مثلما بنت إسرائيل جداراً اسمنتياً عازلاً في الضفة الغربية كخطوة على طريق تهويد فلسطين نهائياً، جدران كثيرة ترتفع في الكثير من الدول والمناطق. بين شمال أميركا وجنوبها يُبنى جدار على حدود المكسيك لمنع هجرة الفقراء الجنوبيين إلى الشمال. وعلى حدود مقدونيا مع اليونان يجري بناء سياج شائك مرتفع لحماية حدود القارة الأوروبية الجنوبية من تدفق ملايين اللاجئين المتوقع زحفهم مع حلول الربيع المقبل. وفي البحر المتوسط، يجري نشر الأساطيل لاعتراض زوارق المهاجرين والمهربين. لكن الجدران والأساطيل لن تكفي، وسيستمر زحف المهاجرين الغزير لأن أشياء كثيرة تغيرت، و»انقلب السحر على الساحر». غير أنه لم يمر وقت طويل حتى انهارت أسعار الطاقة والذهب والمعادن بأنواعها، فيما تبدو المحاصيل والصادرات الصناعية في وضع غاية في الغموض. الصين التي حلقت عالياً وباتت منافسة للولايات المتحدة على المركز الأول في التصنيع، اهتزت أسواقها وغادرتها مئات مليارات الدولارات (أكثر من ٧٠٠ مليار) خلال أسابيع فقط. عملتها الرنمنبي (الوان) خسرت قرابة ٦ في المئة من قيمتها مع انهيار زلزالي في أسواقها المالية، عانى العالم بأسره من مضاعفاته. كل ذلك وقع خلال أقل من شهر، فيما تحتفظ الصين بفائض مالي تاريخي يقدر بـ ٣،٣ تريليونات دولار. في المقابل، تعاني الولايات المتحدة من ديون تصل إلى ١٩ تريليون دولار ومن اختلال هائل في ميزانها التجاري يقارب التريليون دولار. وهي تشهد صعوداً ضخماً في قيمة عملتها تجاوز ٣٠ في المئة خلال عام تقريباً، قياساً بعملات رئيسية مثل اليورو والين والجنيه الاسترليني. أما مقابل الروبل الروسي، فالارتفاع تجاوز ٧٠ في المئة، وكذلك هي الحال بالنسبة إلى غالبية دول الأسواق الناشئة. من الصعب عند النظر إلى هذه التناقضات استبعاد «نظرية المؤامرة». والتاريخ حافل بما ثبت أنه كان مؤامرة، مثل إقامة إسرائيل ومنظمة الأمم المتحدة التي لم تنجز شيئاً سوى إعطاء شهادات ميلاد لدول يتم إنشاؤها كإسرائيل وتيمور لشته، وشهادات وفاة لدول أخرى مثل فلسطين والصومال وليبيا والعراق والسودان وأخرى على الطريق. في عام ١٩٣٣، بعد فوز الحزب النازي الألماني في الانتخابات وتوليه السلطة، وحتى قبل استهداف اليهود في ألمانيا بحملات عنصرية، اجتمع كبار الرأسماليين الأوروبيين في مدينة أمستردام الهولندية وأعلنوا الحرب على ألمانيا. مقاطعة تجارية تامة سبقت الحرب العالمية بستة أعوام يوم كانت ألمانيا من أكثر دول العالم تقدماً من حيث الصناعة والتجارة. منعوا تفريغ السفن التجارية الألمانية وحرموها من مواد أساسية. حتى بيع غاز الهيليوم لألمانيا الذي كان الغاز الوحيد الملائم للمناطيد منع عنها. وكانت النتيجة أن ألمانيا التي كانت صاحبة أفضل خطوط جوية في العالم، اضطرت إلى استخدام غاز الهيدروجين الأخف وزناً ولكن سريع الاشتعال في نفخ مناطيدها. وفي ٥ أيار ١٩٣٧ وبعد وصول المنطاد الشهير هندنبرغ إلى سماء نيويورك تفجر واحترق بجميع ركابه في أفدح حادث طيران وقع أمام عدسات الكاميرات السينمائية والفوتوغرافية حتى ذلك التاريخ. مشهد كان مؤلماً للغاية وربما كان إلى جانب الحصار الذي دام ستة أعوام، السبب الرئيسي في نشوب الحرب العالمية الثانية. أما أسماء من قادوا الحصار فمعروفة ومسجلة في سجلات مؤتمر أمستردام الشهير. اليوم، تخاض الحروب الاقتصادية التي يستخدم فيها الدولار كسلاح دمار شامل. والدولار عملة العالم لأن البنوك المركزية تحتفظ بأكثر من نصف أرصدتها من العملات الأجنبية بالدولار منذ نهاية القاعدة الذهبية عام ١٩٧١. الورقة الدولارية باتت أثمن من مناجم الذهب والبلاتين وحقول النفط والغاز والماس والمحاصيل الزراعية. يهبط سعر برميل النفط خلال أسابيع فقط من ٦٠ دولاراً إلى أقل من ٣٠ مع اقتراب تطبيق الاتفاق النووي الإيراني. تفلس دول مثل فنزويلا، وتترنح دول أخرى مثل أذربيجان. وتهتز الأرض تحت أقدام حكومات كثيرة معتمدة على الطاقة في الجزائر ونيجيريا وأنغولا وأندونيسيا والعديد من الدول الأخرى. ولا تستفيد دول صناعية عملاقة من هذا الحسم المجزي في سعر الطاقة، مثل أوروبا أو الصين. كان يفترض أن ترتفع قيمة اليورو لكون فاتورة الطاقة الأوروبية باتت أرخص بكثير. لكن لا المنتجون نجوا من الزلزال ولا استفاد المستهلكون منه. في الأمر لغز أو أكثر من ذلك. ومثلما هو وضع الصين من فائض صناعي ومالي، لا تقع روسيا تحت مديونية بأي شكل من الأشكال وهي تختزن الكثير من الموارد الطبيعية والصناعية. فلماذا هبطت قيمة عملتها من ٢٥ روبلاً للدولار إلى ٨٥؟ أي معادلة حسابية مالية اقتصادية فرضت ذلك؟ يجتهد المحللون في تقديم إجابات، لكن التبريرات تبقى ضعيفة طالما أن الدولار يرتفع رغم ارتفاع المديونية الأميركية. وبالعودة إلى موضوع الهجرة. يقول المنطق والتاريخ إن السكان ينتقلون فوق هذا الكوكب من منطقة الضغط السكاني المرتفع إلى منطقة الضغط السكاني المنخفض، طلباً للماء والطعام والمسكن. هذه سنّة الكوكب المطبقة في الدول الفقيرة من دون تحفظ. في الأزمة اليمنية، لم تتمكن دولة فقيرة مثل جيبوتي من منع عشرات آلاف اللاجئين اليمنيين من دخولها، تماماً كما كان اليمن يستقبل ملايين الأفارقة الفارين من مجاعات القرن الأفريقي على أرضه. لبنان أيضاً يستقبل قرابة مليوني نازح سوري رغم ضيق المساحة. فلماذا يغصّ شمال العالم بالآلاف؟ ثمة لغز محيّر هنا أيضاً، وخصوصاً أن الشمال لا يزال فارغاً نسبياً وغنياً بالماء والغذاء والموارد. كان اللاجئ الفار، سواء من حرب أو من حمى الضنك، يستطيع اللجوء إلى سوريا أو جيبوتي أو إيران بحرّية، فيما هو لا يستطيع اللجوء إلى الدول الغنية بنفس الحرية. دول مثل مجلس التعاون الخليجي، أو كندا وأوستراليا والولايات المتحدة الأوسع مساحة والأقدر على تأمين المساعدات، وصدت أبوابها وضيّقت مجالات الهجرة. والسؤال يطرح هنا، كيف تستطيع إيران أن تستقبل أكثر من مليوني نازح أفغاني، فيما لا تستقبل السعودية نازحاً واحداً منهم؟ يجيب السعوديون بأن لديهم «ملايين العمال الأجانب»، ولكن الفرق كبير بين عامل أجنبي مستقدم لبناء أو مشروع، وبين آخر مهاجر أو لاجئ بسبب حرب أو ضيق. الشمال لا يختلف في منطقه عن السعودية وعن بقية دول مجلس التعاون الخليجي في الرؤية العنصرية لقضية الهجرة. أوروبا تفضّل أن تبني جدراناً وتفكك نظاماً تبنيه منذ عام ١٩٥٨ على أن تستقبل ملايين النازحين. هذا مع العلم بأنها في حاجة ماسة إلى سكان بعدما بات سكانها يعانون الترهل والشيخوخة. لكن المهاجرين الذين بدأوا الزحف من أفريقيا ومن الشرق الأوسط نحو منطقة الضغط السكاني المنخفض في الشمال قد لا يستطيع أحد إيقافهم. إنها نتائج «الفوضى الخلاقة» ترتد على مهندسيها. نتيجة توصل إليها الأميركيون والأوروبيون وباتوا في حالة هلع. فجروا الشرق الأوسط وأفريقيا لكي يفرغوه من القيادات والسكان، لكنهم لم يحسبوا أن انهيار السدود يجرف السهول وما فوقها. لذا تراهم يلهثون من أجل وقف الحرب السورية ومساعدة السوريين على البقاء في بلادهم، كما أنهم بدأوا يساعدون في محاربة «داعش» وإخوته في العراق وليبيا. كانت الحسابات قبل الانهيارات في العالم الثالث تقول إن العنصرية ستطرد العرب والمسلمين من أوروبا والشمال. فإذا بالحروب ومواسم «الربيع» المفتعلة ترسل ملايين النازحين إليهم. من يستطيع السيطرة على الملايين الجائعة الزاحفة؟ هنري كيسنجر، المسؤول والمفكر الأميركي الأخبث منذ خمسين عاماً، تحدث إلى جانب المفكرين المعاصرين عن ضرورة خفض عدد سكان العالم الثالث بنحو ملياري نسمة من أجل تأمين مواد أولية يكون الشمال الصناعي أولى بها. واقترح لتنفيذ خطته، ضمن واقعيته التي لا تعرف حدوداً، أساليب عدة، منها استخدام الأسلحة الجرثومية. وتبقى الخشية من أن يكون بين الأحزاب والزعامات العنصرية الفاشية الناشئة في الغرب من قرأ كيسنجر ويسعى إلى تطبيق خططه. المصدر: صحيفة الأخبار اللبنانية/ 04-02-2016
|
|