مفارقتان دوليتان تتعلّقان بانتهاك حقوق الإنسان عاشهما الشعب العربي الفلسطيني منذ نحو سبعة عقود من الزمان، ولا يزال يعاني وطأتهما، بكل متفرعاتهما وذيولهما.
المفارقة المأسوية الأولى هي إقدام الأمم المتحدة على اتخاذ قرار يقضي بتقسيم فلسطين، وهو القرار رقم (181) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر /تشرين الثاني 1947، والذي بموجبه تم تأسيس دولة «إسرائيل» في 15 مايو/أيار 1948، وذلك خلافاً لميثاق الأمم المتحدة الذي يقرّ بمبادئ حق تقرير المصير واحترام السيادة.
وكان على بريطانيا الدولة المنتدبة إعلان استقلال فلسطين وتمكينها من ممارسة حقها في تقرير مصيرها في إطار دولة موحّدة وإجلاء جيوشها منها، وذلك طبقاً لقرار مؤتمر سان ريمو العام 1920 بخصوص الانتداب، لكن بريطانيا التي سبق لها أن منحت وعد بلفور لليهود العام 1917، كانت قد قرّرت إقامة دولة لهم على أرض فلسطين. والواقع فإن مثل هذا الوعد المجافي لحق شعب فلسطين يتعارض مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وهو وعد «من لا يملك يعطي لمن لا يستحق» على حد تعبير الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ففلسطين ليست أرضاً قفاراً أو بلا شعب أو مالكين، لكي «تتبرّع» بها بريطانيا لمهاجرين، حتى يقوموا بتأسيس دولة لهم فوق أرضها التاريخية.
وتقضي شروط الانتداب بموجب عهد عصبة الأمم، تأهيل شعب الدولة المنتدَبة في حكم نفسه بنفسه، أما أن تقوم بريطانيا بمنح جزء من الوطن الفلسطيني حسب قرار دولي عملت لإصداره من الأمم المتحدة التي تتحمّل بدورها المسؤولية الكبرى، فهو مخالف لقواعد القانون الدولي ولشرعة حقوق الإنسان التي ستصدر من الجمعية العامة في 10 ديسمبر/كانون الأول العام 1948 وتلك المفارقة المأسوية الثانية.
فكيف يمكن التوفيق بين الدعوة لاحترام حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية، وبين التجاوز على حقوق شعب واقتطاع وطن بالضد من قواعد القانون الدولي، في سابقة خطرة، دفع الشعب الفلسطيني ثمنها باهظاً ولا يزال ينزف دماً يومياً، فمنذ نحو شهرين والانتفاضة الفلسطينية الثالثة مندلعة رداً على الممارسات العنصرية «الإسرائيلية» والتي راح ضحيتها ما يزيد على مئة فلسطيني أكثر من ربعهم من الأطفال، إضافة إلى أن عدد الجرحى بلغ ما يزيد على 13500 فلسطيني.
بعد ثلاثة عقود اعتبرت الأمم المتحدة ذاتها يوم إصدار قرار التقسيم يوماً للتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني، لكن ذلك لم يمكّنه من استعادة حقوقه، التي لم تكتفِ «إسرائيل» بمصادرة المزيد منها خلال ما سمّي بالحرب العربية «الإسرائيلية» العام 1948 وما بعدها، بل وضعت يدها على المزيد منها بما فيها القدس الشريف في العام 1967 بعد عدوان 5 يونيو /حزيران، وقامت لاحقاً بضمها العام 1980، وكذلك ضم مرتفعات الجولان السورية العام 1981، بقرارين من الكنيست «الإسرائيلي».
وإذا كانت الأمم المتحدة قد حاولت تقديم اعتذار غير مباشر أو ذرّ الرماد في العيون كما يقال، ففلسطين التاريخية كلّها أصبحت في قبضة الصهيونية، بل إن قضية فلسطين منذ العام 1952 تحوّلت إلى قضية لاجئين، وليست قضية شعب له حقوق تاريخية وغير قابلة للتصرّف بما فيها حقه في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني، لكن الأمر لم يستمر على ما هو عليه بالرغم من تمادي «إسرائيل» في ممارساتها العدوانية والعنصرية، وذلك بفضل اندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة في العام 1965 لاستعادة الحقوق، وبدأت أوساط غير قليلة تؤيد حقوق الشعب العربي الفلسطيني على المستوى الدولي، بفعل جهد مثابر على الصعيد الدبلوماسي والقانوني الدولي، لإدانة ««إسرائيل»» ودمغ ممارساتها بالعنصرية، وقد صدرت العديد من التقارير عن لجنة حقوق الإنسان الدولية التي تندد «بإسرائيل» وممارساتها، كما صدر عن العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية تقارير تفصيلية عن الانتهاكات السافرة والصارخة للشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
لقد تمكّن الشعب العربي الفلسطيني من إنجاز نصر عظيم بصدور قرار بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وبالعديد من القرارات لصالح قضية تحرّره وحقه في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة، ولكن النصر الأهم كان بإصدار الجمعية العامة القرار 3379 القاضي بدمغ الصهيونية بالعنصرية واعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وذلك في 10 نوفمبر/تشرين الثاني العام 1975، لكن هذا القرار التاريخي لم تتم متابعته لنزع شرعية «إسرائيل» وتفنيد حجّيتها القانونية والتشكيك بوجودها كدولة عنصرية لا تنتمي إلى العصر الراهن، خصوصاً أن تأسيسها كان مشروطاً باحترامها لحقوق الإنسان، وبالطبع لحقوق شعب فلسطين، وهو ما خالفته منذ اليوم الأول لإعطائها هذا التعهد، وكذلك لامتناعها عن تطبيق القرار 194 الخاص بحق العودة لعام 1948، فلم تتوقّف عملية الاستيطان والإجلاء، التي هي جريمة دولية، ولم تتعطل مشاريع العدوان، ولم يتم أي تحقيق بخصوص مجزرة دير ياسين أو كفر قاسم لاحقاً أو مجازر بحر البقر ومطار بيروت واغتيال القيادات الفلسطينية أو قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وكلّها جرائم تحتسب على الإرهاب الدولي، حيث تقوم الدولة بممارستها وعلى نحو منظم، الأمر الذي يعرّضها حسب القانون الدولي للمساءلة القانونية. ولولا انحياز الولايات المتحدة ووقوفها إلى جانب «إسرائيل»، فإن عضويتها، بل وجودها كانت قد أصبحت محطّ تساؤل دولي ومحاسبة قانونية وقضائية، لاسيّما للمرتكبين والجناة.
للأسف نام العرب بعد صدور القرار 3379 إلى أن تمكّنت الصهيونية من إعدامه في 16 ديسمبر/كانون الأول 1991، لاسيّما باختلال موازين القوى بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 أغسطس /آب 1990 وانهيار الحد الأدنى من التضامن العربي وتفكك الكتلة الاشتراكية وتفرّد الولايات المتحدة بالقرار الدولي.
إن مناسبة مرور 67 عاماً على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 والتراكم الدولي على هذا الصعيد بصدور العهدين الدوليين، الأول الخاص بحماية الحقوق المدنية والسياسية ، والثاني الخاص بحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العام 1966 ودخولهما حيّز التنفيذ العام 1976، إضافة إلى نحو 100 اتفاقية دولية، هي فرصة مهمة لمراجعة الاستحقاقات الدولية بخصوص حقوق الشعب العربي الفلسطيني وخصوصاً حقه في تقرير المصير، الأمر الذي يقضي بوضع المجتمع الدولي والأمم المتحدة عند مسؤولياتهما.
لقد غيّب الصراع الأيديولوجي الدولي وحمّى الحرب الباردة مبادئ حق تقرير المصير من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، علماً بأنها وردت بميثاق الأمم المتحدة باعتبارها قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي، لكن المادة الأولى من العهدين الدوليين استدركت ذلك لاحقاً، حين تضمنت على نص صريح وواضح يؤكد مبدأ حق تقرير المصير، وهكذا فإن من مسؤولية المجتمع الدولي اليوم أكثر من أي وقت مضى، لتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وعلى أرض وطنه.
وكما ذهب المجلس الوطني الفلسطيني في اجتماعه بالجزائر العام 1988 بإعلان استقلال دولة فلسطين التي اعترفت بها مئة دولة ونيّف ودخلت الأمم المتحدة كعضو منذ العام 2012 وقررت دخول هيئاتها الدولية، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية في مطلع العام 2015، نقول من مسؤولية المجتمع الدولي أولاً حماية الشعب العربي الفلسطيني ووقف العدوان عليه وتفكيك الجدار العنصري حسب القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية لعام 2002، والامتناع عن بناء المستوطنات وإخلائها، خصوصاً في المناطق الفلسطينية المقرّرة حسب القرار 181، على الرغم من إجحاف هذا القرار الذي لا يمثّل الحدّ الأدنى، والعمل على الانسحاب «الإسرائيلي» الشامل مع جميع الأراضي العربية المحتلة منذ العام 1967.
وبالطبع فإن هدف تحقيق السلم والأمن الدوليين، الذي هو هدف سام للأمم المتحدة، لن تتمكّن الأمم المتحدة من تطبيقه بخصوص الحالة الفلسطينية وكذلك احترام حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية الذي هو إحدى القواعد الأساسية للشرعة الدولية لحقوق الإنسان، باستمرار وجود الاحتلال «الإسرائيلي» وانتهاكاته لمنظومة حقوق الإنسان الجماعية والفردية.
وإذا كانت الانتفاضة الفلسطينية المعاصرة الأولى قد بدأت في أواخر العام 1987 واستمرّت بضع سنوات، لكنها بسبب نهج التراجع العربي واختلال موازين القوى والرهان على حلول لم تستكمل معايير الحد الأدنى مثلما هو اتفاق أوسلو العام 1993، الذي قدّمت فيه منظمة التحرير تنازلات جوهرية كبيرة، فإن الانتفاضة الثانية اندلعت بسبب وصول اتفاق أوسلو نفسه بعد نحو 7 سنوات إلى طريق مسدود، وذلك في العام 2000، الأمر الذي يعني أن «إسرائيل» مشروع حرب دائم ومستمر وهي مشروع إلغائي وإقصائي وإحلالي.
أما الانتفاضة الفلسطينية الثالثة المستمرة منذ أكثر من شهرين، فإنها جاءت بعد 3 عدوانات على غزة العام 2008-2009 والعام 2012 والعام 2014، إضافة إلى العدوان على لبنان العام 2006، وذلك بعد فشل جميع محاولات التسوية سواء في كامب ديفيد الأولى أو الثانية أو واي رايفر، لأن «إسرائيل» مستمرة في تجريف الشعب العربي الفلسطيني وإجلائه وبناء مستوطنات في المناطق الفلسطينية وخصوصاً في الضفة الغربية.
إن اندلاع انتفاضة القدس الثانية وامتدادها إلى مناطق أخرى وشمولها عرب ال 48 بمختلف قطاعاته، دليل على فشل سياسة الاحتلال وهو ما يضع مسؤولية على العالمين العربي والإسلامي، بالضغط بجميع الوسائل لوقف العدوان والقيام بواجبهما لنصرة شعب فلسطين ووقف الإرهاب الصهيوني واستعادة شعب فلسطين لحقوقه الإنسانية العادلة والمشروعة.
صحيفة الخليج (الاماراتية) – ملحق الاسبوع السياسي الخميس 10/12/2015
|