مقدمةلعله من الهام أن نبدأ بمفهوم الصحة، خصوصا وهناك التباس بين مفهومى الصحة والعلاج. والصحة فى تعريف منظمة الصحة العالمية ليست هى الخلو من المرض، بل هى "حالة من السواء الجسمانى والنفسى والاجتماعى تمكن الفرد من تفجير طاقاته الخلاقة" والصحة بهذا المفهوم تدين إلى عوامل عديدة من بينها –وليس من أهمها بالضرورة- النظام العلاجى. تلك هى ما تسمى بالمحددات الاجتماعية للصحة. تتمثل أهم تلك المحددات فى الغذاء الجيد، وتوافر المياه النقية، وسبل الصرف الصحى، والأنظمة السليمة للتخلص من القمامة، فضلا عن مرافق الانتقال والطرق، ووسائل الاتصال، حيث كلها تلعب دورا حاسما فى مسألة الصحة. ونظرا لارتباط تلك العوامل بالحالة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المعنى، فدرجة التقدم الاقتصادى والاجتماعى لأى مجتمع هى المحدد الرئيسى للحالة الصحية، وليس النظام العلاجى وحده. لقد تم القضاء على الأوبئة قبل زمن اكتشاف المضادات الحيوية عندما تم معرفة قيمة المياه النقية والتخلص من الفضلات والقمامة، بتحضر المجتمع. ويطلق على أسباب المرض والوفيات فى المجتمع عبئ المراضة فى المجتمع المعنى. عبئ المراضةوأوضح تعبير عن عبئ المراضة هو بماذا يتوفى الإنسان! والمتغير الحاسم المحدد له هو (بالطبع على المستوى الاجتماعى أى الأسباب الأكثر انتشارا، وليس على مستوى أى فرد بعينه) هو درجة التقدم الاقتصادى والاجتماعى للمجتمع. وبوجه عام هناك مجموعة من الأمراض تسمى أمراض الفقر، وهى: الأمراض السارية أو المنتقلة (الاسم الشائع وهو الأمراض المعدية غير دقيق لأن بعض الأمراض ليست معدية من شخص لآخر ولكنها تنتقل عبر وسيط مثل الملاريا التى تنتقل من شخص لآخر عبر وسيط هو حشرة الناموس)، وأمراض سوء التغذية، والوفيات العالية للأطفال، ووفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة. بينما تنتشر أمراض الغنى فى المجتمعات المتقدمة وهى أمراض القلب والأوعية الدموية، والسرطان. ومن المفهوم بالطبع انتشار المجموعة الأولى فى المجتمعات المتخلفة، ومثالها الآن فى العالم أفريقيا جنوب الصحراء، بينما تنتشر الثانية فى المجتمعات المتقدمة ومثالها الآن أوروبا الغربية وأمريكا واليابان. وكتب اثنان من العلماء البارزين فى علم الصحة العامة ما يعد تأريخيا للبشرية من زاوية الصحة لكافة المجتمعات البشرية افترضا فيه أربعة مراحل مرت بها المجتمعات المتقدمة، وكل مجتمع يعيش الآن فى إحدى تلك المراحل، هذه المراحل هى:[i] 1- مرحلة المجاعات والأوبئة، وتنتشر بها أمراض الفقر كما أوضحنا (المرحلة الأولى) ومتوسط العمر المتوقع فيها حوالى 46 عاما، ونموذجها الآن أفريقيا جنوب الصحراء كما أسلفنا، وهى مرحلة ثبات سكانى نسبيا حيث يرتفع كل من معدل المواليد ومعدل الوفيات. 2- مرحلة أمراض الضمور المتأخرة، (المرحلة الرابعة) وهى مرحلة أمراض الغنى، ومتوسط العمر فيها النصف الثانى من السبعينات فما أكثر، وتقع فيها أمريكا وكندا وأوروبا الغربية واليابان، وهى مرحلة ثبات سكانى نسبيا حيث ينخفض كل من معدل المواليد ومعدل الوفيات. 3- مرحلة تراجع الأوبئة، (المرحلة الثانية) وهى تبدأ بالتطور الحضارى وتعميم مياه الشرب النقية وإدخال الصرف الصحى وأنظمة التخلص من القمامة وتحسن التغذية نتيجة للنمو الاقتصادى بشكل عام، ومتوسط العمر فيها يدور حول الخمسينات من العمر، وهى مرحلة الانفجار السكانى نظرا لاستمرار ارتفاع معدلات المواليد مع انخفاض معدل الوفيات بالذات بين الأطفال. 4- مرحلة بداية أمراض الضمور (أمراض الغنى) دون التخلص تماما من أمراض الفقر (المرحلة الثالثة)، بالإضافة إلى الأمراض التى يتسبب فيها البشر وخاصة الناتجة عن السمنة مثل السكر، والتدخين، وهى المرحلة التى فيها بلادنا حاليا مع بلدان أوروبا الشرقية وروسيا والصين وأمريكا الجنوبية ومعظم بلدان الشرق الأوسط. وفى تلك المرحلة يتراجع الانفجار السكانى عن المرحلة السابقة وإن كان مازال هناك زيادة سكانية لأن معدل المواليد رغم انخفاضه بحكم التطور الاقتصادى وسياسات تحديد النسل مازال أعلى من معدل الوفيات المنخفض. ويدور متوسط العمر المتوقع فيها بين منتصف الخمسينات والسبعين. وهذه هى ما يدعوة معظم الكتاب بالمرحلة الانتقالية التى يجمع فيها عبئ المراضة بين أمراض الفقر التى لم تختف بعد رغم تراجعها وبين أمراض الغنى التى ظهرت بحكم زيادة متوسط العمر الناتج عن التقدم الحضارى. لقد كانت تلك البداية ضرورية من أجل التنبيه إلى ما يؤثر فى الصحة غير نظام الرعاية الصحية، إلا أننا سوف نقتصر فى هذه الورقة على توضيح مفاهيم الرعاية الصحية فى المجتمعات العربية والمراحل المختلفة فى تطورها، ووضع الأنظمة الصحية فيها على وجه العموم مع التفصيل بالذات فى الوضع فى مصر، والنظام الأمثل فى رأينا للرعاية الصحية. عبئ المراضة فى الوطن العربىاستنادا لما سبق، يمكن تقسيم الوطن العربى من ناحية نوع الأمراض السائدة ومختلف المؤشرات الصحية من نوع متوسط العمر المتوقع عند الميلاد، ونسبة وفيات الأطفال دون سن الخامسة، ونسبة وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة وغيرها من المؤشرات إلى ثلاث مجموعات رئيسية: مجموعة الدول الفقيرةوتشمل موريتانيا، والسودان واليمن وجيبوتى والصومال وجزر القمر. وتضم هذه الدول الست حوالى 22% من سكان الدول العربية. ويرينا الجدول التالى بعض مؤشرات الصحة فى تلك الدول (علما بأن الجداول الثلاث محسوبة بواسطة الكاتب، والأرقام واردة فى مرجع منظمة الصحة العالمية[ii].
جدول (1) بعض المؤشرات الصحية للدول العربية منخفضة الدخل ويتضح من الجدول انخفاض متوسط العمر المتوقع عند الميلاد، إذ يبلغ حوالى 59 سنة. كما يتضح الارتفاع الشديد لنسبة وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة إذ يبلغ حوالى 6 فى الألف، وكذلك ارتفاع نسبة وفيات الأطفال دون سن الخامسة إلى حوالى 9.4%، بينما تبلغ نسبة الأطفال ناقصى الوزن من الأطفال أقل من 5 سنوات حوالى 30%. مجموعة الدول البترولية الغنية
جدول (2) بعض المؤشرات الصحية للدول العربية مرتفعة الدخل وتشمل تلك المجموعة 7 دول هى دول الخليج البترولية وليبيا البترولية أيضا، ويبلغ مجموع سكانها 11% فقط من سكان الوطن العربى. يتضح من الجدول رقم (2)، بالذات عند مقارنته بالدول الفقيرة (جدول 1)، الاختلاف الشديد بين المجموعتين إذ يبلغ العمر المتوقع عند الميلاد فى المتوسط حوالى 75 سنة فى مقابل 59 سنة للدول منخفضة الدخل. كما تبلغ نسبة وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة فى الدول الغنية 22 لكل مائة ألف ولادة حية، مقارنة ب 558 (أكثر من 25 ضعفا) فى الدول الفقيرة! كما تبلغ نسبة وفيات الأطفال فى الدول منخفضة الدخل حوالى سبع نسبتها فى الدول البترولية (94 طفلا فى مقابل 13 طفلا فى الدول البترولية يتوفون قبل سن الخامسة). كما تبلغ نسبة الوفيات من السل فى الدول الفقيرة حوالى 17 ضعفا فى الدول الغنية. الدول متوسطة الدخل
جدول (3) بعض المؤشرات الصحية للدول العربية متوسطة الدخل وتشمل تلك المجموعة باقى الدول العربية، 8 دول عربية تضم 65% من السكان. ويوضح جدول (3) أن كل مؤشراته تقع فى المنطقة الوسطى بين الدول الفقيرة والدول البترولية. ويهمنا هنا أن نوضح أن هذه التقسيمة من عندنا، وهى لا تتطابق فى بعض التفاصيل مع تقسيمة البنك الدولى حسب الدخل، الذى يدرج مثلا بعض الدول الفقيرة فى دول الدخل المتوسط المنخفض، ولكن تلك التقسيمة تراعى أساسا الأوضاع الصحية، ويمكننا أن نستنتج منها اختلاف عبئ المراضة بين الدول العربية المختلفة، علما بأن عبئ المراضة هذا هو التحدى الذى يجب على النظام الصحى أن يستجيب له. ويجسد الجدول التالى المقارنة بين عبئ المراضة بين متوسط كل مجموعة من المجموعات الثلاث:
عبئ المراضة فى الدول العربيةيتضح من التقسيمة التى أوردناها عن موراى ولوبيز أن الدول العربية منخفضة الدخل مازالت فى حيز الدول التى تقع فى المرحلة الأدنى من ناحية المؤشرات الصحية وتتشابه مع دول أفريقيا جنوب الصحراء، إذ تتميز بسيادة نمط المراضة المرتبط بالفقر، أى الأمراض المعدية وأمراض سوء التغذية، ووفيات الأطفال المرتفعة، وكذلك الارتفاع الشديد فى نسبة وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة. بينما يتمثل عبئ المراضة فى الدول متوسطة الدخل، وإلى حد كبير فى الدول البترولية الغنية، بالنمط الانتقالى، إذ لم تتخلص تماما من كل أمراض الفقر، ولكن ارتفاع متوسط العمر قاد إلى التواجد الواسع لأمراض الأمم الغنية، أى أمراض القلب والأوعية الدموية، وكذلك السرطان. أى أن تلك الدول تقع فى المرحلة الثالثة الخاصة بأمراض الضمور فى السن المتقدم، وكذلك فى الأمراض التى تتسبب من سوء السلوك البشرى، وعلى رأسها أمراض السمنة والسكر وارتفاع نسبة التدخين والأمراض المتسببة عنه. عبئ المراضة فى مصرأوضحت الدراسة الرائدة عن عبئ المراضة والإصابات فى مصر[iii] (التى قام بها فريق من وزارة الصحة مع فريق من قسم الصحة العامة بجامعة عين شمس- 2004) أن أهم خمس مجموعات من الأمراض المسئولة عن أكثر من نصف عبئ المراضة فى مصر تتمثل فى: · أمراض القلب والأوعية الدموية بالذات ضغط الدم المرتفع وروماتيزم القلب وقصور شرايين القلب (بنسبة 19.5%) · أمراض الجهاز الهضمى وهى أساسا أمراض الكبد الناتجة عن الإصابة بالبلهارسيا و/أو التهاب الكبد الوبائى، ويضاف إليهم قرحة المعدة (10%) · الأمراض النفسية العصبية بالذات السكتات الدماغية (9. 9%) · إصابات الحوادث (8%) · أمراض الجهاز التنفسى، ويتركز حول الأمراض الناتجة عن التدخين، مثل حساسية الصدر والتمدد الرئوى (6.6%). ويعبر نمط المراضة هذا عن المرحلة الانتقالية التى تعيشها بلادنا والبلاد المماثلة التى قطعت شوطا من التقدم مكنها من زيادة متوسط الأعمار فى مصر لتدور حاليا حول سبعين سنة، كما قطعت شوطا فى الحد من أمراض الفقر (الأمراض المنتقلة أو السارية، وفيات الأطفال، ووفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة، وأمراض سوء التغذية) دون أن تتخلص منها تماما، فيجتمع فيها أمراض الفقر، بالذات البلهارسيا والتهاب الكبد الوبائى، إلى جانب عبئ أمراض الغنى السائدة فى الدول الغنية (السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية التى تتفاقم بانتشار السكر والضغط وعدم التحكم الجيد فيهم)، نتيجة لارتفاع متوسط العمر. ويشكل ما سبق بالطبع إطارا لعبئ المراضة المفترض أن تواجهه السياسة الصحية الوطنية بما فيها السياسة الاقتصادية الصحية. المستويات المختلفة لتقديم الرعاية الصحيةأما بخصوص المستويات المختلفة للرعاية الصحية فمن المفترض وجود ثلاثة خطوط دفاعية فى الطب: خط الدفاع الأول أو الرعاية الصحية الأولية وتشمل الوقاية، والإجراءات بالعيادة الخارجية والاستقبال، كما تضم بعض الإجراءات المحدودة بالمستشفيات أو العيادات الكبيرة مثل الولادة الطبيعية ومثل تجبير الكسور بالجبس دون تخدير. والرعاية الصحية الأولية كمفهوم كما وضحته منظمة الصحة العالمية[iv] تتضمن المشاركة المجتمعية والديمقراطية، كما تتسع لتتضمن الخدمات المساعدة مثل وسائل الانتقال والتحويل والطرق والاتصالات وغيرها. وخط الدفاع الثانى أو الرعاية الصحية الثانوية ويشمل الرعاية الإكلينيكية العادية بالمستشفيات العامة والمركزية، وتشمل الجراحات العادية والولادات القيصرية وغيرها. وخط الدفاع الثالث أو الرعاية الصحية الثالثية أو المهارية أو الكارثية وتشمل المستشفيات المتخصصة مثل علاج الأورام والجراحات المتقدمة للقلب والشرايين والمخ والأعصاب وغسيل الكلى وغيرها. ويقدر أن الرعاية الصحية الأولية تتعامل مع70- 85% من المواطنين، بينما تتعامل الرعاية الثانوية مع 12-20% من المواطنين وتتعامل الرعاية الثالثة مع 3-10% من المواطنين، إلا أن تلك النسب متغيرة بالطبع بحكم مستوى انتشار الأمراض فى المجتمع المعين، كما تزداد تدريجيا نسب الرعاية الأكثر تقدما مع تقدم المعلومات والتكنيك الطبى.[v] النظم الصحية المختلفةكما ذكرنا من قبل كان لابد من البدء بعبئ المراضة فى المجتمعات العربية لكى نرى كيف استجابت، أو لم تستجب، النظم الصحية العربية لمثل تلك التحديات. ونبدأ بتعريف النظام الصحى. تعرف منظمة الصحة العالمية النظام الصحى بأنه " النظام الصحى هو مجموع المنظمات والمؤسسات والموارد التى يعد هدفها الأول هو تحسين الصحة، ويحتاج النظام الصحى إلى أفراد، وموارد، ومعلومات، ومستلزمات، ونقل واتصالات. كما يحتاج إلى تقديم خدمات مستجيبة للاحتياجات وعادلة ماليا بينما يعالج المواطنين بكفاءة. والنظام الصحى الجيد يطور حياة المواطنين بشكل ملموس يوميا". أى أن دراسة عناصر النظام الصحى تشتمل، فى المحل الأول فى رأينا، على الموارد المادية، أى قضية تمويل النظام الصحى، كما تشتمل على مؤسسات تقديم الخدمات الطبية، وتشتمل أيضا على الموارد البشرية من أطباء وتمريض وفنيين وإداريين ...الخ، كما يحتاج بالطبع إلى معلومات ومستلزمات ونقل واتصالات وغيرها من الخدمات المرتبطة بالصحة. ومعيار كفاءة النظام الصحى لخصها التعريف فى أنها يجب أن تكون مستجيبة لاحتياجات الشعب الصحية، وعادلة ماليا بحيث تكون متاحة لجميع الأفراد. وتعرف منظمة الصحة العالمية كفاءة النظم الصحية بأنها تقوم على التغطية الشاملة للمواطنين بالتأمين universality، وتوفير العدالة equity والجودة quality والكفاءة efficiency ، وتحقيق أعلى فعالية مقابل الإنفاق cost effectiveness، والاستمرارية أو استدامة التمويل sustainability. وعند تقييم نظام الرعاية الصحية فى البلدان العربية، وفى أى بلدان بالضرورة، فمن الهام النظر إلى جانبين هامين: طابع المؤسسات المقدمة للخدمات الصحية (قطاع حكومى، قطاع خاص غير ربحى، قطاع خاص ربحى) وطبيعة النظام الصحى. هناك مصدران رئيسيان لتمويل الخدمات الصحية: التمويل الحكومى، وهو الاقدم تاريخيا، وهو يبدأ بتمويل الخدمات الوقائية شاملة، فضلا عن توفير المياه والإسكان والنقل، التطعيمات الإجبارية وخدمات الرعاية الصحية الأولية على الأقل، كما يشمل التمويل المشترك للمواطنين المنتفعين فى صورة تأمين صحى. وهناك مصدران آخران، عادة ثانويان لتمويل الخدمات الصحية هما التمويل الخيرى سواء ارتبط بمؤسسات دينية إسلامية ومسيحية أو كان مجرد مؤسسات خدمة مدنية، والمصدر الثانى هو تمويل القطاع الخاص من خلال إنشاء مؤسسات خاصة تهدف إلى الربح.
والتعريف التالى للتأمين الصحى، الذى تدعو إليه منظمة الصحة العالمية وفق تعريفها نفسه: "التأمين الصحى هو وسيلة لدفع بعض أو كل تكلفة الرعاية الصحية، فهو يحمى المؤمن عليهم من دفع التكلفة العالية للعلاج فى أحوال المرض. و أساس التأمين الصحى هو قيام المستهلك بدفع اشتراك منتظم لمؤسسة إدارية تعد هى المسئولة عن إدارة تلك المدفوعات فى نظام لدفع نفقات العلاج إلى مقدمى الخدمة الصحية"[vi]. وينقسم التأمين الصحى إلى تأمين صحى اجتماعى، وتأمين صحى تجارى. ينتشر التأمين الصحى الاجتماعى فى 69 دولة فى العالم تطبقه بشكل كلى على كل أو الأغلبية الساحقة من السكان كما فى الدول المتقدمة، أو بشكل جزئى باعتباره منظومة تغطى نسبة فقط من المواطنين بجانب منظومات أخرى متنوعة فى بلدان عديدة من العالم الثالث. أما التأمين الصحى التجارى فمثاله الوحيد هو الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كل تفاصيل العملية الصحية تقريبا تقع فى يد القطاع الخاص، وأهم ما فيهم هو أن المنظم لعملية تقديم الخدمات فى التأمين الصحى هى شركات تجارية ربحية. تحقق تلك الشركات الحدود القصوى من الربح، فمنذ سنوات كان متوسط ربح أكبر 500 شركة فى الولايات المتحدة هو 5.5%، ومتوسط ربح أكبر 500 شركة فى قطاع الأدوية والمستلزمات الطبية 16.5%. أما شركات التأمين الصحى التجارى فمتوسط ربحها 33%. يعود هذا إلى أن الدراسات الاكتوارية التى يعدها التأمين التجارى تجرى دراستها على أساس التكلفة المحتملة للأمراض المختلفة، ثم تضاف على التكلفة نسبة ربحها، وأعبائها الإدارية المبالغ فيها عادة، وتضاف أيضا هامش المخاطرة فى حالة ما إذا زاد انتشار أمراض ما عن المتوقع. يصب كل ذلك فى الزيادة الضخمة فى أرباح تلك الشركات. يتميز التأمين الصحى التجارى بأنه يرغب فى الاستفادة من التأمين على أكبر عدد من الناس، فيما لا يخل بعامل الربح. ولهذا يقدم حزما تأمينية متعددة، فهناك تأمين يشمل العيادات الخارجية والأدوية فقط دون خدمات المستشفيات، وحزمة أخرى تضم بالإضافة إلى ذلك خدمات المستشفيات العادية (الرعاية الصحية الثانوية). أما جوانب الرعاية الصحية المتقدمة مثل علاج أمراض السرطان وأمراض القلب وجراحات المخ والأعصاب والمفاصل وعلاج الفشل الكلوى والرعايات المركزة وزرع الأعضاء فتشملها حزم أخرى بالغة الارتفاع فى أثمانها. وبهذا تستفيد شركات التأمين الصحى الخاصة من الفقير والغنى. وتتحدد قيمة الاشتراك فى أى حزمة على الحسابات الاكتوارية لتكلفة العلاج (مضافا إليها ما أوردناه من هامش الربح وهامش المخاطرة والأعباء الإدارية). وهذا بالطبع لا علاقة له بالقدرات المالية للمنتفع، السعر ثابت لكل حزمة بصرف النظر عن دخل المنتفع إلا فى اختياره لنوع الحزم التى يتحملها دخله! وتؤمن شركات التأمين الصحى الخاصة الخدمات بالتعاقد مع الأطباء فى عياداتهم، ومع المستشفيات، وأغلبها مؤسسات ربحية، وتستهلك المستشفيات أدوية ومستلزمات طبية وتجهز أجهزتها من شركات طبية، وكلها بالطبع مؤسسات ربحية. فى ضوء هذا نستطيع أن نفهم الحرب التى شنها تحالف الجهات الخمس الشهيرة على مشروع أوباما للتأمين الصحى بإدخال جانب اجتماعى غير ربحى فيه. تلك الجهات الخمس هى الجمعية الطبية الأمريكية التى تمثل مصالح كبار الأطباء العاملين فى القطاع الخاص، وشركات التأمين الصحى الطبية، وشركات الأجهزة والمستلزمات الطبية، وشركات الأدوية، وأخيرا مستشفيات تقديم العلاج الداخلى. إن إضافة أرباح كل تلك المؤسسات الربحية إلى تكلفة الخدمات الصحية تجعل الإنفاق الصحى للولايات المتحدة هو الأعلى فى العالم، إذ يبلغ أكثر من 2.3 ترليون دولار بنسبة تقترب من 16% من الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى، ورغم هذا فإن العائد الصحى المتحقق لا يتناسب إطلاقا إذ يتراوح تقييم كفاءة النظام الصحى الأمريكى من قبل منظمة الصحة العالمية بين رقم 17 ورقم 32 على العالم فى مختلف السنوات، أى أن دول أوروبا الغربية كلها، والتى تتبع نظام تأمين صحى اجتماعى، تنفق أقل والمحصلة أن نظامها الصحى أفضل من الولايات المتحدة! والمحصلة هى أن الشعب الأمريكى الذى يبلغ تعداده حوالى 300 مليون نسمة لا يوجد به من يتمتع بحزم شاملة أو شبه شاملة لخدمات التأمين الصحى سوى ثلثه فقط (مائة مليون)، ويتمتع نصف الشعب (مائة وخمسون مليون مواطن) بخدمات تأمين جزئية تغطى بعض الاحتياجات فقط. أما الخمسون مليونا الباقون فكانوا محرومون من كل خدمات التأمين الصحى، وهم الذين استهدفهم أوباما أساسا بإصلاحه الصحى الجزئى الذى يغطى فقط نسبة منهم. على العكس من ذلك، فالتأمين الصحى الاجتماعى يغطى عادة كل أفراد الشعب، ويؤمن ضد جميع الأمراض، ولا يعرف الحزم العلاجية المتعددة الموجودة فى التأمين الصحى الخاص. بالطبع هذا يعد تطبيقا لمبدأ أن الصحة حق للمواطنين يتمتعون به بالتساوى، ولا يجوز دستوريا التفرقة بينهم بسبب القدرات المادية. ونظرا لخصوصية الخدمات الطبية، لا يمكن التخطيط مسبقا على مستوى الفرد لما سيحتاجه فى العام القادم مثلا، فقد يظل المرء عشر سنوات مثلا بدون شكوى مرضية، ولكنه قد يمرض فجأة بمرض يكلف عشرات الآلاف. لهذا فيما يتعلق بالصحة فأغلبية الشعب فقراء، وما هى نسبة المواطنين فى مصر الذين يقدرون مثلا على علاج الفشل الكلوى على حسابهم بينما تبلغ تكلفته فى حدها الأدنى 25 ألف جنية كل سنة! ولكن يمكن حل تلك المشكلة فى التأمين الصحى الاجتماعى[vii] نتيجة لميزتين أساسيتين: التضامن الاجتماعى، وتوسيع دائرة المشاركة فى تحمل المخاطر. فالتأمين الصحى يستند إلى التضامن بين الفقير والغنى، إذ يتحدد اشتراك المنتفع كنسبة من دخله بصرف النظر عن احتياجاته، والتضامن بين السليم والمريض، إذ يكفى الاشتراك المحدود الذى يدفع شهريا لعلاج القلة التى تمرض فى الفترة المعينة. كما يتضامن الفرد مع نفسه فيدفع دون أن يستفيد فى فترات صحته ويستفيد أيا كان المبلغ الذى يحتاجه عندما يمرض. أما بالنسبة للأمراض المكلفة فإن خير طريقة لمواجهة تكلفتها المرتفعة هى توسيع دائرة المشاركة فى تحمل المخاضر. فمن المعروف أن السرطان والغسيل الكلوى وجراحات القلب وغيرها من الخدمات الرعاية الصحية الثالثية المهارية المكلفة لا تنتشر على نطاق واسع. لذلك تكفى النسبة البسيطة التى يدفعها المنتفعون لعلاج تلك الأمراض مادام مستوى انتشار تلك الأمراض قليلا فى الحدود المعتادة. وتتضامن أيضا فترات عمر المنتفعين مع بعضها، فالمعروف أن الفئة الأكثر استهلاكا للخدمات الطبية هى كبار السن على المعاش، ولكن وجود جميع الأعمار بين المشتركين، أساسا بالتغطية الشاملة للتأمين الصحى، يجعل فائض اشتراكات الشباب والأطفال، ذوى التكلفة العلاجية المنخفضة عادة، يسهم فى علاج كبار السن ذوى العبئ المرضى العالى. ولا يبقى فى استعراضنا للأنظمة الصحية المختلفة إلا الإشارة إلى أنظمة العلاج الخيرى التى تقوم بها جمعيات دينية أو مدنية، وهى ذات حجم محدود بالضرورة، وأنظمة القطاع الخاص التى تقوم على الدفع لكل إجراء طبى (كشف، فحوص، عمليات...الخ) على حدة وقت الاحتياج إليه. ومما لا شك فيه أن هذا هو أسوأ نظام على الإطلاق إذ إن الاعتماد عليه يخلق احيانا احتياجا إلى مبالغ تفوق القدرات المالية للمريض الفرد وبالتالى تجعل العلاج غير متاح له نهائيا. الأنظمة الصحية فى الدول العربيةبالنسبة للدول العربية ذات الدخل المنخفض:المجموعة تشمل موريتانيا والسودان (الموحد قبل التقسيم نتيجة لتاريخ الإحصاءات المتاحة) والصومال وجيبوتى واليمن وجزر القمر، من الواضح بالطبع كيف يدل واقعها على فقر الخدمات الطبية. إن قلة، بل ندرة الولادات التى تتم بواسطة أفراد طواقم طبية (أطباء أو مولدات أو قابلات مؤهلات من الجهات الرسمية) هى السبب فى ارتفاع نسبة وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة، إذ يبلغ فى المتوسط 558 حالة وفاة لكل مائة الف حالة وضع. كما أن نسبة وفيات الأطفال العالية (94 طفلا يموتون قبل سن الخامسة بين كل ألف طفل) توضح انتشار الأسباب الرئيسية لوفيات الأطفال، وهى الأمراض المعدية بالذات النزلات المعوية والتهابات الجهاز التنفسى، بالإضافة للملاريا فى المناطق الموبوءة. يستند هذا أيضا إلى سوء تغذية هؤلاء الأطفال مما يقلل من مناعتهم ويزيد استعدادهم للأصابة بتلك الأمراض. ومن الواضح أيضا أن فقر تلك الدول ينعكس على ارتفاع نسب الوفيات بالسل، وعلى محدودية الإنفاق الصحى، مما يتسبب فى نقص التطعيمات ونقص وحدات الرعاية الصحية الأولية. بالطبع إذا كان هذا هو حال الرعاية الصحية الأولية الأقل تكلفة والأعلى عائدا فمن المنطقى ألا نجد رعاية صحية ثانوية ومهارية يعتد بها، حيث يجب تركيز الإنفاق الصحى على الاحتياجات العاجلة وذات المردود العالى للرعاية الصحية الأولية. ولا يمنعنا هذا أن نشاهد أحيانا وجود بعض المستشفيات الحديثة فى تلك البلاد المتخلفة، بالذات المستشفيات الجامعية، تقدم خدماتها غالبا للصفوة الغنية. ويسود تلك الدول طابع الخدمات الحكومية المجانية فى القلة من خدمات الرعاية الأولية، كما يوجد قطاع خاص بالذات فى العيادات الخارجية، غير مستشفيات خاصة قليلة كما أوضحنا. الدول البترولية ذات الدخل المرتفعوتشمل السعودية، ليبيا قبل الثورة، الكويت، الإمارات، قطر، البحرين، وعمان، وهى تعتمد جميعها على أنظمة تأمين صحى. وإذا كانت غالبية أنواع التأمين الصحى عموما تعتمد على الاشتراكات، إلا أن تلك الدول من القلة التى تعتمد على التمويل من الضرائب أو الموارد العامة على غرار نظام الخدمة الصحية القومية الإنجليزى (NHS). وتنتمى الأنظمة التأمينية الشاملة فى تلك البلدان إلى النظام الشبيه بالنظام الإنجليزى والممول من الموارد النفطية الهائلة التى يذهب القسم الأساسى منها إلى الدولة، مما يمكنها من الوصول إلى وضع صحى جيد كما يتضح فى كل المؤشرات التى استعرضناها بانخفاض وفيات الأطفال تحت سن الخامسة (حوالى 13 طفلا لكل 1000 مولود حى) وانخفاض نسبة وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة (22 سيدة لكل مائة ألف حالة ولادة). كما تتمتع تلك الدول بهيكل رعاية صحية متوازن يشمل الرعاية الصحية الأولية والثانوية والثالثية المهارية المتقدمة، وهو بهذا أفضل الخدمات الموجودة فى الوطن العربى. وهيكل الخدمات الطبية فيها مختلط، إذ تمتلك الجامعات ووزارة الصحة عادة مستشفيات هامة، كما يوجد قطاع خاص نام فى مجال تقديم الخدمة سواء فى المستوصفات (الرعاية الصحية الأولية) أو فى مجال خدمات المستشفيات بما فيها الخدمات المهارية، ودخل معظم ذلك القطاع الخاص يأتى من الدولة التى تدفع للقطاع الخاص أعباء المرضى المؤمن عليهم الذين يعالجون عندهم. دول الدخل المتوسطوتشمل الدول الثمانية المتبقية، ومنها مصر بالطبع، فلها سمات محددة. أول تلك السمات هى تعدد الأنظمة الصحية، إذ عادة ما يوجد فى معظمها أنظمة تأمين صحى اجتماعى، لكنها لا تغطى كل السكان، وتغطى عادة العاملين فى الحكومة و/أو القطاع الخاص المنظم فى مؤسسات كبيرة. كما يتواجد بجانبها عادة بعض الخدمات الحكومية المجانية وعلى رأسها تطعيمات الأطفال وبعض الخدمات التى تتفاوت من بلد لآخر. والقطاع الخاص موجود أيضا فى تلك البلدان، سواء على شكل فردى لمقدمى خدمات خاصة (عيادات أطباء، مراكز تشخيص إشعاعى ومعملى، مستوصفات ومستشفيات) أو أحيانا على شكل شركات تأمين صحى خاصة تقدم خدمات أرقى بالذات فى ركن الفندقة الطبية من خدمات التأمين الصحى الحكومى، وزبائنها عادة من (أصحاب الياقات البيضاء) الأثرياء من جهات العمل مثل قطاع البترول والبنوك وبعض الشركات الكبرى والسفارات الخارجية. بالطبع ينتج عن تعدد الأنظمة الصحية فوضى تلك الأنظمة وتضاربها وضياع جزء هام من الطاقة العلاجية فى تكرار الخدمات فى أكثر من مكان حينما يتردد المريض على أماكن متعددة وبالذات فى غياب نظام ثابت للملفات الطبية التى تنتقل مع المريض حيثما ذهب، والتى لا توجد إلا فى الأنظمة التأمينية الشاملة. كما رأينا محصلة هذا النظام الصحى حيث تتوسط المؤشرات الصحية بين مجموعتى الدول الفقيرة والدول البترولية الغنية. يبلغ متوسط العمر فى تلك المجموعة من الدول 72 عاما فى مقابل 59 عاما للدول الفقيرة و75 عاما للدول البترولية الغنية. ومعدل وفيات الأطفال أقل من خمسة أعوام لكل ألف طفل يولد حيا فى الدول متوسطة الدخل يبلغ 24 لكل ألف طفل، وهو بين معدل الدول الغنية البالغ 13 فى الألف ومعدل الدول المتخلفة الذى يبلغ 94 فى الألف. وبالمثل تقع معدلات وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة (72 وفاة لكل مائة ألف حالة ولادة) بين معدل الدول الغنية (22 حالة) وبين الدول الفقيرة (558). كانت المشكلة الرئيسية فى تلك البلدان قديما تتلخص فى ضعف الإنفاق الصحى وفوضى النظام الصحى وما يصحبه من إهدار للموارد كما أوضحنا قبلا. ولكن جاء بعد هذا خطر أشد هو خطر الخصخصة على يد مؤسسات التمويل الدولية، بالذات البنك الدولى وهيئة المعونة الأمريكية. بدأت تلك التدخلات على مستويات متفاوتة فى السودان، والأردن، وسوريا، إلا أنها تبلغ أقصاها فى نموذج مصر الذى نفرد له الجزء التالى من تلك الدراسة. تجربة تدخل مؤسسات التمويل الدولية فى مصريطرح البنك الدولى رأيه فى إدارة المستشفيات الحكومية وتطويرها باتجاه الخصخصة من خلال ثلاث مراحل[viii]: o توسيع اختصاصات الإدارة للمشاريع، أى المستشفيات Autonomization o تحويل المستشفيات العامة إلى شركات Corporatization o خصخصة الشركات Privatization وبدأ التعاون بين هيئة المعونة الأمريكية USAID ووزارة الصحة المصرية عام 1974 ببعثة من الوكالة إلى وزارة الصحة مستمرة حتى الآن خلال ثلاثين عاما تقريبا، وتدعمت أكثر بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1978.[ix] تجسد التعاون بين الولايات المتحدة متمثلة فى هيئة المعونة الأمريكية وبين الحكومة المصرية فى عدد من البرامج والاتفاقات الصغرى، ولكن أساسا فى ثلاثة مشاريع كبيرة: مشروع رسم خريطة صحية لمصر Health Profile، ثم مشروع استرداد نفقات العلاج Cost Recovery، ثم مشروع الإصلاح الصحى. مدة كل مشروع خمس سنوات يجدد بعدها فترة واحدة بعد إضافة كلمة (زائد)، Health Reform Puls, Cost Recovery Plus..الخ.[x] وعلى هذا استمر مشروع رسم خريطة صحية لمصر من عام 1977 إلى عام 1987، بينما استمر مشروع استرداد نفقات العلاج لمدة عشرة سنوات أخرى بين عامى 1988 و1998. بهذا بدأ مصدر جديد لتمويل الرعاية الصحية وهو التمويل الأجنبى. اعتمد المشروعان الأولان على تمويل هيئة المعونة الأمريكية وحدها. وأثناء تنفيذ المشروع الثانى قام البنك الدولى بين عامى 1992 و1996 بدراسة الوضع الصحى فى ستة كتب[xi] يختص كل منها ببحث الصحة فى أحد المجالات (الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والقانونية...ألخ). وفى البرنامج الثالث، أوسع وأشمل تلك البرامج، أعنى برنامج الإصلاح الصحى، فقد أعد على أساس تلك الدراسات وتم توقيع الاتفاق عليه بين رئيس البنك الدولى كمندوب عن الجهات المانحة وبين وزير الصحة اسماعيل سلام مندوبا عن الحكومة المصرية عام 1998. شارك فى تمويل مشروع الإصلاح الصحى هيئة المعونة الأمريكية، والبنك الدولى، والمفوضية الأوروبية. وتم تلخيص الكتب الستة فى كتاب سابع، ثم تم كتابة التوصيات النهائية مختصرة فى تقرير شهير سوف نستعرض أهم بنوده فيما يلى.[xii] والتقرير[xiii] الذى يقع فى ثلاث صفحات ينقسم إلى قسم خاص بوزارة الصحة به خمسة ركائر تشتمل على 22 إجراءً، بينما يختص القسم الآخر بالتأمين الصحى وبه ثلاثة ركائز تحتوى على 15 إجراءً. وننقل هنا بعض تلك التوصيات بنصها: · ركيزة 1 إجراء ٣ توسع في تطبيق استرداد التكاليف في المستشفيات الحكومية أياً كانت تبعيتها · ركيزة 1 إجراء ٧ موضوع استرداد التكاليف في وحدات الرعاية الصحية الأولية: مطروح للحوار · ركيزة 2 إجراء ١ وظف الآلية التحليلية التي تستهدف "أعلى مردود بأقل تكلفة "، لتحقيق حزمة الانتفاع الأساسية لكل مواطن، التي تساندها الوزارة (الرعاية الصحية الأولية + الوقاية) · ركيزة 2 إجراء ٣ وفر الحوافز الملائمة لمقدمي الرعاية الصحية الأولية، و الوقاية، و طب الأسرة · ركيزة 2 إجراء ٤ داوم على تقديم الرعاية العلاجية الضرورية بربطها مع حزمة الانتفاع الأساسية · ركيزة 3 إجراء ١ لا وظائف مضمونة، u1571 أنقص عدد الأفراد الحالي · ركيزة 4 إجراء ٤ توجيه الدعم الحكومي إلى مستحقيه من الفقراء و محدودي الدخل · ركيزة 4 إجراء ٥ وظف الآلية التحليلية التي تستهدف "أعلى مردود بأقل تكلفة " لتحديد الخدمات الصحية الأساسية الضرورية لكل مواطن · ركيزة 5 إجراء ٢ استند لسياسة التعليم الطبي المستمر و تجديد تراخيص الممارسة الصحية على فترات أما التوصيات بالنسبة للتأمين الصحى فهى كما يلى: · ركيزة 1 إجراء ٦ حدد اشتراكات المنتفعين على أساس التكلفة الفعلية مع توظيف الإسهامات · ركيزة 1 إجراء ٧ حدد و تبنى حزم انتفاع صحية ملائمة لقدرات المواطنين · ركيزة 2 (حول الهيئة إلى جهاز تمويلى) إجراء ١ توقف عن إنشاء مستشفيات تأمينية جديدة · إجراء ٢ جدول بيع أو نقل وحدات تقديم الخدمة الحالية) المستشفيات، الوحدات المجمعة، العيادات) إلى القطاع الخاص أو إلى منظمات القطاع العام الاقتصادية (وحدات بأجر) · ركيزة 3 إجراء ٢ تخليق معدل لحزمة انتفاع صحية لكل مواطن · ركيزة 3 إجراء ٣ إفصل تمويل الخدمة الصحية عن تقديمها ولكن المشروع الأخير الخاص بالإصلاح الصحى بامتداده الطبيعى Health Reform Plus لم ينته خلال السنوات العشرة، فأخذ يمتد سنة بعد سنة حتى عام 2010 حيث أصدر البنك الدولى تقريره حول انتهاء المشروع. وتندرج المشروعات التى تبنتها هيئة المعونة الأمريكية قبل ومن خلال تلك البرامج الثلاثة تحت ثلاثة عناوين كبرى: برامج رعاية صحية أولية ممولة، ودراسات للواقع المصرى من الزاوية الصحية، وسياسات مقترحة بناء على تلك الدراسات مع تدريب إداريين حكوميين مصريين على تطبيقها. وبرامج الرعاية الصحية الممولة بشكل هبات لا ترد تكاد تنحصر فى مجال الطفولة وتنظيم الأسرة. ومن أمثلة البرامج، بالذات ذات النجاح الواسع، برنامج مكافحة الإسهال، والذى تضمن توفير محلول معالجة الجفاف مجانا وعلى نطاق واسع مع حملة دعائية واسعة حول طريقة استعماله وأفضل طرق التعامل مع الإسهال والجفاف عند الأطفال. ومن أمثلتها أيضا برنامج التهابات الجهاز التنفسى عند الأطفال، وحملة التطعيم ضد مرض شلل الأطفال، ثم حملة التطعيمات الإجبارية للأطفال، وبرامج تنظيم الأسرة بما تشمله من توفير وسائل منع الحمل وحملة دعاية واسعة حول الموضوع.[xiv] فى المشاريع الأولى مثل الجزء الخدمى مكونا أكبر نسبيا من المشروع، بينما فى المشروعات الأخيرة مثلت السياسات المقترحة الشق الرئيسى، كما نلاحظ أن تطور شمول واتساع الدراسات التى أجريت على القطاع الصحى انعكست فى اتساع نطاق الحلول المقترحة فى السياسات الصحية التى تم اقتراحها بناء على تلك الدراسات، لكى تصل فى النهاية إلى مشروع لإعادة هيكلة شاملة للقطاع الصحى Health Reform كما سيرد بيانه. ومضمون تلك التوصيات يتركز فى مجالين كبيرين: الأول يتعلق بتغيير ملكية هيكل تقيم الخدمات الصحية، بمعنى خصخصته، من خلال جدولة نقل ملكيته إلى القطاع الخاص، أو بقاء ملكيته للحكومة مع تغيير طبيعته من هيكل خدمى لا يهدف للربح إلى مؤسسة اقتصادية ربحية. هذا هو ما نفذته الحكومة عندما أصدرت قرار رئيس الوزراء رقم 637 لسنة 2007 بإنشاء الشركة المصرية القابضة للرعاية الصحية، الذى ينقل ملكية مستشفيات وعيادات وصيدليات وكافة أصول التأمين الصحى من هيئة التأمين الصحى خدمية الطابع إلى الشركة التجارية الجديدة لكى يجعل هدفها الأساسى هو معاظمة الربح من التجارة فى المرض. لم يفشل ذلك المخطط سوى التصدى الشعبى الجماهيرى من خلال لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة والهيئات التابعة لها، سواء بالفضح الجماهيرى فى الصحافة والإعلام أم بالندوات والوقفات الاحتجاجية أمام مجلس الشعب، وأخيرا عندما رفعت قضية وكسبتها فى الشق المستعجل بوقف تنفيذ قرار الشركة القابضة فى حكم قضائى شهير فى 4 سبتمبر 2008. لقد كان من شأن تمرير الشركة القابضة زيادة التكلفة على المنتفعين بمقدار هامش الربح، ولكن الأخطر هو أن من حق الحكومة بيع الشركة القابضة أو الشركات (المستشفيات) التابعة لها تماما كما كانت الشركات القابضة فى القطاع العام هى أداة بيعه. والمجال الثانى هو إحداث تغييرات فى التأمين الصحى مضمونها هو تغيير طبيعته من تأمين صحى اجتماعى إلى تأمين صحى تجارى عن طريق تغيير حزمة الخدمات الشاملة التى يقدمها التأمين الصحى حاليا والتى تشتمل عمليا على كل الأمراض إلى حزم جزئية على النمط الأمريكى، وبالتالى حذف أمراض لا يعالجها التأمين، كما تضمنت زيادة ما يدفعه المشترك، ففضلا عن الاشتراك العادى (الذى يمثل كل ما يدفعه المشترك حاليا) يتم دفع نسبة من سعر كل خدمة على حدة. بدأت تلك النسبة بثلث قيمة الفحوص والأدوية والعمليات والإقامة بالمستشفى، وتم تخفيضها بعد المعارضة الشعبية الضخمة إلى نسبة من فحوص وأدوية العيادة الخارجية فقط. خلاصة واستنتاجاتاستعرضنا فيما سبق عبئ المراضة الذى يجب أن يواجهه النظام الصحى فى الدول العربية. ورأينا أن حوالى ثمانى دول عربية، تحتوى على حوالى ثلثى السكان من الدول المتوسطة الدخل، بينما يضم الثلث الباقى قلة من السكان فى البلدان البترولية الغنية (12%)، والبلدان الفقيرة ذات عبئ المراضة العالى فى أمراض الفقراء من عدوى وسوء تغذية ووفيات أطفال وأمهات بسبب الحمل والولادة وتضم 22% من سكان الوطن العربى. كما رأينا استجابة النظام الصحى فى تلك البلدان، من خلال الاستجابة المتواضعة للدول الفقيرة ذات الهيكل الطبى المتواضع، والاستجابة الجيدة للدول الغنية التى مكنها دخلها البترولى من إنشاء أنظمة تأمين صحى اجتماعى يمول من خزانة الدولة، أى من عائدات النفط. ورأينا مشاكل أغلب سكان الدول العربية فى القسم الثالث، ثمانى دول تضم حوالى ثلثى السكان، وذات درجة من التطور فى هيكلها الطبى، وتتعرض حاليا لضغوط مؤسسات التمويل الدولية لتحويل العلاج الطبى من خدمة إلى سلعة، وتحويل مؤسسات تقديم الخدمة إلى مؤسسات ربحية فى اتجاه بيعها للقطاع الخاص المحلى والعربى البترولى والأجنبى، وكيف سيجنى هذا على المواطنين. وقد نجح الشعب المصرى حتى الآن فى منع صدور قانون التأمين الصحى الجديد الذى يحول التأمين الصحى الاجتماعى القائم –رغم عيوبه- إلى تأمين صحى تجارى، كما نجح فى وقف مشروع إنشاء الشركة القابضة التى تحول المستشفيات غير الربحية إلى شركات ربحية. ولكن تلك المشاريع مازالت تحاول العودة بعد الثورة المصرية. ومهمة الجماهير المصرية والعربية مقاومة تلك الضغوط والمشاريع الاستعمارية والسعى لبناء نظام تأمين صحى اجتماعى شامل يغطى جميع أفراد المجتمع، ويساوى بينهم فى التأمين ضد جميع الأمراض. وكذلك رفض تحويل المستشفيات إلى شركات قابلة للبيع والخصخصة لكى تباع بأبخس الأثمان كما حدث فى القطاع العام. مازال الصراع دائرا ولكن الجديد بعد عهد الثورات العربية هو دخول الجماهير طرفا فى ذلك الصراع يحمل إمكانية التصدى للمخططات الاستعمارية وتحقيق آماله وحقوقه فى الصحة.
المصدر: مجلة الفكر القومي العربي / ديسمبر 2014
[i] Murray and Lopez: The global burden of disease. Cambridge, Mass. Harvard school of public health, 1996. [ii] WORLD HEALTH STATISTICS 2011. WORLD HEALTH ORGANIZATION. [iii] M. Tayseer Elsawy (Chief investigator), The Burden of Disease and Injury in Egypt, Ministry of Health and Population, National Information Center for Health & Population, 2004. [iv] الاستراتيجية العالمية لتوفير الصحة للجميع بحلول عام 2000، منظمة الصحة العالمية، جنيف، 1981. [v] الكتاب الذهبى، وزارة الصحة، 1936-1986، بدون مؤلف، 1986. [vi]Conn & Walford - An introduction to Health Insurance for Low Income Countries (1998) The Health Systems Resource Centre. )It is managed for the UK Department for International Development by the Institute for Health Sector Development).[vii] رفعت رضوان، فلسفة التأمين الصحى فى جمهورية مصر العربية. إصدار الجمعية العلمية للتأمين الصحى الاجتماعى بالقاهرة، ط2 1995. [viii] Preker and Harding, editors, Innovations in Health Service Delivery: The Corporatization of Public Hospitals, World Bank publication, 2003. [ix] Egypt health and population legacy review. 2011. USAID report from the website of Egypt USAID at http://egypt.usaid.gov/en/programs/Documents/egypt_legacy_report_final_may_2011.pdf [x] Egypt health and population legacy review. ibid. [xi] لم يتم نشر تلك الكتب مطلقا ولم يمكننا الحصول عليها لا من الإنترنت ولا من أى مصدر، والمصدر غير المباشر الوحيد الذى توصلنا إليه عن أحدها هو الجزء الخاص بالتوصيات الاقتصادية، والذى ذكرته الدكتورة هبة نصار فى دراستها: الإنفاق الاجتماعى على الصحة "رؤية وتقييم عام"، الفصل الرابع المنشور فى كتاب الحالة الصحية والخدمات الصحية فى مصر، جمعية التنمية الصحية والبيئية، ط2 2005. الدراسات الستة والكتاب السابع الملخص لها تمت الإشارة الرسمية إليهم فى التقرير بالتوصيات الذى أصدره ماك أوين والمعنون موجز مشروع الإصلاح الصحى والصادر فى أغسطس 1995 McEuen, Mark, Assessing Health Sector Policy Reform Strategies in Egypt, A summary of PHR Analysis. Technical Report No. 5 Volume VII. Bethesda, MD. August 1997. [xii] McEuen, ibid. [xiii] McEuen, ibid. [xiv] نجوى خلاف، استراتيجيات وسياسات الرعاية الصحية، الفصل الأول فى كتاب الحالة الصحية والخدمات الصحية فى مصر. صادر عن جمعية التنمية الصحية والبيئية ط2 2005.
|
|