قبل أيّام، أعلنت «الجزيرة» في بيان أنّها احتلّت المرتبة الأولى عربياً من حيث عدد مشاهدي القنوات الإخباريّة العربيّة للعام 2014، بحوالي 23 مليون مشاهد يومياً. استندت القناة في أرقامها إلى دراستين مستقلّتين صدرتا عن شركتي «إيبسوس» و«سيغما» للإحصاء. وجاء في البيان أنّ «الجزيرة» نالت «أعلى نسبة من المشاهدين العرب بمعدّل يفوق أقرب أربع قنوات منافسة مجتمعة، وهي قناة «العربية»، و«بي بي سي عربية»، و«فرانس 24»، و«سكاي نيوز عربيّة».
انطلقت «الجزيرة» في العام 1996، وذلك بعدما قرّرت «بي بي سي» إغلاق قناتها الناطقة بالعربيّة بعد خلاف مع الحكومة السعوديَّة المموّلة لها حول حدود حريّة التعبير عن الآراء ونشر المعلومات. قدمت «الجزيرة» في حينها للمشاهد العربي صورة مختلفة تماماً عمّا عهده في محطاته المحلية، وسرعان ما تنامت شعبيتها لتصبح المحطة الأكثر مشاهدة في العالم العربي. دفعت «الجزيرة» حدود حريّة العمل الإعلامي إلى مدى لم تصله أيّ محطّة عربية من قبلها، وتحدّت الكثير من المحرّمات، ولكن مع الالتزام الحريص بالخطّ الأحمر الذي يحيط بالنظام الحاكم في قطر وخفايا السلطة والأسرة الأميرية. وتحت شعارها البراق «الرأي والرأي الآخر»، أصبحت «الجزيرة» ذراع قطر الضاربة التي تهدّد بها أي دولة قد تسوء علاقاتها معها بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي. وفي تغطيتها للحرب في أفغانستان، اصطدمت «الجزيرة» مع أميركا في بعض الأحيان، خصوصاً عندما أطلق عليها لقب «صندوق بريد أسامة بن لادن» الذي اختصها برسائله المصوّرة والصوتيّة، فيما كانت قطر توسع تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وتعمل على استضافة القيادة المركزية للجيش الأميركي في المنطقة. لكن بالمجمل، عمدت المحطة إلى خلق توازن دقيق في قولبة شخصيتها لكي تسترضي العرب والمسلمين في مواكبة قضاياهم المصيريّة من فلسطين إلى العراق وأفغانستان ومناطق أخرى، وتحافظ في الآن ذاته على علاقة جيدة وتنسيق مع دول الغرب.
كان باستطاعة «الجزيرة»، خلال فترة عمل امتدت على ما يقارب العشرين عاماً، خلق ثقافة عربية عقلانية تروج لتفكير نقدي جديد، إلا أنّها على العكس لم تخرج من «بيئتها الحاضنة» التي تتميز بانعدام الحوار، وتسودها ثقافة لامدنية وتقوم على الاقتتال والتعصّب. وهكذا جاء واحد من أكثر برامجها شعبية، «الاتجاه المعاكس»، انعكاساً لثقافة الجنون السائدة، لا ينجح سوى في إثارة المشاعر الانفعالية، بل ويغرق في التفاصيل الشيطانيّة التي يضيع معها أي معنى أو هدف. وخلف ستار الانفتاح على «الآخر»، رسخت «الجزيرة» عدّة مواضيع إشكاليّة بدل تفكيكها... فغالباً ما تعمّقت الهوة بين العلمانيين والمتدينين وبين «السنة» و «الشيعة» في حوارات غاضبة لا طائل منها، فيما ترك الهواء مفتوحاً للناطق باسم الجيش الإسرائيلي من دون مقاطعة أو مساءلة في عملية تطبيع إعلامي ممنهج. وهكذا أيضاً أسّست «الجزيرة» لتقليد لم يكن مألوفاً كثيراً من قبلها، وهو استقبال رجال الدين في برامج حوارية ذات طابع سياسي ــ ديني في تسويق مكثف للفكر الإسلامي والإخواني على وجه الخصوص. ولـ «تزيين» كل تلك الإشكاليات، عملت «الجزيرة» على استجلاب وجوه مشهود لها في ميادين الفكر والنضال القومي، مثل محمد حسنين هيكل وعزمي بشارة. ساهمت كلّ تلك الجهود في تهيئة الأرضيّة لحدثٍ مركزي في مسيرة القناة، وهو اندلاع شرارة «الربيع العربي»، والذي أظهر شهية قطر المفتوحة دوماً للعب دور إقليمي أكثر تأثيراً من حدود استوديوهات «الجزيرة».
وجاءت صدمة الشعب المصري وانقلابه ضدّ بثّ «الجزيرة» عندما وقفت هي ضدّه في رفضه لحكم الأخوان وانتفاضته الثانية من أجل تنحية الرئيس الاخواني المنتخب محمد مرسي المدعوم بقوة من قبل قطر، وقد استمرت لغاية اليوم بتسميتها انقلاباً عسكرياً وهو أمر لم تقدم عليه الحكومة الأميركية ذاتها بحسب «واشنطن بوست». وبانتقال السلطة في قطر من حمد بن خليفة آل ثاني إلى ولي عهده تميم، تبلور دور «الجزيرة» أكثر فأكثر لتصبح بحقّ الناطق الرسميّ باسم «الأخوان المسلمين»، ولتعمل على خلق شعبية افتراضيّة لهم على شاشتها، عبر تقريب العدسات على حشودهم الضئيلة أو تقسيم الشاشة إلى عدة مشاهد للإيحاء بأن عدة مظاهرات حاشدة تحدث في الآن ذاته.
سقوط حلم جاءت كل تلك التحولات والأحداث لتسبب تغيراً هائلاً في مصداقية القناة الإعلامية من جهة، وفي شعبيتها الجامعة على الصعيد العربي من جهة أخرى، بالرغم من ترويج القناة للعكس. فبعدما كانت المحطة الأبرز لدى العديد من المسؤولين الحكوميين والمثقفين والمحللين والمشاهدين على حد سواء، أصبحت اليوم قناة ثانوية تبرز هويتها السياسيّة والطائفيّة بوضوح في خرق فاضح للعديد من المعايير الإعلاميّة والأخلاقيّة والمهنيّة، وانسحب منها ألمع مراسليها ومذيعيها وضيوفها. وإذا ما كانت «الجزيرة» قد تأسَّست كمشروع إعلامي بديل ومضاهٍ لمحطّات عريقة مثل «بي بي سي» و «سي إن إن»، فيبدو أنَّها قد انتهت لدى الكثيرين من متابعيها لتصبح مجرّد واجهة إعلاميّة للمشروع الإخواني وحده، وصورة واضحة عن أساليب الكذب المشهدي والإسفاف والتهريج والتورط السياسي في اصطفاف بعيد كل البعد عن الموضوعية والحياد في التغطية والتقديم. وقد تكون الخلاصة في ما أشارت له بعض المصادر لـ «السفير» إثر استقالة مدير مكتب القناة في بيروت غسان بن جدو العام 2011، قائلةً «إنّ قناة الجزيرة أنهت حلماً كاملاً من المهنية والموضوعية، وباتت تلك المهنية في الحضيض، بعدما خرجت عن كونها وسيلة إعلام، وتحولت إلى غرفة عمليات للتحريض والتعبئة». جريدة السفير: 30-12-2014
|
|