كان ملفتاً للانتباه ما قاله رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، بمؤتمر دافوس/سويسرا في الشهر الماضي، لممثلي الاتحاد الأوروبي حينما دعاهم لأخذ مواقف من إسرائيل شبيهة بمواقف حكوماتٍ عربية!، ثمّ قوله بالمؤتمر: "ثمّة تغيير دراماتيكي في العلاقات الخارجية لإسرائيل في المدّة الأخيرة، بينها وبين جيرانها العرب، الذين يرون في إسرائيل حليفاً وليس تهديداً". فبينما شهدت علاقات إسرائيل تأزّماً مع الحليفين التاريخين لها، أميركا وأوروبا، خلال سنوات حكم نتنياهو منذ العام 2009، خاصّةً في موضوع المستوطنات وعدم التقدّم في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، ثمّ في كيفيّة التعامل الأميركي والأوروبي مع الملف النووي الإيراني، نجد أنّ الصراع العربي/الصهيوني لم يعد هو قضية العرب الأولى، ولا همّهم القومي المشترك، وأنّ القضية الفلسطينية برمّتها قد تهمّشت عربياً ودولياً، بل أنّ بعض ممثلي حكوماتٍ عربية أصبحوا يتحدّثون عن أهميّة التواصل مع إسرائيل والتطبيع معها!. إنّ إسرائيل لم تخضع حتى الآن للمطالبة الدولية بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة على حدود العام 1967، عاصمتها القدس، ولا طبعاً بإزالة المستوطنات أو حتّى بوقف الاستيطان، ولا بحلٍّ عادلٍ لقضية اللاجئين، وهذه هي القضايا التي دار التفاوض في السنوات الماضية بشأنها، بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ثمّ إنّ إسرائيل لم تجد مصلحةً إطلاقاً في توصّل المفاوضات الدولية مع إيران إلى نتائج إيجابية، ولا مصلحة لها أيضاً في إنهاء الأزمة الدموية السورية بتسوية تحافظ على وحدة الكيان السوري، وتعيد بناء الدولة السورية على أسسٍ سليمة، بينما المصلحة الإسرائيلية هي في استمرار هذه الأزمة وانتشارها في كلّ المشرق العربي، وباستنزاف قوى المقاومة فيه، وبانتشار جماعات الإرهاب باسم الإسلام، وبالتشجيع على الفتن الطائفية والمذهبية في عموم المنطقة. إسرائيل تعمل منذ سنوات، خاصّةً منذ وصول نتنياهو للحكم في العام 2009، على أن تكون أولويّة الصراعات هي مع إيران وحلفائها بالمنطقة، وعلى إقامة محور عربي/إقليمي/دولي تكون إسرائيل فيه هي الرائدة لإشعال حربٍ عسكرية ضدّ إيران ومن معها في سوريا ولبنان وفلسطين، بحيث تتحقّق عدّة أهداف إسرائيلية مهمّة جداً لكل الإستراتيجية والمصالح الصهيونية في المنطقة والعالم. فالمراهنة الإسرائيلية هي في تهميش الملف الفلسطيني، وعلى كسب الوقت لمزيدٍ من الاستيطان في القدس والضفة الغربية والجولان، وعلى تفجير صراعاتٍ عربية داخلية، بأسماء وحجج مختلفة، تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربية الراهنة وتدمير الجيوش العربية الكبرى، وعلى إقامة تطبيع سياسي وأمني مع كلّ الأطراف العربية التي تقبل السير في الهدف الإسرائيلي المنشود. فتلك الإستراتيجية ستجعل من إسرائيل قوةً إقليمية ودولية كبرى في عصرٍ بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تكون إسرائيل عندها قادرةً على فرض "شرق أوسطي جديد" يسمح لها بتحقيق الهيمنة الأمنية والسياسية والاقتصادية على كلّ المنطقة، بعدما تضع الحروب الإقليمية والأهلية أوزارها. هذا ما يحدث الآن من "تقدّم إسرائيلي" في منطقة "الشرق الأوسط" بينما نجد تراجعاً للدور الإسرائيلي في دول ومجتمعات الغرب، حيث تخرج أصوات عديدة تطالب بمقاطعة ما تنتجه المستوطنات الإسرائيلية، وحيث تعترف برلمانات وحكومات أوروبية ب"الدولة الفلسطينية" قبل قيامها، وحيث تفشل أيضاً "قوى الضغط" الإسرائيلية في وقف التحسّن بالعلاقات الغربية مع إيران، بعدما فشلت محاولات نتنياهو لمنع الوصول إلى اتفاقٍ دولي مع إيران بشأن ملفّها النووي. ولقد لاحظ المراقبون السياسيون كيف فشلت "الإيباك"، وهي الجسم السياسي لما يُعرف باسم "اللوبي الإسرائيلي" في الولايات المتحدة، بتغيير اتجاهات "البيت الأبيض" في مسألتيْ إيران وسوريا، خلال الفترة الماضية، إذ أنّ "الإيباك"، ومن ورائها حكومة نتنياهو، ضغطت على إدارة أوباما في العام 2013 من أجل القيام بضرباتٍ عسكرية ضدّ سوريا ثمّ لوقف التفاوض مع إيران بشأن ملفّها النووي، وفشلت "الإيباك" في المسألتين، إضافةً أيضاً لاستمرار الخلاف مع حكومة نتنياهو حول قضية المستوطنات. لكن هل يعني هذا الخلاف الحاصل بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو خلافاً بين أميركا ودولة إسرائيل؟ الجواب كلّا طبعاً. فحجم المساعدات الأميركية لإسرائيل ازداد في السنوات الماضية، ولم تقم إدارة أوباما بأيّ تجميد لما تمنحه الولايات المتحدة سنوياً لإسرائيل من مالٍ وسلاح ومساعداتٍ مختلفة، بل لم تهدّد واشنطن تل أبيب بأي عقوبات رغم أنّ إداراتٍ أميركية سابقة فعلت ذلك، كما حصل في مطلع عقد التسعينات خلال إدارة جورج بوش الأب. المشكلة الدائمة في الولايات المتحدة هي ليست بمواقف الإدارات الحاكمة فقط، بقدر ما هي في الحضور الكبير للضغط الإسرائيلي الفاعل داخل المجتمع الأميركي، من خلال العلاقة المالية والسياسية مع أعضاء الكونغرس، ونتيجة الهيمنة على معظم وسائل الإعلام الأميركية، وحيث نجد الإدارات (الحكومات) في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية (الكونغرس بمجليسه) وعبر "السلطة الرابعة" أي الإعلام. فهذا العصر هو عصر "المال والإعلام"، ومن يملكهما يملك قدرة التأثير على صنع القرارات السياسية. هكذا فعل "اللوبي الإسرائيلي" في الغرب عموماً، وفي أميركا خصوصاً، من حيث تركيزه على المؤسسات المالية والإعلامية في الغرب. ويتوزّع "تأثير قوى الضغط الإسرائيلية" في أميركا (كما هو أيضاً لدى قوى الضغط الأخرى) على الحزبين الديمقراطي والجمهوري معاً، فنرى عدداً لا بأس به من "الديمقراطيين" يشاركون الآن في ممارسة الضغط على الإدارة الحاكمة لصالح هذا "اللوبي" أو ذاك، علماً بأنّ تعثّر "البرنامج الأوبامي" ليس سببه حصراً حجم تأثير "اللوبي الإسرائيلي"، فهناك طبعاً قوى النفوذ المهيمنة تاريخياً على صناعة القرار وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهي قوى فاعلة في المؤسسات المالية والصناعية الأميركية الكبرى. لكنْ الاختلال الكبير في ميزان "الضغوطات" على الإدارة الأميركية في موضوع "الملف الفلسطيني" يكمن لجهة حضور "الضغط الإسرائيلي" وغياب "الضغط العربي" الفاعل، ممّا يسهّل دائماً الخيارات للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على إسرائيل ويختار الضغط على الجانب العربي، والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدَف أولاً من قِبَل إسرائيل، كما أنّه "الحلقة الأضعف" دائماً!. لديّ قناعةٌ كاملة بمنهج "جدل الإنسان" الذي صاغه المفكّر العربي المصري الكبير المرحوم الدكتور عصمت سيف الدولة، هذا المنهج الذي يشير إلى الصراع في داخل (الإنسان- الفرد) وداخل (الإنسان – المجتمع) بين"الماضي" و"المستقبل" من خلال ما عليه "حاضر" وواقع هذا الإنسان أو المجتمع من تحدّياتٍ واحتياجات. لكن مشكلة العرب الآن أنّهم إمّا يعيشون أسرى الماضي فقط، أو يتعاملون مع رؤى للمستقبل، بمعزلٍ تامٍّ عن واقعهم في الحاضر وتراثهم من الماضي. ففي الحالتين، اجتزاءٌ من العناصر الثلاثة التي تفرض نفسها في تطوّر الناس والمجتمعات. وإذا كان "الزمن" هو "البُعد الرابع" علمياً في "القياسات"، فإنّه أيضاً "البُعد الرابع" في الأزمات وفي مقوّمات الحياة عموماً. فهو "البُعد الرابع" في مفهوم "الدولة" التي تقوم على (أرض وشعب ومؤسسات حكم)، حيث نجاح تفاعل هذه المقوّمات الثلاث يوجِد مع مرور "الزمن" الدولة العادلة والمواطَنة الصالحة والوطن الواحد. كذلك، هو "البُعد الرابع" في نشوء "الحضارات" واستمرارها حيث الجمع المتوجّب بين (القوّة والعلم وحرّية الإبداع)، وهو أيضاً "البُعد الرابع" في ممارسة "الأسلوب العلمي" في العمل العام الذي يقوم على التلازم بين (النظرية والإسترايجية والتكتيك). وأرى "الزمن" أيضاً "بُعداً رابعاً" في مسألة "الهُويّة" لدى العرب حيث تقوم المنطقة على "هُويّات ثلاث" متفاعلة هي الوطنية والعروبة والإيمان الديني. للأسف، فإنّ العرب يفتقدون حالياً كل هذه المقومات التي يمكن أن يتفاعل معها "الزمن"، فلا هم يبنون الأسس السليمة ل"دولهم"، والتي هي بمعظمها مهدّدة الآن بخطر التفكّك، ولا هم يتقدّمون في عناصر "الحضارة" من حيث توفّر القوّة والعلم وحرّية الإبداع، ولا هم حتماً مجتمعون على رؤى مستقبلية أو على خطط إستراتجية مشتركة. ربما أصل المشكلة في حاضر العرب هي بالتناقضات والصراعات التي أوجدوها داخل ثلاثيّة "هُويتهم": الوطنية والعروبة والإيمان الديني، بينما إسرائيل تفرض نفسها عليهم ك"دولة يهودية" رغم اغتصاب الأرض وتهجير الشعب، وتملك "مشروعاً صهيونياً" لمستقبل المنطقة عمره أكثر من مائة عام!. فإسرائيل نجحت في ممارسة منهج "جدل الإنسان" بينما العرب غارقون في الجدل حول طوائفهم ومذاهبهم وجنسهم!.
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2016-02-18
|
|