كتب الكثير عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية للحرب الاهلية في لبنان، إلا أنه لم يُكتَب الكثير عن الأثر البيئي لهذه الحرب، بالرغم من ظهوره الواضح والمتمادي. فبالاضافة الى حجم الدمار الكبير الذي لحق بكل شيء، وردميات المباني التي رُمِي معظمها على الشاطئ، كان للتحوّلات الديموغرافية والهجرات الداخلية بسبب الحرب الأثر الأكبر في تغيير معالم ومقومات الطبيعة اللبنانية وتآكل الكثير من المساحات الخضراء. فالفرز المناطقي والطائفي والمذهبي دفع الكثير من اللبنانيين الذين كانوا يعيشون في أماكن مختلطة الى الهجرة الى مناطق لها لون طاغٍ معين لاسيما على المناطق الساحلية والعاصمة وضواحي بيروت وساحلَي كسروان والمتن حتى باتت الكثافة السكانية على مساحة لبنان عالية، بل الأعلى في منطقة شرق البحر المتوسط (تبلغ اليوم نحو 400 في الكلم المربع، 70% من السكان يقيمون في المناطق الساحلية و80% في المدن).
فالكثير من هذه المناطق التي كانت خضراء، تزيّنها بساتين الليمون أو بعض الأحراج المثمرة كالصنوبر والزيتون، تم اقتلاعها و «زرع» أرضها بالاسمنت والباطون بشكل عشوائي وغير منظم. مع ما يتطلّبه هذا البناء السريع، بظروف الحرب، الى بنية تحتية كبيرة لم يتمّ التخطيط لها جيداً، مما تسبّب بفوضى وفورة عمار لا مثيل لها وتركت آثاراً بيئية لا تعوّض كمثل تناقص المساحات الخضراء الضرورية لتنقية الهواء وفوضى في شق الطرق والشوارع واستنزاف وتلويث المياه الجوفية. وكذلك الأمر بالنسبة الى الاعتداءات على الاملاك العامة البحرية والنهرية، بالإضافة الى الاعتداء على مشاعات القرى. مما اخلّ بالكثير من النظم الايكولوجية البرية والبحرية والنهرية على السواء. وتسبب ايضا بتلويث المياه السطحية والجوفية بالإضافة الى الشاطئ. كما تسبب سوء إدارة النفايات بانتشار المكبات العشوائية غير المراقبة على الشاطئ وفي الوديان من كل حدب وصوب. بالإضافة الى فضيحة استيراد النفايات الصناعية السامّة عبر المرافئ غير الشرعية خلال فترة الحرب والتي تم نقل بعضها الى مناطق مختلفة للتخلص منها متسبّبة بكوارث لم تدرَس كفاية طبيعتها وآثارها البعيدة المدى. وقد اقفل هذا الملف بعد اجبار بعض الدول كايطاليا على استرداد بعض هذه النفايات ودفن البعض الآخر في اماكن معروفة وغير معروفة. كما تمّ إهمال موضوع معالجة المياه المبتذلة بعد فترة انتهاء الحرب وحتى يومنا هذا، بكون الحكومات المتعاقبة بعد الطائف لم تولِ هذا الموضوع الاولوية الذي يستحق رغم تأكيد الكثير من الدراسات أن مياه الصرف تتسبب بتلويث المياه العذبة في لبنان بنسبة 80%! وبسسبب الصراعات المترسبة من الحرب الأهلية والفرز المناطقي والطائفي، جرى التعامل مع الكثير من قضايا البيئة بلامركزية سلبية، اذ تقاسم امراء الحرب «المنتصرون» مواقع واعمال قطاع المقالع والكسارات والمرامل التي توزعت تشوهاتها على المحافظات كافة بالتساوي في الضرر وفي التفلت من القوانين والمخططات التوجيهية التي كانت سياسية أكثر منها فنية.
كما قطعت الحرب اوصال الغابات والأحراج، ولم تحمَ بعض الاماكن الا لأسباب سياسية - نفعية اكثر منها علمية، بالاضافة الى بعض الحمايات للمساحات الخضراء الدينية، ليس بسبب وعي المؤسسات الدينية البيئي، بقدر ما هو تنفيذ لقرارات عليا بعدم السماح ببيع اراضي الاوقاف. الا ان هذا القرار لم يحُل دون تأجير بعض اراضي الاوقاف لأهداف استثمارية لا تراعي شروط البيئية في الكثير من المناطق، أي اما لإنشاء مقالع وكسارات ومرامل او مكبات للردميات او للنفايات، بشكل عشوائي ومن دون مواصفات.
اما المشكلة الاعم التي تسببت بها الحرب الاهلية وكرستها حكومات ما بعد الطائف، فهي إلغاء وزارة التخطيط وتكليف مجلس الانماء والاعمار وضع المخطط التوجيهي لترتيب الاراضي، وتأخر هذا الاخير عن وضع هذا المخطط بسبب التجاذبات السياسية لحين صدور مخطط يحتاج الى الكثير من المراجعة العام 2009، أي بعد ان قطع المخالفون اشواطاً بعيدة في الاستثمار ومرحلة ما يسمى «إعادة الإعمار»، وبعد ان تجاهل هذا المخطط كيفية التعامل مع المخالفات التي حصلت خلال الحرب وعدم التمكن من إعادة تصنيف المناطق وحماية الاماكن الاثرية والزراعية ومصادر المياه والشواطئ ومجاري الانهر...الخ. وقد ظهرت خارطة عجيبة للبنان ما بعد الحرب اختلطت فيها الأماكن الصناعية مع الاماكن السكنية ودمرت اماكن اثرية عدة وسرقت املاك عامة وضمت الى ممتلكات خاصة وغزا العمران اماكن زراعية عدة، بينما غزت الزراعة أماكن حرجية مهمة في مناطق أخرى... ولم تنجح السلطات المتعاقبة بإعادة ترتيب الأراضي وبخلق مناطق صناعية محدّدة مع بنية تحتية خاصة ولا بإعادة تنظيم الفوضى العمرانية التي طالت القطاعات كلها وكل شيء.
ظل وضع لبنان البيئي، كما الاقتصادي والاجتماعي، مقبولاً نسبياً حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين، أي مع بداية الحرب الأهلية، فعلى الرغم من الخلل التاريخي في توزّع الثروة، ظل متوسط دخل الفرد متقدّماً مع غالبية ذات دخل محدود مقبول وقلة على حدود خط الفقر ونسبة ضئيلة جداً ما دون خط الفقر قياساً بمستوى الدخل في الدول النامية وقياساً بواقع الحال بعد سنوات الحرب وحالياً.
وعلى الرغم من المشكلات البيئية التي تفاقمت مع النمو السكاني، ظلت نسبة التلوّث حتى منتصف السبعينيات ضمن حدود الأمان والمساحات الحرجية والغابية بالمستوى العادل ما بين 20 و22 في المئة.
مع الحرب، بدءاً من العام 1975، اختلّ التوازن بشكل خطير. بدأت المشكلة مع تهديد الموارد الطبيعية من مصادرها والتي أصابها التخريب والسرقة وازداد استنزاف الموارد بشكل كبير في ظل غياب سلطة الدولة المركزية. كما قفز التلوث إلى معدلات خطيرة في ظل تدهور بيئي عام تمثل بقطع الغابات والحرائق فيها، والتخلّي عن الأراضي الزراعية وانجراف الأراضي المدرجة وتدمير مناطق تكاثر الأسماك، واختلاط مياه البحر بالمياه الجوفية نتيجة الضخّ المفرط بواسطة الآبار الارتوازية على طول الساحل وانتشار المقالع والكسارات والمرامل عشوائياً وفي المناطق الحرجية أو بالقرب منها والانتشار العشوائي المديني والرعي الجائر والصيد الجائر براً وبحراً. وإفساح المجال في ظل الفوضى والحرب لإدخال نفايات خطرة الى لبنان ورميها عشوائياً في مناطق عدة. ورمي النفايات عشوائياً أو في مكبات قريبة من دون أي معالجة أو على الشاطئ وفي البحر ما فاقم من تلوث السواحل الملوثة بتصريف المياه المبتذلة المنزلية والصناعية والزراعية من دون أي معالجة وارتفاع نسب تلوث الماء والتربة والهواء.
يُضاف إلى كل تلك المشكلات استمرار وتيرة النمو غير المتوازن، إن مناطقياً أو قطاعياً ، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن قطاع الصناعة نما على حساب قطاع الزراعة والانتشار المديني العشوائي والسياحة، وبخاصة في المناطق الساحلية حيث يسجل غياب «الإدارة المتكاملة للمنطقة الساحلية»، تاريخياً وخلال الحرب وما بعدها. في ظل كل ذلك وصل استنزاف الموارد الطبيعية إلى حد التخريب، وأدت عشوائية النمو إلى تخريب بيئي واضح، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن السهول الساحلية اختفت، أو تكاد، جراء الانتشار السكني والصناعي العشوائي. ومجاري الأنهر باتت مكبّات للنفايات الصلبة والسائلة المنزلية والصناعية والزراعية.
كما تسبّبت الحرب بنمو سريع لقطاع الخدمات يقابله بطء نمو في قطاعَي الزراعة والصناعة، بالإضافة الى غلبة التوجّه الربحي ـ المالي في قطاعي الإنتاج الاقتصادي الصناعي والزراعي على حساب استدامة الاستفادة من الموارد.
عشوائية استخدام الأراضي
بالإضافة الى الفوضى في استغلال الأراضي، تسببت الحرب في ترك أكثر من 50% من الأراضي اللبنانية غير ممسوحة، مما فتح باباً واسعاً للتزوير والتلاعب بالحدود ووضع اليد على مشاعات وعلى أملاك عامة وخاصة واستغلال بعض المناطق استغلالاً عشوائياً وقاتلاً. كما تسبّبت هذه الفوضى بانتشار البنى التحتية والطرق على حساب الغطاء النباتي والتنوّع البيولوجي والأراضي الزراعية والمواقع الطبيعية والمواقع الأثرية. وانحسار المساحات الخضراء المدينية (حرج بيروت، بساتين المدن الساحلية...) وانحسار المساحات الخضراء المحيطة بالمدن (مشارف العاصمة الجنوبية – الشرقية والشرقية – الشمالية، مشارف المدن الساحلية، محيط المدن الداخلية...). وقد تمّ ما يُسمّى «التحديث المديني» على حساب المساحات الخضراء والآثار والتراث والمواقع الطبيعية. وانتشار سكني وخدماتي وصناعي على حساب الأراضي الزراعية (السهول الساحلية، البقاع، عكار) والمواقع الطبيعية والمناطق الحرجية والغابات وضفاف الأنهر ومحيط الينابيع وأثر ذلك جلي على البيئة ومواردها والتنوّع البيولوجي. كما حصل الانتشار الطولي للبلدات والقرى على جنبات الطرق العامة ما ينعكس كلفة مضاعفة لبنى الخدمات الأساس (تمديدات مجاري صحية، تمديدات شبكة المياه، تمديدات كهرباء، أقنية...).
كما تسبّب ضعف السلطة المركزية في بعض المناطق، الريفية خصوصاً، التي يعتمد اقتصادها تاريخياً على الزراعة التي تعاني مشكلات الكساد وسوء التصريف.. ما شجّع، إضافة إلى عوامل أخرى اجتماعية، على الزراعات الممنوعة (حشيش، أفيون) في ظل غياب خطط التنمية المناطقية أو محدوديتها وفشل برامج الزراعات البديلة. كما تسبّبت الحرب باستشراء الفساد (2012: لبنان في المرتبة 134 على مؤشر مفاهيم الفساد بين 183 دولة وفق منظمة الشفافية الدولية). وقد توجّه الكثير من الشباب الذين انخرطوا في الحرب بعد حلّ الميليشيات الى العمل ببعض الحرف لاسيما في أعمال البناء من دون اختصاص او تدريب مما تسبب بضعف البناء وإدخال مواد فاسدة فيه وتدنّي نوعية الأعمال والمنشآت في لبنان وتعريض اللبنانيين لمخاطر إضافية جمّة باتت متمادية ومتفاقمة في القطاعات كلها.
لم تتناول التقارير والدراسات ما بعد انتهاء الحرب الأهلية الهدر البيئي في لبنان إلا نادراً ولعل أول التقارير شبه الشاملة لمرحلة ما بعد الحرب الاهلية كان العام 1995 مع تقرير البنك الدولي الذي قدّر الهدر البيئي بما يقارب 300 مليون دولار سنوياً. وقد تمّ توجيه الكثير من النقد الى ذلك التقرير الذي لم يكن عميقاً وقد شمل المشاكل الظاهرة فقط من ادارة النفايات الى تلوث المياه والهواء، ولم يتناول موضوع تلوث التربة والزراعة والأضرار التي اصابت الثروة الحرجية ولا حجم الضرر في التنوع البيولوجي وانقراض الانواع التي لا تقدر بثمن. ثم ظهر تقرير آخر للبنك الدولي العام 2000، تحت عنوان «كلفة التدهور البيئي»، قدر الهدر البيئي بنحو 655 مليون دولار سنوياً. وقد بقي هو الآخر موضوع نقد لافتقاده أيضاً الى الشمولية المطلوبة.
ولعل أهمية هذا التقرير ما بعد الحرب أنها بيّنت بما لا يدعو الى الشك أن الاستنزاف مستمر للموارد وضغوط على البيئة زادت بدل أن تتراجع ما بعد الحرب وعودة الدولة! لاسيما حين طال الاستنزاف موارد غير متجدّدة كالجرف في المقالع وموارد تحتاج إلى زمن طويل لتتجدد كالأشجار التي تقطع أو تلتهمها الحرائق وطرق الصيد البري العشوائية والصيد البحري غير المشروعة التي أدت إلى انقراض أنواع وإلى تهديد أنواع أخرى بالانقراض.
كما طال الاستنزاف ثروات استراتيجية مستقبلية كمخزون المياه الجوفية التي تمّ استنزافها عبر حفر الآبار الارتوازية العشوائية في المناطق اللبنانية كافة. وقد أدى استنزاف المياه الجوفية في سهل البقاع إلى تعميق الآبار الارتوازية في العقد الأخير بمعدل الضعف.
وفي موازاة الاستنزاف فإن الموارد عموماً والمائية خصوصاً، تعرّضت المياه العذبة لضغوط خطيرة شملت مياه الينابيع والمياه السطحية الموسمية والأنهار الموسمية دائمة الجريان ومياه البرك والسدود والمياه الجوفية والمياه البحرية الشاطئية... الخ من هذه الضغوط ما يُصنف بالسرقة ومنها ما يُصنف بالسحب فوق قدرتها على التجدد ومنها بالتلويث لاسيما من مياه الصرف المنزلية والصناعية والزراعية وبالنفايات على أنواعها وبالملوثات الكيميائية، خصوصاً من الأسمدة والمبيدات إضافة إلى تلوث المياه السطحية، بالإضافة الى التلوث الكبير للمشاريع المسماة سياحية فوق قمم الجبال التي ساهمت أيضاً في تلويث المياه الجوفية ومياه الينابيع على المرتفعات حتى باتت مياه لبنان الجوفية تحت ارتفاع 800 متر عن سطح البحر بمعظمها ملوّثة. هذه المشاريع السياحية (التي استفادت من حالة الفوضى والتي وضع بعضها يده على أملاك عامة ومشاعات للقرى بالاحتيال). افتقرت إلى البنية التحتية اللازمة ساهمت بشكل كبير في تلويث أهم الخزانات الجوفية في لبنان وقد تأخر لبنان كثيراً وعن قصد في إصدار المخطّطات التوجيهية لترتيب الأراضي وإصدار القوانين بحماية قمم الجبال والينابيع والأحواض الجوفية.
مما وضع لبنان في دائرة الخطر المائي، لاسيما بعد أن ساهمت الحرب بزيادة خصخصة هذا القطاع وتحويل هذه المادة الحيوية التي تُعتبر حقاً من حقوق الإنسان كالهواء، إلى سلعة نادرة وثمينة للبيع!
قطع تواصل الغابات ومحميّات مبهمة
بعد نهاية الحرب استلحق لبنان نفسه العام 1992، عندما حدّد 14 منطقة محمية تغطي 2.5% من أراضيه. وتمّ اعتبار وزارة البيئة الجهة الحكومية الرئيسية المسؤولة عن إدارة المناطق المحمية في لبنان (المادة 23 من القانون 690/2005). وقد تركت فكرة الحماية التي تعني إبعاد الناس عن المناطق المحمية انطباعاً بيئياً سيئاً لما يجب أن تكون عليه فلسفة حماية البيئة بعد الحرب، وقد اعتبر هذا الإجراء استمراراً لفلسفة ميليشاوية تقوم على الإقصاء والإبعاد والإلغاء، بدلاً من فلسفة بيئية تشجع على حب البيئة وتقلد الحطابين والفحامين الأوائل الذين كانوا يعيشون من الغابات ويعرفون كيف يحمونها ايضاً.
بالإضافة إلى ذلك، يتباهى لبنان بتمتعه بـ3 محميات محيط حيوي (4% من الأراضي) و13 غابة محمية و16 موقعاً طبيعياً محمياً/مناظر طبيعية محمية و4 مواقع رامسار و5 مواقع تنتمي إلى لائحة التراث العالمي وعلى الأقل 15 منطقة طيور مهمة، إلا أنه لم يستطع ان يحمي تقسيم العمل والحطابين الحقيقيين وقد سمح باستخدام المناشير الآلية والصيد الآلي مما تسبب بقطع الكثير من الغابات وانقراض الكثير من انواع الطيور. كما أن معايير تحديد وإدارة المناطق المحمية بقيت مبهمة، بالرغم من البدء بصياغة مسودة قانون للمحميات الطبيعية بين عامي 2004-2005، الذي حظي بموافقة مجلس الوزراء في كانون الثاني العام 2012. ولم يستطع لبنان حتى تاريخه من ايجاد خطة مستدامة لحماية الاحراج والغابات والاستفادة منها في آن، بمشاركة السكان المحليين والادارات المحلية.
مقالع وكسارات لتمويل ميليشيات
بحسب تقارير القوى الأمنية في المناطق كافة التي أنجزت بين 23 و24/3/2010 وتم توقيعها من وحدات الدرك وقيادات السريات في المناطق كافة، المتعلقة بانتشار مرامل او كسارات او مقالع او ستوكات... تظهر الجداول ان عدد المقالع والمرامل والكسارات التي تعمل قد يبلغ 647 موقعاً تم رصدها حسب تقارير المناطق. وقد تسبب هذا القطاع، بحسب دراسة وزارة البيئة العام 2010 بتشويه اكثر من 6 آلاف هكتار، يمكن ان تكون قد تضاعفت الآن. مع الاشارة الى الاحتيال على القانون والتنظيم، فيحصل البعض على تراخيص لنقل ستوكاج أو حفر أو استصلاح ارضٍ، ويتم تشغيل الكسارات والمرامل والمقالع تحت هذه الحجة او الذريعة. وقد استفادت قوى ما بعد الطائف كثيراً من هذا القطاع عندما تقاسمته ولم تسمح بتنظيمه كقطاع يدرّ المال الكثير ويموّل الأحزاب والحملات الانتخابية... مع العلم أن تنظيم أعمال المقالع والكسارات والمرامل، حسب الأصول، والحصول على تراخيص قانونية من المجلس الوطني للمقالع، يمكن أن تدر أموالاً مهمة الى خزينة الدولة (بالإضافة إلى الكفالة المصرفية لضمان حسن الالتزام بالترخيص وعدم تشويه المواقع)، بدلاً من أن تذهب الى جيوب البعض، كما يمكن ان توقف هذا التشويه في جبالنا والأعمال العشوائية.
استيراد نفايات صناعية خطرة !
بسبب الحرب وفتح الكثير من المرافئ غير الشرعية، استغلّت مافيات عالمية بالتعاون مع شركات غربية تريد أن تتخلّص من نفاياتها الصناعية الخطرة بأرخص الأثمان بدلاً من أن تعالجها على نفقتها في بلدانها بأكلاف عالية، بالتواطؤ مع بعض قيادات الميليشيات اللبنانية التي كانت تمسك بالمعابر او بالمرافئ غير الشرعية، لإدخال هذه النفايات الى لبنان في مستوعَبات وبراميل كبيرة ومحاولة التخلص منها على الأراضي اللبنانية بشكل سري لقاء عمولات محددة. وبينما سعى البعض آنذاك لفضحها وتصوير المواقع والتحذير من خطورتها كمثل الصيدلي بيار ماليشاف، قد تمّ تجنيد بعض الخبراء آنذاك للتخفيف من خطورتها وأثرها البيئي الخطير. بعد انتهاء الحرب، اعادت «الهيئة اللبنانية للبيئة والإنماء» فتح هذا الملف العام 1993 مع ماليشاف مستعينة ببعض الوثائق والصور التي التقطها اثناء تفريغ بعض حمولات هذه المواد الخطرة لاسيما على ما كان يُسمى «الحوض الخامس» وفي منطقة شننعير. وكانت الحصيلة توقيف بعض المستوردين ومحاولة معرفة اماكن دفن هذه النفايات الخطرة، وقد تم استرداد بعضها الى ايطاليا، وبقي البعض منها «مجهول الاقامة» في حين حاول البعض تبرئة المافيات التي استوردتها وادخال أبرز الكاشفين عنها الى السجن. وقد حصلت تسوية قضائية آنذاك بإخلاء سبيل المتهمين بحجة انهم لم يتسببوا بجريمة يظهر فيها بوضوح ضحايا محددين، مستغلين بعض مبالغات المناضل ماليتشيف بالاشارة الى اصابات بشرية من هذه المواد لم تظهر التحقيقات صحتها. بالرغم من الرأي البيئي العلمي القائل آنذاك ان الجرم هو بمجرد إدخال مواد خطرة ومسرطنة الى البلد، بغض النظر عن ظهور الضحايا بشكل مباشر ام لا. وقد أقفل هذا الملف من دون التأكد من معرفة مصير كل الكميات التي أدخلت كما لم تتم متابعة اتفاقية بازل التي تعنى بضبط انتقال هذه النفايات العابرة للحدود. وقد تم ادخال مواد مشعة ومواد خطرة بعد نهاية الحرب ولا يُعرف كيف!
بسبب الحرب أيضاً دخل الى الكثير من المناطق ما كان يُسمّى «مساعدات طبية»، وقد تمّ فتح العديد من المستوصفات على جميع الاراضي اللبنانية بشكل عشوائي. كما طغى على هذه المساعدات ادوية على وشك انتهاء صلاحياتها ارسلتها الكثير من الدول والمؤسسات وشركات الادوية الى لبنان للتخلص منها قبل انتهاء صلاحيتها ودفع اكلاف عالية على معالجتها بحجة مساعدة لبنان. وقد ظهرت بعد الحرب أطنان من الادوية المنتهية الصلاحية التي لا لم يعد يُعرف مصدرها والتي تصنف في العالم «نفايات خطرة»، لم تعرف وزارتا البيئة والصحة كيفية معالجتها او التخلص منها. وقد وقعت وزارة البيئة مؤخراً بروتوكولات مع شركات الترابة لتجربة احراق بعضها في افران شركات الاسمنت ولا تزال هناك مشكلة في كيفية معالجتها، بالإضافة الى تأكيد الكثير من المصادر البيئية في المناطق، ان قسماً كبيراً من هذه النفايات الخطرة تم رميها في المكبات العشوائية مع النفايات العادية.
الشاطئ كضحية رقم واحد
يمكن اعتبار الشاطئ اللبناني الذي يمتدّ على مسافة 220 كلم، الضحية رقم واحد للحرب الاهلية في لبنان. فرغم اعتباره معبراً لبواخر كانت تحمل الكثير من الاسلحة للمتقاتلين في الحرب، فقد حصل على هذا الشاطئ الكثير من الاعتداءات التي غيرت معالمه وحولت قسماً كبيراً منه من املاك عامة الى املاك خاصة. ففي الحرب تم قطع تواصل الشاطئ والاستيلاء على مساحات شاسعة منه. دراسات كثيرة تناولت مشكلة الاعتداءات على الشاطئ وما يُسمّى «الأملاك البحرية»، كان آخرها دراسة «الدولية للمعلومات» التي قدرت مساحة الأملاك العمومية المشغولة قانونياً بما يُقارب 876 ألف متر مربع، تشغلها 94 شركة ومؤسسة خاصة أو أفراد، في حين أن عدد المخالفات في الأملاك العمومية يبلغ 1269 مخالفة حتى العام 2001. كذلك تشغل البلديات ومرافئ الصيادين والمؤسسات العامة مساحات ضخمة من الشاطئ من دون تراخيص، ليصل مجموع المساحات المشغولة من دون تراخيص إلى 2,803 ألف متر مربع من الشاطئ!
كما تم ردم مساحات شاسعة بردميات الحرب، لاسيما بالقرب من العاصمة بيروت، الا ان الردميات الاكبر والاعتداء الأكبر على الشاطئ (كأملاك عامة) نفّذت فعلاً بعد نهاية الحرب مباشرة على شاطئ ضبيه. والردميات التي ردمت هناك لم تكن ردميات الحرب بل من صخور مقالع وكسارات منطقة انطلياس ونهر الموت التي تم تشويهها بشكل لا مثيل له. بالإضافة الى استخدام شفاطات رمول ضخمة لملء الفراغ بينها. وللمفارقة كان صاحب مشروع شاطئ ضبيه هو نفسه نقيب أصحاب المقالع والكسارات آنذاك.
كما تأثرت نشاطات العمل التقليدية سلباً بالحرب وبغياب الدعم. فصناعة استخراج الملح المتمركزة في قلحات وأنفه والتي كانت تعتبر من النشاطات التراثية باتت إلى زوال بسبب زيادة مواد على الملح، كما تضرّر قطاع بناء القوارب وهو أيضاً نشاط تقليدي يمارَس على ساحل الميناء، ويقوم على بناء قوارب من الخشب والفيبرغلاس.
كما تمركزت في الحرب خزانات النفط في جميع انواعها على الشاطئ بالاضافة الى معامل الطاقة الحرارية التي تحتاج الى تبريد دائم من مياه البحر بالاضافة الى الصناعات الكبيرة، مما عرض الشاطئ الى تسربات نفطية دائمة تسببت بتلويثه. كما تعرّض الشاطئ اثناء الحرب وبعدها لشفط رموله وحجارته وسرقتها وبيعها وتدمير موائل الكثير من الكائنات البحرية والإضرار بالنظم الايكولوجية الدقيقة، بالإضافة الى الصيد البحري غير المنظم وغير الشرعي الذي تسبب بتهديد الكثير من الأنواع بالانقراض. كما تسببت منتجعات سياحية كثيرة معتدية في معظمها على الشاطئ وغير شرعية، بالإضافة الى حرمان المواطنين من الوصول الحرّ الى الشاطئ، باستنزاف المياه الجوفية وتملّحها بسبب السحب غير المراقب منها واستخدامها في المنتجعات.
الثورة، 14 أبريل 2015
|