الخبز والامن مطلبان شعبيان بل لعلهما ، حالياً، الاكثر إلحاحاً وشعبية في عالم العرب. فالإضطرابات والفتن والحروب وبالتالي الفوضى التي عصفت وتعصف بمعظم البلدان العربية ، مذّ تفجّرت انتفاضات ما يسمّى "الربيع العربي"، خلّفت آثاراً مدمّرة في النسيج الإجتماعي والبنى الإقتصادية والسياسية للانظمة الحاكمة ، ادّت الى اندلاع موجات متعاقبة من التهجير والتشريد والنزوح ، وتسبّبت بإختلالات ديموغرافية واجتماعية واسعة انتجت بدورها عوزاً وضائقة معيشية وتسيّباً وفوضى. اذ يصبح الخبز والامن اولوية مطلقة ، ينهض سؤال: كيف تكون الإستجابة لهذا التحدي ؟ الإستجابة تبدأ من الدولة . ذلك انها ، افتراضاً ، المؤسسة الاكبر والاقوى والاغنى في المجتمع وبالتالي المسؤولة عن توفير المعالجة اللازمة ووسائلها البشرية والمادية . لكن الإفتراض شيء والواقع شيء آخر. فالدولة غير موجودة في لبنان ومعظم البلدان العربية . ما عندنا ليس دولة بل نظام سياسي . النظام عبارة عن آلية mechanism لتقاسم السلطة والنفوذ والمغانم بين افراد طبقةٍ ، والأصح شبكة ، من متزعمين في طوائف وعشائر ، ورجال اعمال واموال ، ومتنفذين في أجهزة الامن والقوات المسلحة . لعل مصر الإستثناء الوحيد من التركيبة السياسية التي تسود عالم العرب. ذلك ان اعتمادها ، منذ فجر التاريخ ، على نهر النيل استلزم وجود سلطة مركزية لادارة عملية توزيع المياه . هذه السلطة تطورت عبر العصور الى دولة مركزية قوية بل الى دولة عميقة الجذور والتأثير وقائدة للمجتمع لدرجة يمكن معها القول إن مصر هي هبة النيل والدولة العميقة معاً. هذا التوصيف كان سارياً وسائداً الى ان قامت انتفاضة 25 يناير 2011 وما اعقبها من اضطربات سياسية وامنية بلغت ذروتها في ثورة 30 يونيو 2013 التي أودت بحكم الرئيس محمد مرسي والاخوان المسلمين ، وخلّفت حالاً سياسية واجتماعية متفجرة ، ولاسيما بعد اندلاع العمليات الإرهابية في سيناء وانتقالها الى القاهرة وسائر المدن الكبرى . ومع شيوع الإرهاب والإختلال الأمني والفوضى، فقدت الدولة في مصر الكثير من هيبتها وفعاليتها. غياب الدولة او تغييبها في لبنان ومعظم البلدان العربية يجعل الوفاء بمطلبيّ الخبز والأمن ، ناهيك عن مطلب حكم القانون ، امراً بالغ الصعوبة. تزداد الأزمة تعقيداً مع انهيار المجتمع . ذلك ان النسيج الإجتماعي في بلادنا العربية المطبوع بتعددية قَبَلية ومذهبية واثنية عميقة تعرّضَ على مرّ التاريخ الى تدخلات قوى خارجية أمعنت فيه تمزيقاً وتجزيئاً على نحوٍ انتج ظاهرة لافتة هي خضوع العرب على امتداد الف سنة من تاريخهم الى سلطة حكّام اجانب ( راجع كتاب شارل عيساوي: تأملات في التاريخ العربي، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت 1991) لم يكن حكّام العرب "الوطنيون" أرحم بهم من حكامهم الاجانب اذ استخدموا ايضاً العصبيات القبلية والمذهبية والأثنية وسائلَ للتمزيق والتفريق والتحكّم والأستغلال. وليس ادل على اعتمادهم هذا النهج من حال الإنشقاق السني- الشيعي وتداعياته السياسية والإجتماعية القاسية على مجتمعاتنا كافة ، وصعود حركات الإسلام السياسي المتطرف والتنظيمات الإرهابية المعتمدة نهج ادارة التوحّش. هكذا يجد العرب أنفسهم اليوم ، ولاسيما عرب المشرق ووادي النيل ، امام تحديين بالغي الخطورة : التحدي الصهيوني وتحدي الإرهاب . واللافت ان كِلا التحديين يحظيان بدعم قوي ومستدام من دول كبرى كما من قوى سياسية وشرائح اجتماعية واسعة داخل بلادنا. ما العمل ؟ صحيح ان للخبز والامن اولوية مطلقة في حاضرنا ، لكن ثمة حاجة اخرى ترتقي ايضاً الى مرتبة الاولوية هي ضرورة المقاومة والنهضة . يقول ديكارت : انا افكر ، اذاً انا موجود. على القوى الحية في امتنا ، افراداً وجماعات ، ان يقول واحِدُها : انا اقاوم ، اذاً انا موجود . اجل ، وجودنا اصبح مشروطاً بمقاومتنا للتحديين الصهيوني والإرهابي . بل ان نهضتنا مشروطة بقدرتنا على مقاومة الفكر الماضوي ، بما يحمله من حركات اسلاموية تكفيرية وارهابية ، والإنفتاح على ثقافة العقل والحرية والشورى والديمقراطية والعلم والتنمية. بالمقاومة والنهضة نستطيع ان نحرر انفسنا من جاهلية معاصرة تحتل حياتنا ومن عبودية للماضي تقتل براعم حاضرنا وتعتقل احلام مستقبلنا. من دون الحرية والعقلانية والعلم لا نستطيع ان نعيد بناء مجتمعنا ونؤسس دولتنا . ذلك ان المجتمع الحر المتماسك شرط اساس لبناء الدولة بما هي الإطار الحقوقي والسياسي والإقتصادي والثقافي لإدارة المجتمع وحمايته وانمائه. لا امن ولا بالتالي حكم بالقانون ، او حكم القانون ، إلاّ بوجود الدولة ومن خلالها. علينا ، حتى ونحن في معمعة مقاومة التحديين الصهيوني والإرهابي ، ان نباشر بعقلانية وعلم وتخطيط وإلتزام عمليةَ تأسيس الدولة وبنائها. إن لم نفعل نكن قد استمرأنا البقاء في ما نحن فيه من ركود وجمود لا ينتجان إلا سلطة قهرية تفرض الامن بالقمع وتستعيض عن حكم القانون بأهواء الحاكم بأمره. الدولة المطلوب تأسيسها وبناؤها هي الدولة المدنية الديمقراطية . لماذا؟ لأن مجتمعاتنا العربية تعددية ، فلا يعقل ان تكون قيادتها بيد احد مكوّنات المجتمع دون غيره. ذلك يؤدي الى اندلاع صراعات فئوية بين المكوّنات المتنافسة ، واحياناً المتقاتلة، على السلطة والثروة والنفوذ. الى ذلك ، فإن جوهر الديمقراطية مساواةُ المواطنين امام القانون. فهل تصحّ المساواة اذا ما تحوّلت السلطة اداةَ محاصصةٍ وسبيلَ استغلالٍ وفساد ؟ فوق ذلك ، فإن الديمقراطية ، بما هي المساواة امام القانون ، لا تصحّ إلاّ بين مواطنين في دولة لا بين رعايا في قبائل وطوائف. فالمواطنة شرط لازم لوحدة الدولة وسيادتها كما لوحدة المجتمع وتماسكه في وجه التحديات الخارجية. قد يقول قائل إن نهج المقاومة والنهضة مسار طويل ، فهل ننتظر استكمال بناء الدولة المدنية الديمقراطية لفرض الامن وحكم القانون؟ لا شك في ان الامن وحكم القانون استحقاق معجل الاداء. لذلك يقتضي النهوض للوفاء به اياً كان حال النظام السياسي. فالسلطة القائمة مدعوة ، بقدْر ما تستطيع وتطيق ، الى فرض الامن واحترام القوانين النافذة وتطبيقها دونما محاباة. ولضمان ذلك يقتضي ان تسهر القوى الحية ، حتى وهي في معمعة المقاومة والنهضة، على مراقبة اداء السلطة في مجال فرض الامن وحكم القانون ، حتى اذا وجدت فيه تقصيراً او إنحرافاً ، بادرت الى كشفه للرأي العام وقامت بالضغط على اهل السلطة بكل الوسائل المشروعة لحملها على استدراك التقصير وسدّ النقص وتصحيح الأخطاء . فبناء الدولة المدنية الديمقراطية ، شأن المقاومة والنهضة، مسار لا مجرد قرار ، بل هو مسار واحد يتسع لنشاط كل القوى الحية ونضالها من اجل تحقيق جملة اهداف اساسية في شتى الميادين. هل ثمة نهج آخر اجدى وافعل ؟
المصدر: القدس العربي 16/3/2015
|
|