متى يستريح الرجل الأبيض من أعبائه؟ - موسى الفقي عبء الرجل الأبيض في نشر الديمقراطية " في الزمن القادم ستقوم الشعوب المتحضرة قطعاً باستئصال الشعوب الهمجية" داروين
مقدمة: لو تحدث متحدث عن عودة الغرب إلى النظريات العرقية التي تتحدث عن تفوق الجنس الأبيض، وتمنحه دوراً رسالياً لتمدين الشعوب الأخرى، والتصرف فيها وفي ممتلكاتها على النحو الذي فعله في القرون الخمسة الأخيرة من الألفية الثانية، وهو ما اُختزل في عبارة "عبء الرجل الأبيض" قبل عقدين من السنوات لأتهم بالجنون. غير أنّه منذ احتلال افغانستان والعراق وإلى اليوم ونحن نشهد عودة قوية لتلك النظريات التي تجعل للرجل الأبيض دوراً في حماية الشعوب من الاستبداد، ونشر الديمقراطية، وحماية الأقليات، وما إلى ذلك من الافتراءات. بينما تؤكد وقائع التاريخ بأنه لاشيء كان يمكن أن يؤنسن الغرب عبر تاريخه الحافل بالجرائم والأكاذيب سوى الحضور القوي للاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، والخوف الشديد من انتشار التيارات الاشتراكية. غير أنّه ما أن انهار الاتحاد السوفيتي، وانفرط عقد حلف وارسو حتى سارع الغرب إلى نزع مسوح الرهبان، وثياب الواعظين ليظهر على حقيقته البشعة ثانية. ومن المفارقات الأخلاقية والتاريخية الإشارة إلى أن ّ الغرب قام بصياغة نظرياته الأخلاقية تلك عن مهمته الاستعمارية الاستيطانية في القرون الخمسة الأخيرة من الألفية الثانية، وهي التي احرق فيها الأخضر واليابس في البلدان المستهدفة بالتمدين والتي قتل فيها الغرب حوالي نصف سكان نصف الكرة الجنوبي في أبشع إبادة جماعية لا تفوقها سوى جريمة إبادة سكان القارة الكندية الذين أطلق عليهم جلادوهم الغربيين تسمية الهنود الحمر. وعلى الرغم من أنّ مصطلح عبء الرجل الأبيض قد ظهر متأخراً نسبياً عن شروع الرجل الأبيض في حمل أعبائه تلك تجاه سكان كوكب الأرض، حيث استخدمه الشاعر البريطاني رديارد كيبلينغ Rudyard Kipling في قصيدته الشهيرة "عبء الرجل الأبيض" في 1899، التي بشر فيها الشعوب التي يغزوها الرجل الأبيض بالارتقاء في مدارج الحضارة والمدنية! وتغنى فيها بسمو رسالة الغزاة البيض أينما حلوا؛ فقال منافحاً عن غزو الولايات المتحدة للفلبين:" هيا تحملي عبء الرجل الأبيض، ابعثي بأفضل شبابك، وابعثي بهم إلى المناطق البعيدة ليخدموا رغبات الشعوب المتطلعة إليهم" (1). فأن المصطلح كان حاضراً بصيغ أخرى منذ شرع الغربيون في موجة الغزو والاستعمار الاستيطاني؛ وهذا داروين يقول تعليقاً على عزو الانجليز اتسمانيا في استراليا وقتلهم الالاف من سكانها عام 1858:" في الزمن القادم ستقوم الشعوب المتحضرة قطعاً باستئصال الشعوب الهمجية"(2)؛ حيث منح الغربيون أنفسهم مهام أخلاقية ودينية تجاه الأمم الأخرى، واعتبروا أن الغرب وقع عليه الاختيار الإلهي لإنقاذ بقية العالم، بلغت إلى درجة تخصيص عيد ديني للشكر على تمكينهم من النصر على سكان القارة الكندية "الهنود الحمر"، وتخليصهم الأرض الكندية من ذلك الجنس اللعين، كما وصفه اللورد جفري امهرست القائد العام للقوات البريطانية الغازية ذات يوم. عبء الرجل الأبيض في الألفية الثانية: من الصعوبة بمكان الإحاطة بجرائم الرجل الأبيض في هذا الكوكب في هذه العجالة، غير أننا سنشير إلى نماذج من تلك الجرائم: اولاً- عبء الرجل الأبيض في القارة الكندية(3): تقول الروايات أنّ عدد سكان القارة الكندية "الأمريكية" عند وصول كولمبس للقارة يتراوح بين الـ 90 مليون و112 مليون، أباد جلهم الآباء المؤسسون للولايات المتحدة، وشاركهم في حملات الإبادة بقية المستوطنين البيض، عن طريق استخدام الأسلحة النارية التي لم يعرفها سكان القارة المعزولة، وعن طريق الاسلحة البيلوجية: كالجدري والحصبة، والطاعون والكوليرا، والتيفوئيد والدفتريا، والسعال الديكي والملاريا وغيرها. وكذلك عن طريق الخداع؛ ذلك أنّ المستوطنين الأوائل كانوا ينتزعون أراضي سكان القارة باستراتيجية القضم، وينتزعون معها أرواح ساكنيها؛ حيث قدموا أنفسهم أول الأمر على أنّهم مسالمون وتجار، ويرغبون في الحصول على قطعة أرض، يقيم فيها عدد منهم، ليسافر الأخرون لإحضار السلع الصناعية من بلدانهم الأصلية، ليتبادلوها معهم. وما أن تحصلوا على قطعة الأرض الأولى، حتى صاروا يجهزون لمد سيطرتهم على الأراضي المجاورة، وما أن قدم مهاجرون جدد وتحصلوا على المزيد من الأسلحة النارية، حتى هاجموا السكان الأصليين، وانتزعوا منهم المزيد من الأراضي التي تؤهلهم قوتهم آنذاك للسيطرة عليها، ثم عقدوا معهم اتفاقاً يقضي بعدم الاعتداء، والاكتفاء بما حصلوا عليه من أراضي. واستمروا في ممارسة نفس التكتيك القاضي بأنّهم ما أن يتحصلوا على مهاجرين جدد وأسلحة جديدة، حتى يمزقوا الاتفاق السابق مع السكان الأصليين، ويهاجمونهم طلباً للمزيد من الأراضي. وما أن يتحصلوا على الأرض التي تكفيهم حتى يعقدوا اتفاقاً أخر، ليعودوا لنقضه عند زيادة عددهم وعدتهم، إلى أن أتوا على كامل أراضي القارة وساكنيها. وفي فترات الصلح والسلام مع الهنود يوزعون عليهم هداياهم، المتمثلة في معدات ملوثة بالجراثيم ليقلصوا أعدادهم. ولم يقتصر ممارسة سياسات الإبادة الجماعية لسكان القارة المعزولة، على الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، بل مارسها أيضاً الأسبان في جنوب القارة. ودون القس الأسباني برتولوميو دي لاس كاساس في كتابه "مذبحة الهنود الحمر"، العديد من المذابح الوحشية التي أوقعها الإسبان بالسكان الأصليين في جنوب القارة المعزولة. ولم تتوقف حملات الإبادة ضد السكان الأصليين حتى تم التخلص منهم نهائياً. حيث تتحدث الروايات عن إبادة 112 مليون إنسان ينتمون إلى أكثر من 400 أمة وشعب، كانوا يملأون أرجاء القارة الكندية "الأمريكية"، لم يبق منهم في إحصاء مطلع القرن العشرين الماضي سوى ربع مليون، كانوا ضحية حوالي ثلاثة وتسعين حرباً جرثومية، وألاف الهجمات والحروب التقليدية التي شنها المستوطنون البيض بالسلاح الناري وهو ما أدى إلى إستئصالهم من القارة. كتب القائد الإنجليزي العام اللورد جفري أمهرست عام 1736 أمرا إلى مرؤوسه الكولونيل هنري بوكيه يطلب منه أن يجري مفاوضات سلام مع الهنود الحمر، ويهديهم بطانيات مسمومة بجراثيم الجدري من أجل "استئصال هذا الجنس اللعين! " ومن بين الوقائع الصادمة والجديرة بالوقوف عندها، أنّ السلطات الأمريكية كانت تفرض التعقيم الإجباري على نساء السكان الأصليين للقارة إلى غاية العام 1980 وذلك بهدف إيقاف توالدهم والحد من تزايد أعدادهم. ثانياً- عبء الرجل الأبيض في العالم القديم(4): من الصعوبة بمكان الإحاطة بجرائم الرجل الأبيض في العالم القديم في هذه العجالة، وسنكتفي هنا بالإشارة إلى بعض تلك الجرائم؛ فحين وصل البرتغاليون إلى الشواطئ الهندية ودخلوا مقاطعة جوا حرق المهاجمون المدينة، وقتلوا ستة ألاف من ساكنيها بدم بارد؛ حيث يقول القائد البرتغالي للقوة المهاجمة بوكريك مخاطباً ملك البرتغال:" لقد قمنا بإحراق المدينة وأعملنا السيف في رقاب الجميع، وسالت الدماء أياماً، أما المسلمون فكنا نحشرهم في مساجدهم ونشعل فيها النيران، حتى احصينا حوالي ستة آلاف قتيل، لقد كان ذلك يا سيدي عملاً عظيماً أجدنا بدايته وأحسنا نهايته". كما بلغ أعداد قتلى الغزو الأنجليزي للهند حتى عام 1880م مليون قتيل، وفي الجزائر التي بلغ ضحايا الغزو الفرنسي لها المليون أيضاً، كان الغزاة الفرنسيون يتسلون بحز رقاب الجزائريين فيقول الجنرال الفرنسي شان:" أنّ رجاله وجدوا التسلية في حز رقاب الجزائريين من رجال القبائل الثائرة في بلدتي الحواش وابورقيبة". ويقول الماريشال سانت ارنو في رسالة إلى زوجته:" إنّ بلاد بني منصر بديعة وهي من أجمل ما رأيت في افريقيا فقراها متقاربة وأهلها متحابون، غير أننا أحرقنا فيها كل شيء ودمرنا كل شيء، أكتب إليك ويحيط بي أفق من النيران والدخان، لقد تركنا قرى قبيلة البزار بعد أن أحرقناهم جميعاً ونشرنا فيها الخراب، ونحن الآن عند السنجاد نفعل فيهم الشيء نفسه". ويقول مونتياك في كتابه "رسائل جندي" وهو يصف بطولاته: لقد كانت مذبحة شنيعة حقاً لقد انتشرت الجثث، وانقاض المساكن والخيام في كل مكان، وقد احصينا اعداد القتلى من النساء والأطفال فحسب بعد السيطرة على المدينة فوجدناهم ألفين وثلاثمائة، أما الجرحى فلم نتركهم على قيد الحياة". وقد بلغ اعداد القتلى في سطيف الجزائرية وحدها في مايو 1945 حوالي الأربعين ألفاً، وينتقد الكونت هيريسون ما ارتكبه الأوربيين من جرائم في العالم القديم فيقول:" فظائع لا مثيل لها، أوامر بالشنق تصدر عن نفوس كالحجر، يقوم بتنفيذها جلادون قلوبهم كالصخر، في حق مساكين جلهم لا ذنب لهم سوى أنهم لا يستطيعون ارشادنا إلى ما نريد". وأعمل الانجليز آلة القتل في قبائل الماو ماو الافريقية، ثم ادعوا بأنّ وحوشا برية قد قتلتهم! وفي مدغشقر قتلت القوات الفرنسية ثمانين ألفاً في معركة واحدة ضد المقاومين من سكان الجزيرة. وقد تفنن الرجل الأبيض في طرق إبادة هذه الشعوب، ومما أبدعه في هذا الشأن طريقة اسموها "جهنم"؛ حيث يتبع الجنود الفارين من النساء والأطفال والرجال إلى الكهوف فيشعلون عند باب الكهف ناراً، فيموت من بداخله حرقاً أو خنقاً. وبنى الإيطاليون معتقلات جماعية اعتقلوا فيها قبائل بكاملها اتُهمت بإيواء المجاهدين ضد الغزو الإيطالي، وصل اعداد المعتقلين فيها إلى مئات الآلاف جلهم من النساء والأطفال. وفي جنوب افريقيا سيطر المستوطنون البيض عام 1913 على 88% من الأراضي الصالحة للزراعة، بل سيطروا على كافة الأراضي الخصبة، وتركوا الأقل خصوبة للسكان الأصليين السود، كما فرضوا عليهم ضريبة على الرأس وأخرى على الكوخ. وأجبر الفرنسيون المزارعون في افريقيا الاستوائية على زراعة القطن عام 1955، لتشتريه منهم شركات استعمارية فرنسية بسعر يترواح بين ال 60 و72 فرنكاً للكيلو، فيما باعته تلك الشركات بسعر يتراوح بين 245 و285 فرنكاً في مرفأ التصدير. عبء الرجل الأبيض في العقدين الأخيرين من الألفية الثانية والألفية الثالثة: استفاد قساوسة السوق في البلدان الغربية من التنظير الماركسي، والتجربة السوفيتية في تصدير الثورة، فصاغوا نظرية انقلابية اسموها الليبرالية الجديدة، تستهدف الانقلاب على مكتسبات الذين لا يملكون سوى جهدهم، والتي اكتسبوها من خلال بعض التطبيقات الاشتراكية، أو حتى من بعض السياسات الكنزية، لمصلحة الاقطاعيين الماليين. كما استفادوا من الفلسفة التفكيكية أيضاً في صياغة نظريتهم تلك، حين تبنوا ما اسمته نعومي كلاين عقيدة الصدمة، التي تعني تقنيات التفكيك ثم إعادة البناء، والتي استقاها الليبراليون الجدد من مجهودات الطبيب النفسي الكندي كاميرون الذي طبقها في مجال علم النفس السريري، فمارس تكنيك التفكيك ثم إعادة البناء على بعض السجناء، لفائدة وكالة المخابرات الأمريكية(4)، في إطار نظرية غسل الأدمغة، التي مارس فيها كاميرون التعذيب والتجهيل على ضحاياه، إلى الدرجة التي يتوقع فيها بأنّ نفسية الضحية أو السجين صارت ورقة بيضاء يمكنه كتابة ما يشأ عليها. ويستهدف هذا التكنيك "تكنيك الاتقلابات الليبرالية" الوصول إلى أحدى غايتين: الأولى: الانقلاب على المكتسبات الاشتراكية، وحتى مكتسبات دولة الرفاه الاجتماعي، وبناء نموذج جديد من الدول يمكن تسميتها بالدولة السوق، تكون اليد الطولى فيها لإباطرة السوق ورجال الأعمال والإقطاع المالي إجمالاً. وهو ماطبق في بلدان أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية. الثانية: تفكيك الدولة وصناعة الحروب الأهلية. وهو ما يطبق في المنطقة العربية. وتبنى ميلتون فريدمان وصبيان شيكاغو تطبيق هذا التكنيك على دول أمريكا اللاتينية، التي تمكنت المخابرات الأمريكية من تدبير انقلابات فيها؛ حيث اعتمدوا تقنيات تفكيك الدولة؛ وذلك بخلق الأزمات الخانقة، وتيئيس الناس من امكانية الخروج من النفق المظلم الذي دخلوه، ثم يطرحون عليهم إعادة بنائها وفق وصفة الليبراليين الجدد، التي تمنح كل شيء لأباطرة السوق والإقطاع المالي، فيعتمدون عليهم في إخراج المجتمع من النفق المظلم الذي ادخلوهم فيه. وحين يكون الناس في نفق مظلم، يكونون على استعداد لتسليم مصيرهم لكل من يدعي بأنّه يعرف المخرج، ويكونون على استعداد لدفع ثمن الخروج من النفق مهما كان باهظاً، وهذا ما طبقه صبية شيكاغو في بعض بلدان الهامش، في مختبري تشيلي والأرجنتين. ثم نقلوه إلى بلدان المركز الغربية، وتم تطبيق سياسات التحول إلى الدولة-السوق في الولايات المتحدة وبريطانيا حين وصل إلى السلطة كلا من الرئيس الأمريكي ريجان، ورئيسة الوزراء البريطانية تاتشر. وارتكزت تلك السياسات على الحد من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وتقليص النفقات العامة للدولة، وخاصة نفقات الرعاية الاجتماعية، وتقليص حجم الحكومة، وبيع مؤسسات القطاع العام للخواص، وخصخصة كل شيء بما في ذلك الدفاع والأمن ومن باب أولى العلاج والتعليم، وتفكيك المؤسسات المدافعة عن حقوق ذوي الدخل المحدود، والذين لا يملكون سوى جهدهم، وفي مقدمتها اتحادات العمال، ولعل أشهر عمليات تفكيك للمؤسسات النقابية في إطار تنفيذ هذه السياسات تفكيك نقابة عمال المناجم في بريطانيا. غير أنّ التطبيق الفعلي والكامل لسياسة التفكيك وإعادة البناء أو عقيدة الصدمة في الولايات المتحدة، تم فعلياً في ظل إدارة بوش الابن، ومن خلال استغلال اعصار كاترينا الذي ضرب نيو اورليانز، والذي فتح المجال واسعاً لإعادة بناء نيو أورليانز بعد أن فككها الإعصار على النحو الذي يشتهيه أباطرة السوق وصبيان شيكاغو. الانقلابات الشعبوية والتفكيك وإعادة البناء: طور صانعو السياسات وصانعو الفكر Think Tanks في الولايات المتحدة، وهي التي تصدت لقيادة الغرب عقب الحرب العالمية الثانية تكتيكاتهم، لتعميم سياسات الصدمة، وتعميم نموذج دولة السوق أو وصفة الليبراليين الجدد، تحت دعاوى نشر الديمقراطية، فخرجوا بسيناريوهات الانقلابات الشعبوية التي تتبع الخطوات التالية:
وبدأ سيناريو الانقلابات الشعبوية لتعميم نموذج دولة السوق، في مقابل دولة الرفاه الاجتماعي، بالانقلاب على تشاوسيسكو في رومانيا، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي. حيث كانت خطة الليبراليين الجدد الذين استعان بهم بوش الأب في إدارته، الموروثة عن إدارة الرئيس ريجان، تقضي بشن حرب اعلامية على النظم الماركسية، تحرض على القضاء على الديكتاتورية والنظم الشمولية، والعمل على استمالة قيادات الجيش والشرطة، ثم تحريك الكنيسة، وتحالف المتضررين من الاشتراكية، من أبناء الاقطاعيين السابقين، ومؤسسات المجتمع المدني ذات التمويل الغربي، والجماعات السياسية اليمينية، وحثالة البروليتاريا ضد الحكومات الماركسية في أوربا الشرقية. ونجح ذلك التحالف في تحريك مظاهرة موازرة للكنيسة، التي تدخلت الحكومة الرومانية في تعيين قياداتها في تيمشوارا، وعمل الاعلام الموجه على تضخيم عدد المشاركين فيها. وما أن تدخلت الشرطة لفضها، حتى تم فبركة خبر يتحدث عن مقتل ثلاثمائة متظاهر، بينما في حقيقة الأمر، تم إخراج الجثث من ثلاجات حفظ الموتى في مستشفيات المدينة، وتصويرها على أنّها ضحايا شرطة تشاوسيسكو. وساهم الخبر المفبرك في قلب الرأي العام الروماني ضد تشاوسيسكو، وشيوع موجة من الغضب الشعبي على حكومته، وخروج أعداد كبيرة نسبياً من مواطنيه للتنديد بما حدث في تيمشوارا، سرعان ما أفلح المحركون لها في جعلها تطالب بعزل تشاوسيسكو. وما أن رفضت قيادات الجيش والشرطة أوامر الرئيس حتى تمكن الحشد منه وسقط النظام، وتم تعميم السيناريو على بقية بلدان أوربا الشرقية التي لم تسقط حكوماتها بعد آنذاك. وما أن سقطت الحكومات الماركسية حتى أرسل الليبراليون الجدد، الخبراء الاقتصاديين لمساعدة حكام أوربا الشرقية الجدد على الانتقال الديمقراطي، وكان جميع أولئك الخبراء من "صبيان شيكاغو"، على حد تعبير نعومي كلاين في كتابها عقيدة الصدمة، الذي يؤرخ لعمليات الانتقال إلى دولة السوق، التي تمت تحت لافتات الانتقال الديمقراطي. التفكيك وعدم البناء في المنطقة العربية: تميزت السياسات التي تبناها الغربيون على نحو عام والأمريكيون على نحو خاص لنشر الديمقراطية في المنطقة العربية باستهداف تفكيك الدول العربية وتفكيك مؤسساتها وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، ودون إعادة بنائها، بل ودفع الأحداث باتجاه صناعة حروب أهلية وطائفية بها وبدؤوا في تنفيذ تلك السياسات بتبني مبادرات لنشر الديمقراطية في المنطقة. المبادرة الأمريكية لنشر الديمقراطية وملحقاتها: ادعى مصممو المبادرة الأمريكية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، بأنهم يستندون إلى أطروحة تقول: إنّ أحد المصادر الأساسية للإرهاب يتمثل في غياب الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومن ثم فإنّه لا ينبغي الركون إلى أنظمة مستقرة وصديقة للولايات المتحدة في المنطقة، وعوضا عن ذلك ينبغي نشر الديمقراطية والرفاه الاقتصادي بها(6). عبرّ عن ذلك مبكرا وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول، وريتشارد هس مدير مكتب التخطيط السياسي بوزارة الخارجية، ووظفت الإدارة الأمريكية تقريراً حول التنمية البشرية العربية صدر عن المنظمة الدولية أشار إلى النقص في المعرفة وتكنولوجيا المعلومات، وإلى غياب الديمقراطية والحريات الأساسية، وضعف مشاركة المرأة في الحياة العامة في البلاد العربية. وربطت بين التقرير ومبادرتها لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وأعلن الرئيس الأمريكي بوش في خطابه أمام الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية في 6/11/2003 مبادرتهGreater Middle East Initiative لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، مبرراً ذلك بالقول "إن تغاضي الأمم الأوربية عن نقص الحريات في الشرق الأوسط، كان هو المسئول عن التهديدات الأمنية الصادرة عنها"(7). واشتملت مبادرة الرئيس الأمريكي كما جاء في الخطاب المذكور على النقاط التالية: 1. تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط سيكون منذ اليوم المهمة الضخمة والصعبة التي سنأخذها على عاتقنا، وهي تستحق منا الجهد والتضحية المبذولين فيها. 2. طالما الحرية والديمقراطية لم تزدهر في الشرق الأوسط، ستبقى المنطقة راكدة وباعثة على الامتعاض والعنف لساكنيها، ومصدّرة للإرهاب والعنف للأمم الحرة. 3. الإسلام والديمقراطية متعايشان؛ حيث أثبت ذلك ملايين المسلمين من تركيا إلى اندونيسيا إلى نيجيريا. 4. برهنت الولايات المتحدة على قدرتها على نشر الديمقراطية في كل مكان يخلو منها. والتقدم في عملية نشر الديمقراطية سيعزز السلام والأمن في الولايات المتحدة والشرق الأوسط على السواء. وقدمت الولايات المتحدة هذه المبادرة إلى قمة الدول الصناعية الثمانية، مع إضافة بعض التعديلات عليها، تركزت حول ضرورة التعاون مع النظم السياسية العربية القائمة، وعدم العمل من وراء ظهرها، وعدم فرض الديمقراطية من الخارج. وتضمن الإعلان المشترك للمجموعة حول الشرق الأوسط المسمى الشراكة من أجل التقدم والمستقبل المشترك Partnership for Progress and common future من أجل دعم الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا، بعض الخطوات الإجرائية(8) نذكر منها: · تأسيس منتدى يسمى المنتدى من أجل المستقبل Forum for the future يجمع وزراء الخارجية، والاقتصاد، وغيرهم من رجال الأعمال، وقادة المنظمات غير الحكومية من مجموعة البلدان الصناعية، وبلدان المنطقة للنقاش حول قضايا الإصلاح. · تبني خطة لدعم المبادرات الجديدة من أجل الإصلاح يكون من شأنها: 1. الحوار من أجل الديمقراطية، وذلك بمشاركة مؤسسات ديمقراطية، ومنظمات غير حكومية من مجموعة البلدان الصناعية، ودول أخرى لتعزيز المؤسسات الديمقراطية، وتبادل المعلومات المتعلقة بالبرامج الديمقراطية، والرعاية المشتركة للبرامج والمبادرات الديمقراطية، ويأتي ضمن هذا الإطار رعاية كل من تركيا واليمن وايطاليا للحوار من أجل المساعدة على التحول الديمقراطي. Democracy Assistance Dialogue 2. تبني برنامج للإقراض لمدة 5 سنوات؛ وذلك لتمويل مبادرة لمساعدة وإقراض مليونين من صغار المستثمرين من اجل القضاء على الفقر، ويستضيف كلّ من الأردن واليمن مركزين للتدريب في هذا الإطار. 3. تدريب 100 ألف مدرس على برنامج لمحو الأمية برعاية أفغانستان والجزائر. 4. تدريب حوالي 250 ألفا من صغار المستثمرين، وخاصة من النساء لتطوير القدرة التوظيفية، وذلك برعاية البحرين والمغرب. 5. تخصيص 100 مليون دولار من برنامج تنمية المشروعات الصغيرة التابع إلى مؤسسة التمويل الدولي لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة. 6. تبني شبكة تمويل لتنسيق جهود مؤسسات التمويل الدولي في المنطقة، وتأسيس فريق للمساعدة في خلق مناخ استثماري. وفي الختام تدعو المبادرة إلى الشراكة مع حكومات المنطقة، ورجال الأعمال والمنظمات الحكومية بها، لتكثيف وتوسيع البرامج القائمة لتعزيز الديمقراطية، وتحسين التعليم، وخلق فرص العمل، وتحقيق النمو الاقتصادي. وفي 26/6/2004 صدر الإعلان الأمريكي الأوربي لدعم السلام، والتقدم، والإصلاح، في الشرق الأوسط الكبير وحوض المتوسط(8) متضمناً في ديباجته دعم شعوب وحكومات المنطقة لبناء الديمقراطية، وتعزيز حقوق الإنسان، والتأكيد على أن المزيد من الحرية الاقتصادية والسياسية يمكن أن يغير حياة الناس في البلدان المعنية، وأنّ ذلك الدعم مقدم على أساس روح الصداقة، والاحترام، والمشاركة مع حكومات وشعوب المنطقة، وليس على أساس الفرض من الخارج! وفي هذا الإطار رحب الإعلان بمبادرات الإصلاح السياسي والاقتصادي في المنطقة؛ كإعلان القمة العربية في 23 مايو 2004 وإعلانات الإسكندرية، والبحر الميت، وصنعاء، والعقبة والتحليل الهام الذي قدم في تقريري التنمية البشرية 2002و2003 . كما أشار الإعلان إلى دعم المبادرات التي طرحت في السابق لتحقيق نفس الغرض؛ كالمبادرة الأمريكية، ومبادرة مجموعة الثمانية، والمبادرة الأوربية للشراكة مع بلدان حوض المتوسط وبلدان الشرق الأوسط، والاتفاقية الأوربية الخليجية للتعاون والشراكة الإستراتيجية الأوربية للبحر المتوسط والشرق الأوسط. وفي هذا السياق تعهد الطرفان للعمل معا في مناطق محددة لدعم: الإصلاح الديمقراطي وتعزيز مبادئ الديمقراطية ومؤسساتها، ومن ضمن ذلك توفير المساعدة التقنية لدعم لجان الانتخابات المستقلة، وبرامج تسجيل الناخبين، وإدارة الانتخابات، وبرامج التوعية الأهلية مع التركيز على مشاركة المرأة في الانتخابات والترشيح، وتعزيز التبادل البرلماني، ووسائل الإعلام المستقلة، والدعم العملي والمالي لحقوق الإنسان، والإصلاح التشريعي، ومبادئ الحكم الرشيد، وتعزيز الروابط والدعم المالي لتحقيق تقدم ملموس في تلك المنطقة، والعمل من أجل تقدم هام في محو الأمية، والرفع من مستوى مؤسسات التعليم الأساسي والعالي، ودعم التكامل الاقتصادي والتجارة البينية، والفرص الموسعة للتجارة في السوق الدولية، ودعم دخول دول المنطقة إلى منظمة التجارة الدولية( W.T.O ) ، وتوفير الدعم التقني لرجال الأعمال، ولاتفاقيات التجارة البينية، وبرامج التسهيلات التجارية، والغرف المحلية للتجارة، مع الأخذ في الاعتبار مبادرات التكامل الاقتصادي في المنطقة. كما أشار الإعلان إلى دعم خطوات حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، على أساس فكرة الدولتين، ووفقا لخريطة الطريق. وتم الاتفاق بين الطرفين على إيجاد أفضل السبل لتنسيق الجهود المتبادلة للمشاركة والحوار مع الحكومات، وممثلي المجتمع المدني، وقطاعات الأعمال في المنطقة، مؤكدين على أنّهما سيستجيبان لأي دعوة من أجل الإصلاح تنبعث من المنطقة، وأنّهما سيستغلان استغلالا كاملا البنى والمؤسسات القائمة، والحوار بين الطرفين من أجل التأكد من أن الفرص من أجل التعاون الدائم بين برامجهما الخاصة توتي أكلها. وهذه المبادرات الغربية لنشر الديمقراطية في المنطقة العربية، والشرق الأوسط، في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب؛ فهي تدعي العمل على نشر الديمقراطية، وتعزير فرص التنمية، بينما ترمي إلى تفكيك الدول العربية وعدم السماح بإعادة بنائها، بل حرص الذين صمموها والذين تولوا تنفيذها لبدل كل ما في وسعهم لصناعة الحروب الأهلية والطائفية، والحيلولة دون توقفها، وقد ترمي مخططاتهم إلى إدامتها حتى تأتي على كافة سكان المنطقة. ويستخدم صنّاع السياسات والقرارات في الغرب تكتيكات جديدة، تختلف عن السياسات الاستعمارية والإمبريالية التقليدية التي استخدمت زمن التمدد الكولنيالي للإمبراطوريات الأوربية، في القرون الخمسة الأخيرة من الألفية الثانية، حيث استفاد منظروه وصنّاعه من سلبيات تلك التجربة، التي شكل الحضور المباشر للقوة العسكرية الإمبريالية في المستعمرات عامل استفزاز للسكان، وهو ما دفعهم للمقاومة الشرسة لتلك القوة. ومن هناك اعتمدت السياسات الإمبريالية في الألفية الثالثة اساليب جديدة وخاصة عقب كسب الغرب للحرب الباردة يمكن تلخيصها في الآتي: 1- الطريقة الأولى: وتستهدف خلق قوة موالية من سكان البلد المستهدف، ودعمها بالسلاح ثم التدخل بضربات جوية وصاروخية لترجيح كفتهم، وفي حالات الضرورة القصوى قد تضطر للتدخل العسكري المباشر لمصلحتها ومصلحتهم. وبمجرد تمكينهم من السيطرة على مفاصل الدولة تنسحب منها، مع الاحتفاظ بقواعد عسكرية فيها تدعم الحكومة الموالية، وتكون عيناً للولايات المتحدة على القوى الإقليمية النشطة وتحركاتها في المنطقة. وهو ما طبق في وبطرق مختلفة في يوغسلافيا وافغانستان والعراق وعلى نحو ما في ليبيا. 2- الطريقة الثانية: استخدام تقنيات الانقلابات الشعبوية، والحروب الأهلية، والاستفادة من كافة المعارضين للنظم السياسية القائمة، وعلى نحو خاص الحركات الجهادية التي استخدمت لإنهاك الاتحاد السوفيتي وتقويضه، لإشعال حرب ضد النظم القائمة، وتكليف وكلاء الغرب في المنطقة لدعمهم بالمال والسلاح. وهو ما طبق في ليبيا وسوريا واليمن وقد تسعى الدول الغربية لتعميمه على كافة البلدان العربية، وثمة شواهد لمحاولة تطبيقه في مصر، وشواهد على احتمال انتقاله إلى تونس، رغم حرص الغربيين على عدم انتقاله إليها لاستخدامها كنموذج ناجح لما سمي بثورات الربيع العربي، وليجد فيها الغربيون الذريعة لاستبعاد فكرة المؤامرة. وتستخدم الامبريالية الجديدة عدة وسائل للوصول إلى تحقيق أهدافها نذكر منها: 1. قنوات إعلامية موجهة. 2. قنوات تواصل اجتماعي. 3. جهاز استخبارات قوي. 4. جمعيات أهلية وأحزاب ذات تمويل أمريكي أو ممولة من قبل وكلاء أمريكا المحليين. 5. مراكز بحثية وتدريبية ذات تمويل أمريكي أو ممولة من قبل وكلاء أمريكا المحليين. 6. كتاب وصحافيون ومثقفون ورجال دين. 7. المؤسسات الاقتصادية الدولية كمؤسسات بريتون وودز المتمثلة في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير بالإضافة إلى منظمة التجارة الدولية. 8. المنظمات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن ومحكمة الجنائيات الدولية. 9. الوكلاء التجاريون في البلدان المستهدفة. 10. القوة العسكرية الضاربة للولايات المتحدة وقوات حلف الناتو. وتبدأ خطة التمدد الإمبريالي الجديد المغلفة بدعاوى نشر الديمقراطية بممارسة شتى أنواع الضغوط السياسية والإعلامية على البلد المستهدف، تعمل على شيطنة قياداته ومسئوليه في نظر دافع الضرائب الأمريكي والغربي، وفي نظر مواطني الدولة المستهدفة، وفي نظر الرأي العام العالمي. فيُنعت النظام بالدكتاتوري وحكامه بالفاسدين مالياً وإدارياً، وتُروج عنهم وثائق مزورة وأخبار مفبركة تؤكد فسادهم. يعمل تكرار نشرها، وكثرة الإشارة إليها، وتعدد الوسائط الإعلامية المتناولة لها على ترسيخها في ذهن المتلقي، إلى درجة التوهم بأنّه ثمة إجماع علي صحتها. فالغلبة في المعركة الإعلامية المصاحبة للحروب غالباً ما تكون لصاحب الضجة الأعلى أي أن " الغلبة للأقوى نباحاً"؛ فمن منا لا يشمئز في داخله من هتلر أو ستالين، لمجرد أنّ الإعلام الغربي نجح في شيطنتهما في أذهاننا، رغم أنّهما لو أعيد كتابة التاريخ على نحو مستقل عن المركزية الغربية، لصار الاثنان ملاكين أمام حجم الجرائم التي ارتكبتها الديمقراطيات الغربية! التي سميت زوراً كذلك بينما الأجدر تسميتها بالإمبرياليات الغربية. الأسباب الداعية لاستهداف المنطقة العربية والإسلامية: 1. السيطرة على النفط والغاز في المنطقة العربية والإسلامية، والحيلولة دون السيطرة عليه من قبل قوى منافسة أو مناهضة لأمريكا والغرب. 2. التحكم في خطوط الملاحة الجوية والبحرية التي تمر عبر المنطقة، والحيلولة دون أن تتحكم فيها قوى منافسة أو مناهضة لأمريكا والغرب. 3. تشكل المنطقة العربية والإسلامية المنطقة الرخوة والحلقة الأضعف، التي من شأن البدء بها في مشروعات التمدد الإمبريالي الغربي رفع معنويات الجنود وإرهاب المنافسين والأعداء المحتملين. وهو ما عبر عنه جان بريكمون بالقول: " ووفق هذا المنظور الاستراتيجي، قررت الولايات المتحدة ان تكون أولى ضرباتها في المنطقة الممتدة من البلقان الي آسيا الوسطي الي الشرق الأوسط والخليج. لماذا اختارت واشنطن هذه المنطقة ميدانا لاولي الحروب الأمريكية في القرن الواحد والعشرين؟ ليس لأنها تأوي اعداء خطيرين، فالعكس هو الصحيح، ولكن لأنها البطن الرخو للنظام العالمي ، وتتكون من مجتمعات عاجزة – لاسباب عديدة – عن الرد علي العدوان، ولو بأدنى قدر من الكفاءة. إن توجيه ضربة للضعيف في مستهل سلسلة حروب طويلة هي استراتيجية عسكرية واضحة ومبتذلة؛ إنّها على غرار ما فعل هتلر عندما بدأ بغزو تشيكوسلوفاكيا، ثم ليرتقي بطموحاته لتشمل المملكة المتحدة وفرنسا وروسيا " (9). 4. الخوف من النهوض العربي والإسلامي، ذلك أنّه ثمة شعور سائد لدى الغربيين بأنّه ما أن ينهض العرب حتى يفكروا في تقويض الحضارة الغربية. 5. حضور العرب والمسلمين في الذهنية الغربية كعدو، وهو ما جعل صناع القرار والسياسات في الولايات المتحدة والغرب يستثمرون ذلك في محاولاتهم الدؤوبة لتصنيع العدو، الذي تحتاج إليه المجتمعات الغربية على نحو عام، والمجتمع الأمريكي على نحو خاص لتتكاثف وتتوحد، عقب اختفاء الاتحاد السوفيتي العدو التقليدي للغرب. 6. الحضور العسكري الأمريكي والغربي في المنطقة العربية والإسلامية، يمكّن الولايات المتحدة والغرب من المرابطة على تخوم القوى الناهضة في اوراسيا، لمراقبتها والحد من دورها الإقليمي والدولي. النخب المثقفة في الغرب والمعايير المزدزجة: ولعل ما يدعو للاستغراب أن تتورط النخب المثقفة في الغرب، من فلاسفة وشعراء ليس في الدعوة إلى العرقية والعنصرية وإلى غزو الأمم الأخرى فحسب، بل وتصوير ذلك على أنّه عبء يتحمله الرجل الأبيض الغازي من أجل سواد عيون ضحاياه، في حملة تزوير لا مثيل لها في التاريخ المعاصر، وحتى الذين لم يتورطوا منهم في الترويج الصريح للنظريات العرقية التي تعلي من شأن الجنس الأبيض، وتعطيه دوراً رسالياً لتمدين الأجناس الأخرى، تورطوا في استخدام معايير مزدوجة، ينحازون فيها على نحو مطلق إلى الحرية حين يتعلق الأمر بالجنس الأبيض، في حين يجيزون الاستعمار، والقتل، والاستعباد والرق، حين يتعلق الأمر بالأجناس الأخرى، وهو ما لم يسلم منه فلاسفة كبار نذكر منهم: جون لوك: وقع جون لوك ضحية المعايير الغربية المزدوجة؛ ففي حين انتقد لوك استبداد الملوك، واعترض على عبودية المواطنين الأنجليز للملك، واعتبرها حالة بائسة وبغيضة، في كتابه "مقالتان في الحكومة"، ودافع في كتابه عن الحقوق الطبيعية للفرد في الحرية، والحياة، والملكية، والتي تعد حجر الزاوية في النظرية الليبرالية، لم يجد لوك غضاضة في الاستثمار في تجارة العبيد؛ حيث كان أحد أبرز المستثمرين في الشركة الأفريقية الملكية، التي قامت ببيع حوالي 90 ألف أفريقي أسود إلى المستوطنين الانجليز في القارة الكندية "الأمريكية"! بل وساهم في صياغة القوانين التي تحكم العلاقة بين السادة البيض وعبيدهم! حيث كان جون لوك مسؤولاً عن تعديل واحدة من المواد الأساسية في دستور كارولاينا وهي المادة رقم 101، والتي صيغت على النحو التالي: " يتمتع كل رجل حر في كارولاينا بسلطة مطلقة على عبده الزنجي باستثناء ما يخص الدين والرأي"(10). جون ستيوارت ميل: يعد ميل من أعمدة الليبرالية غير أنّه وقع ضحية المعايير المزدوجة هو الأخر؛ ففي حين نظّر للحرية في كتابه عن الحرية: بحث في أشكال الحرية ومراميها، والذي دعا فيه ميل إلى توفير الحرية للفرد، وأن يترَك له أوسع مدى لتنمية مواهبه، وإذكاء ملكاته، وأكد فيه ميل على أن منفعة الفرد لا تتحقق إلا بضمان حريته، وأن المجتمع يتقدم بقدر ما يتقدم أفراده بحرية واستقلالية، كما دعا إلى منح المرأة حق الانتخاب، ومساواتها بالرجل، ودعم فكرة التعليم الإلزامي، ودعا إلى تحسين ظروف العمال(11)، ومع ذلك فميل نفسه كان موظفاً لدى شركة الهند الشرقية، الاستعمارية حيث عمل موظفاً فيها عام 1823، وتدرَّج في وظائفها، وارتقى إلى أعلى درجاتها إلى أن حُلّت في عام 1858. كما دعم في كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي" الاستعمار الاستيطاني قائلاً: " يجب أن لا يكون لدينا أدنى شك في التأكيد بأنّ الاستعمار، في الوضع العالمي الحالي، هو أفضل مجال يمكن لرأس مال الدول الغنية أن ينخرط فيه"(12). كارل ماركس: على الرغم من تبني ماركس للاشتراكية، ودفاعه المستميت عن حقوق الشغيلة؛ حيث كرس حياته وكتاباته لهذه القضية، غير أنّه هو الأخر كان ضحية المعايير المزدوجة، وعقدة المركزية الأوربية؛ فدعم الحركة الاستعمارية، ورأى بأنّها ستؤدي إلى تطوير المجتمعات المتخلفة، ودفعها نحو الرأسمالية الصناعية الأمر الذي قد ينشئ بروليتاريا صناعية، تكون قائدة للثورة البروليتارية بتلك البلدان. وتأثرت للأسف بهذه الدعاوى الأحزاب الماركسية في المستعمرات، فدعت إلى توحيد جهودها مع الأحزاب الماركسية في الدول الاستعمارية لنصرة البروليتاريا في البلدين المستعمِر والمستعمَر! فكتبت على نفسها الخيانة الوطنية. كما أيد ماركس وانجلز العبودية في أمريكا واعتبرا أن العبيد السود في الأمريكتين يساهمون في القفزة الهائلة التي حققها العالم الغربي، فالرق في تصورهما هو أحد مرتكزات الصناعة البرجوازية؛ حيث كتب إنجلز "بأنّه أحد مرتكزات الصناعة البرجوازية، شأنها شأن الآلات .. إلخ، فبدون الرق لا يمكن الحصول على القطن، وبدون قطن لا توجد صناعة حديثة"(13). نعوم تشومسكي: يتصف تشومسكي بعين ثاقبة وقدرة عالية على تشخيص عيوب الامبراطورية الأمريكية، ومن القلة التي يمكن وصفها بالتحرر من عقدة المركزية الأوربية "الغربية"، ومع ذلك سقط سقطة كبيرة حين رأى بأنّ ما يحدث في سوريا انتفاضة شعبية(14) ولم يتمكن من رؤية عبث الغربيين بالبلدان العربية؛ حيث منحوا أنفسهم حق نشر الديمقراطية فيها في الظاهر، بينما هم يقومون بتأسيس خطوط انتاج لحروب أهلية، خططوا لها لتستمر عقوداً، بذرائع نشر الديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، في حين يستخدم الإنسان العربي وتستخدم الطوائف والأقليات وقوداً لحرائق الغرب في المنطقة. ومع ذلك لا ينبغي أن نغفل عن وجود بعض الأصوات الغربية المنصفة، والتي لم تتماه مع تلك الدعاوى الغربية لنشر الديمقراطية، وبدلت جهداً لنقدها وتعريتها؛ يتصدرها الأستاذ الجامعي الروسي الأصل في جامعة أوتوا تشودوفسكي، وأستاذ علم الاجتماع والباحث الكندي مهدي داريوس ناظم رؤیا، والصحفي الفرنسي تيري ميسان والكاتب الفرنسي البلغاري الأصل تزيفتان تودوروف، والباحث الألماني في الشؤون الاستراتيجية إيزيو بونسيوري وغيرهم. خاتمة: مثلما باع قساوسة السوق في الغرب أوهام عبء الرجل الأبيض لتمدين الشعوب المتخلفة في القرون الخمسة الأخيرة من الألفية الثانية، عادوا لبيع ذات الأوهام عقب زوال ما أسموه بالخطر الأحمر أو ما يحسن تسميته بالتهديد الاشتراكي، الذي أفلح في كشف عورات السوق، والرأسمالية المتوحشة، التي تختطف الشعوب الغربية، وتعبث بحياتهم ومواردهم، غير أنّه لم يفلح في صياغة بديل ناجع لتلك الرأسمالية المتوحشة؛ حيث عاد قساوسة الليبرالية الجديدة لبيع أوهام عبء الرجل الأبيض في نشر الديمقراطية، وتلقفتها قوى عديدة في أوربا الشرقية، وفي المنطقة العربية، فكانت بمثابة حصان طروادة لتخريب بلدانهم، ويمكن تصنيف تلك القوى أو الفئات التي منحت ظهورها للرجل الأبيض ليستخدمها كمطايا لمشروعاته المشبوهة إلى فئات ثلاث: 1-جوعى للديمقراطية تعاملوا بسذاجة وثقة مفرطة في وعود الغرب لنشر الديمقراطية. 2-انتهازيون يعلمون مدى خطورة المخطط الغربي لنشر الديمقراطية، غير أنّهم انخرطوا فيه علهم يخرجون بنصيب الأسد من كعكة السلطة، حين يخبت غبار الحروب الأهلية والطائفية التي سيشعلها الغرب. 3- موثورون لا يهمهم من أمر الوطن ومواطنيه، سوى رؤية أعدائهم يواجهون مصير تشاوشيسكو، وصدام حسين، على أسوى الفروض ومصير مبارك وبن علي على أحسنها، فباعوا أوطانهم وأمنهم وخيرات بلدانهم بثمن بخس، وسيعضون أصابعهم ندماً حين لا ينفع الندم. ومن هناك مكنّت هذه الفئات الثلاثة من حيث تعلم أو لا تعلم للغرب من تفكيك بلدانهم وتخريبها وبأيديهم، كما ساهمت حكومات تركيا والسعودية والأردن، وبلدان الخليج باستثناء عُمان في تحمل فاتورة هذه الحروب التخريبية، لمصلحة الغرب ودون أي خجل، أو خوف من عقاب الله تعالى، ولا من عقاب شعوبهم الذين استغفلوهم بخطاب طائفي مقيت، وضللتهم القنوات الغربية الموجهة، والمؤسسة لخدمة مخطط عبء الرجل الأبيض لنشر الديمقراطية، وفي مقدمتها الجزيرة والعربية والصفاء وأهل البيت، والعديد من القنوات الأخرى. وللذين لم تزل الغشاوة على أعينهم نورد لهم هنا ما قاله الباحت الألماني في الشؤون الاستراتيجية إيزيو بونسيوري:" أننا ندَّعي حق حماية أولئك الذين نقرر اعتبارهم أصدقاء ودمى وألاعيب سهلة، بينما نقصف بالقنابل كل من لا يروق لنا موقفه" (15). المراجع والهوامش: أولاً الهوامش: 1- د. محمد عبد الستار البدري، هل يستمر عبء الرجل الأبيض، الشرق الأوسط، الجمعـة 13 محـرم 1433 هـ 9 ديسمبر 2011 العدد 12064. 2- أنظر الفين توفلر ، الموجة الثالثة، ص 92 . 3- أنظر موسى الفقي، اغتيال الأمم: الخطة الأمريكية لإبادة سكان الكوكب، خارج السرب، http://www.kharejalserb.com/?p=30237 3- د. منقذ بن محمود السقار، الاستعمار في العصر الحديث ودوافعه الدينية، http://www.saaid.net/Doat/mongiz/16.htm 4- نعومي كلاين، عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، ترجمة نادين خوري، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة الثانية 2009. ص 57. 5- تعبير نحته فرانس فانون في كتابه سيكولوجة ثورة، ويقصد به العمالة المستفيدة من الحضور الأجنبي في البلاد النامية. 6- وثائق البيت الأبيض، www.whitehouse.org 7- وثائق البيت الأبيض، www.whitehouse.org 8- وثائق البيت الأبيض، www.whitehouse.org 9- سيلفا توري، امبريالية بروح إنسانية، حوار مع جان بريكمون. 10- جون لوك تاجر العبودية ومؤسسها http://www.alhayat.com/Details/484490 11-علي ملا، جون ستيوارت ميل. 12- المرجع السابق. http://alexandra.ahlamontada.com/t5984-topic 13- عبد الوهاب المسيري، الماركسية والتمركز حول الذات الغربية، http://www.aljazeera.net/knowledgegate/ 14- مقابلة أجرتها مع قناة الجزيرة مع تشومسكي. http://www.aljazeera.net/programs/today-interview/ 15- إيزيو بونسيوري، من "عبء الرجل الأبيض" إلى "حق الحماية" الامبريالية بوجه أودع،* ترجمة وإعداد :د.نادر كوسا، http://www.alayham.com/node/3620 ثانيا-المراجع: 1- د. محمد عبد الستار البدري، هل يستمر عبء الرجل الأبيض، الشرق الأوسط، الجمعـة 13 محـرم 1433 هـ 9 ديسمبر 2011 العدد 12064. 2- موسى الأشخم، الانتقال الديمقراطي والسوق، ندوة أية تنمية وأية ديمقراطية في مرحلة الثورات العربية، الملتقى العلمي المغاربي الثالث،جمعية البحوث والدراسات لإتحاد المغرب العربي، تونس في الفترة 27-28-11-2113. 3- أنظر موسى الفقي، اغتيال الأمم: الخطة الأمريكية لإبادة سكان الكوكب، خارج السرب، http://www.kharejalserb.com/?p=30237 4- د. منقذ بن محمود السقار، الاستعمار في العصر الحديث ودوافعه الدينية، http://www.saaid.net/Doat/mongiz/16.htm 5- نعومي كلاين، عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، ترجمة نادين خوري، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة الثانية 2009. ص 57.
|
|