو 60 عاماً. وبالتالي فإن أي تحقيق يجريه المشتبه فيهم في الجرائم التي حدثت في فلسطين وأي تحقيق يجريه الضحايا لا يتناسب مع معايير العدالة الصحيحة.
انطلاقاً من هذه الخلفية يكتسب موضوع مقاضاة اسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية أهمية خاصّة باعتباره سبيلاً ممكناً لتحقيق العدل والاقتصاص من المجرمين وفضح حقيقة الجرائم الاسرائيلية الممنهجة بحق فلسطين، أرضاً وشعباً ومؤسسات.
ولا يُخفى على أحد أن معظم الدول الغربية والولايات المتحدة الاميركية لا يحبّذون ملاحقة اسرائيليين يُشتبه في ارتكابهم جرائم بحق الفلسطينيين والعرب حتى ولو حصل ذلك بالجرم المشهود وأمام وسائل الاعلام العالمية. ويقتصر الامر بحدّه الاقصى، في معظم هذه الحوادث، على مطالبة الغرب الاسرائيليين أنفسهم بالقيام بالتحقيق. غير أن أحد أهم شروط التحقيق هو غياب أي رابط بين المحققين والمشتبه بهم من جهه، وبين المحققين والضحايا من الجهة المقابلة.
ان اعتبار الجرائم الخطيرة التي يُشتبه أن مرتكبيها إسرائيليين قضايا جنائية بالمعنى القانوني البحت لا قضايا سياسية تخضع لمصالح الدول الكبرى، يُشكل ذلك التحدي الأساسي الأول.
أما التحدي الأساسي الثاني فهو تحديد المحكمة المختصة النظر في تلك الجرائم والاطار القانوني المناسب. وبهذا الشأن تمكن الفلسطينيون من تخطي جميع معوّقات لجوئهم الى المحكمة الجنائية الدولية ومطالبتهم بفتح تحقيق تجريه المدعية العامة فيها. ففي 7 كانون الثاني 2015 انضمت دولة فلسطين الى نظام روما الأساسي وقبلت فلسطين اختصاص المحكمة على الجرائم المزعوم ارتكابها «في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن ضمنها القدس الشرقية، منذ 13 حزيران 2014».
ينقلنا ذلك الى التحدي الاساسي الثالث وهو اجراء التحقيق بشكل مهني ومستقلّ يمكن من خلال قراءة نتائجه تكوين معرفة دقيقة للأفعال الجرمية ومرتكبيها وتحديد الدوافع والنوايا الجنائية.
إن عملية اثبات قيام إسرائيليين بجرائم إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية يستدعي تحقيقاً سرّياً ومهنياً ومحاكمة علنية يتمتع قضاتها بالنزاهة والكفاءة. ولا جدوى من التحقيق من دون محاكمة كما لا قيمة لمحاكمة من دون تحقيق، حيث أنه لا يمكن للقاضي مهما بلغت نزاهته وكفاءته أن يأخذ بأي ادعاء ما لم يكن مرفقاً بقرائن واثباتات تدلّ إلى صحّته.
لن تتطرق هذه الورقة للاعتبارات السياسية الدولية التي تشكل التحدي الأساسي الأول بل ستسعى الى تحديد الاختصاص القانوني للنظر بالقضية والقاء الضوء على التحقيق الجنائي في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم إبادة نزعم أن مرتكبيها إسرائيليين تصرفوا بناء عن سابق تصوّر وتصميم. لكن قبل ذلك سيشرح الجزء الآتي كيف تمكن الفلسطينيون من تخطي معوقات اللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية.
«الدولة» كشرط أوّل لاختصاص المحكمة
في 22 كانون الثاني 2009 أودع وزير العدل في الحكومة الفلسطينية (علي خشان) لأول مرّة اعلاناً يقبل بممارسة المحكمة الجنائية الدولية لولايتها القضائية بشأن «الافعال التي ارتكبت في الأراضي الفلسطينبة منذ الأول من تموز 2002» وذلك بموجب المادة 12 من نظام روما الاساسي التي تحدد الشروط المسبقة لممارسة اختصاصها.
المادة 3 من نظام روما الاساسي (وهو النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية) تنصّ على انه «إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازماً بموجب الفقرة 2، جاز لتلك الدولة بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة، أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث، وتتعاون الدولة القابلة مع المحكمة دون أي تأخير أو استثناء». لكن يوم 12 كانون الثاني 2010، في رسالة رسمية وجهتها الى المفوض السامي لحقوق الانسان في الامم المتحدة، شرحت بياتريس لو فرابيه دو هيلين، المسؤولة في المحكمة الجنائية الدولية اختلاف لا بل تناقض في بعض الآراء القانونية بشأن الصلاحية القانونية للتحقيق في الجرائم الاسرائيلية. حيث ان هناك رأياً يقول ان المادة 12 من نظام روما لا تنطبق على فلسطين لأنها ليست دولة معترف بها دولياً، ورأي آخر يقول إن السلطة الفلسطينية لا يحقّ لها أصلاً مقاضاة إسرائيليين وذلك بموجب اتفاقية أوسلو للسلام بين السلطة الفلسطينية ودولة إسرائيل التي تعهدت السلطة من خلالها بعدم مقاضاة إسرائيليين (الفقرة «د» من رسالة دو هيلين).
لكن مقابل ذلك هناك رأي قانوني يقول إن من حقّ السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو التي تمنحها الصلاحية القضائية الكاملة على أراضيها بأن تقوم بالتحقيق، أو تفويضه المحكمة الجنائية الدولية بالقيام به مثلاً، في جرائم وقعت على هذه الأراضي. أما بالنسبة للمادة 12 من نظام روما الذي يتيح للدول الاعضاء بأن يطلبوا مقاضاة مواطنيهم في المحكمة الجنائية الدولية إذا اشتبه بارتكابهم جرائم في دول أخرى، فتقدمت جنوب افريقيا بالطلب مؤكدة أن بعض الإسرائيليين المشتبه فيهم بارتكاب جرائم في غزة حائزون على الجنسية الجنوب أفريقية.
على أي حال، استناداً الى طلب الحكومة الفلسطينية في 22 كانون الثاني 2009، ووفقاً للمادة 15 من نظام روما الأساسي، باشر مكتب المدعي العام الدولي دراسة ما اذا كان هناك اساس للمضي قدماً في التحقيق في الجرائم الاسرائيلية. واتاح المكتب للجميع بتقديم حججهم وقدمت اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق بشأن غزة التابعة لجامعة الدول العربية تقريرها كما توسّع ممثلون عن فلسطين في تقديم آرائهم. وتم الاستماع كذلك الى الآراء المعارضة.
وفي تموز 2011 أكدت فلسطين لمكتب المدعي العام الدولي أنها تقدمت بحججها الرئيسية. لكن مكتب المدعي العام الدولي لن يمضي قدماً في تحليل المعلومات المتعلقة بالجرائم المزعومة من دون استيفاء الشروط المسبقة لممارسة الاختصاص بحسب نظام روما.
لا يقوم اختصاص المحكمة على أساس مبدأ الاختصاص القضائي العالمي بل يستلزم أن يوفر مجلس الامن الدولي الاختصاص (وفقاً للمادة 13ب) أو أن توفره «دولة» من الدول الاعضاء (وفقاً للمادة 12). وبالتالي كان السؤال الاساسي في 2011 هل يمكن اعتبار فلسطين «دولة»؟
رأى مكتب المدعي العام الدولي أن أجهزة الامم المتحدة أو جمعية الدول الاطراف في المحكمة الجنائية الدولية هي التي تحدد ما اذا كانت فلسطين مؤهلة لكي تصبح دولة للانضمام الى نظام روما الاساسي مما يمكن المحكمة من ممارسة اختصاصها. فتقدّمت فلسطين في 23 أيلول 2011 بطلب الانضمام الى عضوية الامم المتحدة بموجب المادة 4(2) من ميثاق الامم المتحدة. وفي يوم السادس من كانون الثاني 2015 عمّم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون اخطاراً بإيداع دولة فلسطين صكّ انضمامها الى نظام روما الاساسي، وتغيّر كل شيء. ولم تتأخر المحكمة الجنائية الدولية أكثر من يوم واحد على ذلك لتعلن في 7 كانون الثاني 2015 انضمام دولة فلسطين إلى نظام روما الأساسي وقبلت فلسطين اختصاص المحكمة على الجرائم المزعوم ارتكابها «في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن ضمنها القدس الشرقية، منذ 13 حزيران 2014».
وخلال شهر حزيران من العام الماضي (2015) سلم وفد فلسطيني ملفاً يتألف من أربعة عناصر للمدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي السيدة فاتو بنسودا، للمطالبة بفتح تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. ويتكون الملف من أربعة اقسام: القسم الأول تغطية تؤكد جاهزية فلسطين للتعاون بما يسمح بفتح تحقيق وبما يؤكد وقوع جرائم مرتكبة تقع ضمن اختصاص المحكمة، القسم الثاني قضايا الاستيطان كجريمة مستمرة، والقسم الثالث الحملة العسكرية الإسرائيلية على الضفة وغزة والقدس، والقسم الرابع والأخير قضية الأسرى في السجون الإسرائيلية.
معظم الدول الغربية والولايات المتحدة لا تحبّذ ملاحقة إسرائيليين
وكان عضو اللجنة الوطنية العليا لمتابعة ملف المحكمة الجنائية الدكتور مصطفى البرغوثي قد شدّد على أن الوثائق التي قدمتها فلسطين للمحكمة «تؤكد شمولية الانتهاكات الإسرائيلية، وأنها نتيجة سياسة مسبقة منهجية واسعة النطاق، وتوفر إثباتاً بوجود عناصر جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، كما ستبرز مسؤولية المستويات العليا العسكرية والسياسية والاقتصادية الإسرائيلية، و خاصة فيما يتعلق بالاعتداءات على المدنيين».
بناءً على ذلك بدأت المدعية العامة الدولية فاتو بنسودا دراسة أوّلية للحالة في فلسطين في 16 كانون الثاني 2015. لكن الدراسة الأوّلية ليست تحقيق، وإنما هي عملية لفحص المعلومات المتاحة بُغية التوصل إلى قرار يستند إلى معلومات وافية بشأن مدى توافر أساس معقول لمباشرة تحقيق عملاً بالمعايير المحددة في نظام روما الأساسي.
لا ينص نظام روما الأساسي على مُهَلٍ لاتخاذ قرار في أي دراسة أوّلية. لكن يُتوقع ان تصدر نتائج دراسة مكتب المدعي العام الدولي في أواخر صيف 2016 وبناء على هذه النتائج يتقرر المضي في المرحلة الثانية اي التحقيق الجنائي أو عدمه.
تصنيف الجرائم والأحداث بحسب القانون الجنائي الدولي
إذا أصبحت دولة من الدول طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بعد بدء نفاذه لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة، اي كانون الثاني عام 2015 بالنسبة إلى فلسطين. لكن الفقرة الثانية من المادة 11 من النظام الاساسي تستثني من ذلك «الدولة التي كانت قد أصدرت إعلاناً بموجب الفقرة 3 من المادة 12» وهو ما فعلته فلسطين في كانون الثاني 2009. غير ان بعض القانونيين قد يدّعون ان ذلك لا ينطبق على فلسطين لأنها لم تكن تعدّ «دولة» عام 2009.
على أي حال إذا كان الاختصاص منذ عام 2009 أو عام 2015 لا بد من تحديد الجرائم وتصنيفها بحسب القانون الجنائي الدولي. ولدى استعراض عناوين هذه الجرائم يمكن الإشارة إلى بعض الامثلة التي حدثت، أو ما زالت تحدث في فلسطين منذ مطلع العام الفائت:
يقتصر اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية: جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان (المادة الخامسة من نظام روما الأساسي).
يعني «الإبادة الجماعية» (المادة السادسة) من نظام روما الأساسي أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً: قتل أفراد الجماعة، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد تلك الجماعة، وإخضاعها عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً.
استهدف الإسرائيليون افراداً وجماعات من الفلسطينيين (جماعة قومية) بمختلف الوسائل بما فيها القصف العشوائي واستخدام الاسلحة والذخائر المحرمة دولياً بهدف قتلهم. وبحسب التقرير السنوي للمفوض السامي لحقوق الانسان في الامم المتحدة الصادر يوم 20 كانون الثاني 2016 ان الحصار المفروض على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يحرمهم من حقوقهم في التربية والتعليم وفي الصحة والعلاج والعمل والحياة العائلية.
يشكّل أي فعل من الأفعال التالية «جريمة ضد الإنسانية» متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم: القتل العمد والإبادة والاسترقاق وإبعاد السكان أو «النقل القسري للسكان» والسجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية والتعذيب والاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء، واضطهاد أي جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية والاختفاء القسري للأشخاص، واخيراً وليس آخراً جريمة الفصل العنصري.
ان جدار الفصل العنصري (أبارتايد) الذي بناه الاسرائيليون «يطوق 160 ألف فلسطيني أيضاً في قرى على نحو شبه كامل مناطق سكنية فلسطينية» بحسب قرار محكمة العدل الدولية (الصادر يوم 9 تموز 2004 ـ الفقرة 83، والفقرتين 84 و122) قلقيلية، وهي مدينة يبلغ عدد سكانها 40.000 نسمة، مطوقة تماماً بالجدار ولا يستطيع سكان المدينة الدخول أو المغادرة إلا عبر نقطة تفتيش عسكرية واحدة تفتح من الساعة السابعة إلى الساعة السابع صباحاً» (تقرير المقرر الخاص لمفوضية حقوق الإنسان، جون دوغارد، حول وضع حقوق الإنسان في الأراضي العربية المحتلة بما فيها فلسطين، 8 سبتمبر/ أيلول 2003 الفقرة 9).
كما يتعرّض الفلسطينيون لحصار بري وبحري وجوي ومنع الجيش الاسرائيلي ادخال المواد الغذائية والمساعدات الطبية فيما يبدو مسعى متعمداً لإهلاكهم – وبحسب المركز الفلسطيني لحقوق الانسان تواصل قوات الاحتلال استهداف صيادي الأسماك الفلسطينيين في عرض البحر فخلال الاسبوع الفائت وحده (من 14 الى 20 نيسان) مثلاً أصيب أحد صيادي الأسماك، واعتقال خمسة آخرين، ومصادرة قارب صيد وإغراق آخر.
تعني «جرائم الحرب» (المادة الثامنة من نظام روما الأساسي) الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 آب 1949، أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص، أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة. ومن بين تلك الجرائم القتل العمد والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية وتعمد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها من دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك. ومن بين جرائم الحرب كذلك الإبعاد أو النقل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع.
نفذت قوات الاحتلال الاسرائيلية 61 عملية اقتحام في الضفة الغربية، و13 عملية أخرى في مدينة القدس وضواحيها -خلال الاسبوع الفائت فقط (من 14 الى 20 نيسان) و اعتقلت 103 مواطنين، بينهم 24 طفلاً، و3 فتيات (بحسب المركز الفلسطيني لحقوق الانسان).
كما تُواصل قوات الاحتلال استخدام القوة المفرطة في الأرض الفلسطينية المحتلة، فخلال الأسبوع الفائت فقط قتلت قوات الاحتلال مواطناً على مدخل مخيم العروب، شمالي مدينة الخليل، وإصابة 11 مواطناً فلسطينياً في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصيبت مواطنة في حي الشجاعية، شرقي مدينة غزة، بجسم مشبوه من مخلفات قوات الاحتلال (بحسب المركز الفلسطيني لحقوق الانسان).
وفي 7 نيسان 2016 ادانت منظمة الأونروا عملية هدم المنازل واسعة النطاق التي قامت بها السلطات الإسرائيلية في مجتمع اللاجئين البدو في أم الخير في التلال الجنوبية للخليل. ونتيجة لتلك العملية، فقد أصبح 31 لاجئاً فلسطينياً، من ضمنهم 16 طفلاً، بلا مأوى. ولقد عانى أفراد ذلك المجتمع من جولات عديدة من عمليات الهدم وغالباً ما تعرضوا للمضايقات من قبل المستوطنات غير الشرعية القريبة من الكرمل.
التحقيق والتوثيق
يمكن تحديد تسعة أنواع من التحقيقات الجنائية في الجرائم التي وقعت في فلسطين المحتلة أو فيما تعتبره الامم المتحدة دولة اسرائيل، وهي:
ــ تحقيقات يجريها إسرائيليون وتنقسم الى نوعين: قضائية تجريها المؤسسات الرسمية الإسرائيلية، وحقوقية تجريها منظمات غير حكومية إسرائيلية (بتسليم - غوش شالوم... الخ)
ــ تحقيقات يجريها فلسطينيون وتنقسم الى نوعين: قضائية تجريها المؤسسات الرسمية الفلسطينية، وحقوقية تجريها منظمات غير حكومية فلسطينية (جمعيات حقوق الانسان الفلسطينية - مركز عدالة... الخ)
تحقيقات دولية وتنقسم الى أربعة أنواع:
ــ حقوقية تجريها اما المؤسسات الرسمية التابعة للأمم المتحدة (لجنة حقوق الانسان أو المفوض السامي لحقوق الانسان... الخ) أو منظمات غير حكومية دولية (منظمة العفو الدولية، هيومن رايتس واتش... الخ).
ــ قضائية تجريها محكمة العدل الدولية (2004 بشأن جدار الفصل العنصري).
ــ قضائية تجريها بعثة تقصي الحقائق بتكليف مجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة (لجنة غولدستون 2011).
ــ قضائية تجريها المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية.
يقتصر حالياً متابعة هذه التحقيقات عبر إحالة نتائجها على المحاكم على التحقيقات الإسرائيلية الرسمية لكن تلك المحاكم لا تستوفي شروط المحاكمة العادلة كما ذكر سابقاً في هذه الورقة لأنها لا تحظى باعتراف أحد الطرفين المعنيين بالقضية ولأن موضوع النزاع يتعلّق تحديداً بشرعية المؤسسات الإسرائيلية في فلسطين. وبالتالي فإن المعالجة الصحيحة لا تكون عبر إحالة التحقيقات الفلسطينية على محاكم محلية فلسطينية لأن ذلك قد يمنح الإسرائيليين حججاً للتشكيك في عدالتها، بل عبر احالتها على مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية.
قد تساعد نتائج التحقيقات الحقوقية التي اجرتها مؤسسات الامم المتحدة ومنظمات حقوقية غير حكومية فلسطينية وإسرائيلية ودولية في عملية التحقيق القضائي الدولي. لكن نسبة ذلك مرهونة بمدى صحّة هذه المعلومات ودقة توثيقها.
التحقيقات الجنائية
ان الاشراف القضائي على عملية التحقيقات الجنائية هو أمر جوهري وذلك للتأكد من الالتزام بالاطار القانوني وعدم تجاوز الاختصاص. وبالتالي يفترض ان تحال مستندات التحقيق من دون استثناء الى المشرف القضائي. اشارة الى ان نظام المحكمة الجنائية الدولية لا يسمح بصدور قرار اتهامي ولا مذكرة توقيف الا باذن قضائي يصدر عن غرفة الاجراءات التمهيدية في المحكمة.
أما مراحل التحقيق فيمكن ان تتبع التسلسل الآتي:
1ــ تحديد مصدر المعرفة بوقوع الحادث ودراسة التقارير الأولية الصادرة عن السلطات المحلية أو قوات الاحتلال ومقابلة الأشخاص المعنيين بهذا الشأن والاشخاص الذين كانوا أول الواصلين الى المكان.
2ــ تحديد مساحة مسرح الجريمة والمداخل والمخارج. وتحديد الأشخاص الذين كانوا في تلك المساحة قبل واثناء وبعد وقوع الجريمة.
3ــ رفع القرائن والأدلة من مسرح الجريمة أو مراجعة الاجراءات التي اتبعت لرفع القرائن والادلة من المكان ودراسة كل الاجراءات التي قامت بها السلطات المحلية أو قوات الاحتلال.
4ــ على المحققين التوثيق الالكتروني للوقائع والتحليلات والتصوير المتطوّر للقرائن والادلة والحفاظ عليها في مستودعات محمية بعد نقلها من مسرح الجريمة.
5ــ اجراء المقابلات مع الضحايا اذا امكن ومع الشهود وكلّ من كان في مسرح الجريمة وكل من لديه أي معلومات تتعلق بالجريمة. واجراء مقابلات مع المشتبه فيهم ومع مرجعياتهم العسكرية ومع الاشخاص المرتبطين بهم أو اي شخص آخر يمكن أن تكون له معلومات عن المشتبه فيه.
6ــ صياغة التقارير الوصفية والتحليلية المفصّلة تتضمن صور ومرفقة بتسجيلات مرئية وصوتية وباشارة الى القرائن والادلة الجنائية المحفوظة – وصياغة الخلاصة والتوصيات وايداعها المرجع القضائي المختصّ.
التحديات الأساسية
يُتوقّع ان تعترض التحقيق الجنائي في الجرائم التي وقعت في فلسطين تحديات شتى نعرض أربعة منها في الآتي:
ــ سعي إسرائيل والدول التي تدعمها إلى منع المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية من استمرار التحقيق في الجرائم التي وقعت في فلسطين عبر التلاعب بمعطيات التحقيقات الاولية التي تجريها حالياً.
ــ التركيز على التحقيق في اطلاق المقاومة الفلسطينية صواريخ أصابت منشآت يقال إنها مدنية واشخاص يقال عنهم أنهم مدنيون غير مشاركين في النزاع المسلّح.
ــ رفض تعاون الناس والسلطات المحلية وقوات الاحتلال مع المحققين أو منعهم من ذلك. ويعني ذلك عدم تسليم المستندات والتسجيلات المطلوبة وعدم السماح للمحققين من مقابلة عسكريين وضباط وأشخاص محددين.
ــ عدم تمكن المحققين من الوصول الى مسرح الجريمة والى الشهود والضحايا والمشتبه فيهم بسبب مخاطر أمنية أو تهديدات مباشرة أو غير مباشرة.
ــ عدم تأمين الموارد البشرية والمادية اللازمة لعملية التحقيق أو عدم التمكن من ادخالها الى فلسطين المحتلة.
خاتمة
تنتهك حقوق الفلسطينيين الاساسية بشكل شبه يومي منذ نحو 60 عاماً من الاضطهاد والتهجير والاحتلال والقهر والقتل والحرمان من أبسط مقومات الحياة الكريمة. ويمكن أن تعتبر أخطر وأبشع هذه الانتهاكات وأكثرها تكراراً وشيوعاً خرقاً للقانون الجنائي الدولي الذي يشمل اختصاصه الابادة والجرائم ضدّ الانسانية وجرائم الحرب. وكان يمكن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لمقاضاة إسرائيل لكن المشكلة الاساسية لدى أصحاب الشكوى هي أن الامم المتحدة لم تعترف بدولتهم (فلسطين) وبالتالي لم يكن ممكناً توجيههم أي شكوى في هذه المحكمة، أما الدول العربية فلم تتقدم بشكوى بحق إسرائيل لأنها لا تعترف بها رسمياً كدولة.
انشأت المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 وهي المختصة بمحاسبة الافراد لا الدول، غير أن المشكلة تكرّرت حيث أن الامم المتحدة لم تودع المحكمة اي مستند رسمي يصف فلسطين كدولة حتى مطلع العام الفائت (2015). وبدأت المدعية العامة الدولية تحقيقاتها الاولية ويتوقّع ان يصدر تقريرها في أواخر الصيف القادم.
يستدعي ذلك حملة توعية في فلسطين وسائر أرجاء الوطن العربي بشأن الاطار القانوني ومتطلبات التحقيق الجنائي وهي غاية هذه الورقة المقتضبة. لكن لا بد من الاشارة أخيراً الى أن التحديات جمّة والتجارب السابقة بشأن الجهات الاممية والدولية التي سعت لتقصي الحقائق في فلسطين لم تكن مشجّعة ولم تصل الى أي نتيجة تعيد الحقوق لأصحابها.
لا بدّ أن نحاول من جديد، لأن قضية فلسطين هي بكل بساطة قضية جنائية لكن خلفياتها السياسية طغت عليها. هي قضية شعب يتعرّض لهجوم مستمرّ من عصابة حظيت بدعم المجتمع الدولي وباعتراف الامم المتحدة بها كـ«دولة».
(محاضرة ألقيت في المنتدى العربي الدولي من أجل العدالة لفلسطين في تونس، 22 و23 نيسان 2016
|