french

English

 

دليل المواقع

برامج وأنشطة

أخبار

الأرشيف

طلب مساعدة

عن اللجنة

الصفحة الرئيسية

Arab Commission for Human Rights
5, rue Gambetta
92240-Malakoff- France
Tel 0033140921588 Fax 0033146541913

e. mail achr@noos.fr
 

الحرب الراهنة على المشرق العرب - البر داغر

 

2014-11-25

اللجنة العربية لحقوق الإنسان

  

 

تحاول أميركا مجدّداً، ضرب الدول الوطنية المعارضة لها، مستهدفة هذه المرّة ومن دون كلل الدولة الوطنية في سوريا ومنع إعادة تكوين الدولة الوطنية في العراق. وهي تعتمد في ذلك على الدول الإقليمية المستزلمة لها (client states)، وعلى القوى شبه-العسكرية التي تتولى خوض «الحروب الجديدة» (new wars)، كما عرّفتها ماري كالدور.

سادت بعد الحرب الباردة حروب استخدم المقاولون السياسيون فيها الهوية، أي اعتمدوا الهوية الإثنية أو الطائفية أو المذهبية للتعبئة، بهدف الوصول إلى السلطة (identity politics). عوّل هؤلاء على قوى «غير نظامية»، خصوصاً التنظيمات شبه-العسكرية، لخوض هذه الحروب. ومارست هذه القوى أشكال العنف التي تدينها المواثيق الدولية والتي يُلاحق مرتكبوها في «الحروب القديمة» التي تخوضها الجيوش النظامية، بوصفها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وبخلاف «الحروب القديمة» التي انطوت على محاولات تحييد المدنيين وعدم استهدافهم بالعنف، كان المدنيون الضحية الأولى لـ»الحروب الجديدة». كانت أهم المعالم في استراتيجيات القوى التي تخوض «الحروب الجديدة»، اللجوء إلى «التطهير» (cleansing) الإثني والديني والمذهبي، وإعادة تركيب المجتمعات من خلال فرض مناطق متجانسة (homogenization) على أسس إثنية أو طائفية أو مذهبية. وفّر تدخل الخارج من خلال دياسبورا هذه البلدان، ودور الدول الإقليمية المحيطة بها ذات المصلحة في ضرب استقرارها، شروط نشوء اقتصادات حرب مرتبطة بالخارج. وأتاح وجود ثروات طبيعية يمكن تصديرها، والدعم المالي الآتي من الخارج، إمكان أن تطول هذه الحروب إلى ما لا نهاية (كالدور، 1999). ينطبق هذا التوصيف على الحرب في سوريا (داغر، 2012).
بدت مشاريع أصحاب «سياسة الهوية» وكأنها تعكس سياقاً جديداً يتعلّق بتفكيك البناء الحضاري (unravelling the civilizing process) الذي وضعت أسسه حقبة «الأنوار» الأوروبية، وجسدته الدولة الوطنية التي قامت على احتكار الدولة القانوني لاستخدام العنف، وجعلت أمن المجتمع هدفها الأول (كالدور، 2001: 51). وعلى خلاف ما جهدت الدولة الوطنية لتحقيقه لجهة دمج المجتمع، قامت مشاريع أصحاب «سياسة الهوية» حيثما وُجِدت على تعميق التجزئة المجتمعية (المصدر نفسه: 56). هذا ما جعل هذه الحركات أدوات مناسبة تحاول الدولة المسيطرة والدول المستزلِمة لها بواسطتها فرط الدول الوطنية العربية القائمة.
بدت الولايات المتحدة في موقع القادر على استثمار دور هذه الحركات أكثر من أي طرف آخر. رأى الكاتب الفرنسي ريشار لابيفيير أن الاستراتيجية العسكرية الأميركية نأت أكثر خلال السنوات الأخيرة عن نموذج الحرب التقليدية، وباتت أكثر اعتماداً على الوحدات الخاصة في الجيش، والعمليات السرية، وعلى العقود الموقعة مع جيوش بديلة وشركات خاصة لتولّي المهمات الميدانية (لابيفيير، 2014). ثمة في أميركا «صناعة كبيرة تضم مئات الشركات العسكرية الخاصة (...)»، تشكل «دولة أمنية سرية ضخمة (...)» (الأخبار، 2014).

 

الدول المستزلِمة

دخلت إنكلترا في الأساس من باب الخليج وشبه - الجزيرة العربية لفرض مشروعها الاستعماري على المشرق العربي. ولعبت أنظمة الخليج الدور الرئيسي في التصدي لتنامي التعبئة القومية العربية في ظل عبد الناصر. ولعبت من ثم دور قوة الدعم الإقليمية للثورة المضادة على مستوى كل بلد عربي. ومنذ رفع أسعار البترول عام 1973، لعبت السعودية على الدوام دور «المنتِج المتأرجح» (swing producer) الذي يرفع الكميات المدفوع بها إلى السوق لإبقاء الأسعار منخفضة. يدّعي النموذج الاقتصادي النيو-كلاسيكي السائد الذي يدرسه الطلاب في الجامعات، أن انخفاض الأسعار الفعلية للنفط خلال الثمانينيات، وعودتها عام 1986 بالأسعار الثابتة إلى ما كانت عليه قبل رفع الأسعار عام 1973، هو نتيجة ترشيد الاستهلاك وإيجاد بدائل للنفط في البلدان الغربية. وحقيقة الأمر هي أن إغراق السعودية للأسواق بالعرض الفائض للنفط تنفيذاً لإرادة أميركا، كان سبب انخفاض الأسعار. وأحد الأسباب الرئيسية لاندفاع صدام حسين لاحتلال الكويت عام 1990، أنه كان يرى نفسه ضحية «حرب اقتصادية» تشنها عليه دول الخليج من خلال أسعار النفط. يقول هينبوش إن استحواذ صدام حسين على 40% من الاحتياطي العالمي للنفط بعد احتلال الكويت، وخصوصاً التهديد الذي بات يشكله لدور السعودية كـ «منتج متأرجح»، هما ما دفع الولايات المتحدة لإعلان الحرب عليه. لم يشفع له اقتراحه الانسحاب من الكويت، خصوصاً أنه طلب مقابلاً لم يكن مقبولاً هو الآخر، بإيجاد حل منصف للصراع العربي ـ الإسرائيلي.

الاستراتيجية العسكرية الأميركية نأت أكثر خلال السنوات الأخيرة عن نموذج الحرب التقليدية


قدّمت الهند درساً في تجربة إجبار النخب على امتلاك لغة عالمية كالإنكليزية


أثبتت الحرب على العراق في 1990 و2003، أن استقرار عرض النفط كان هدفاً ولم يكن أولوية لدى الإدارة الأميركية، وأن الأولوية كانت لإبقاء المشرق العربي وبلدانه في أسفل التراتبية الدولية، وذلك بالاستمرار في مصادرة ثرواتهم على النحو الذي تؤمنه العلاقة مع الدول العربية المستزلِمة لأميركا، ومنع ظهور قوة عربية قادرة على وضع الثروة النفطية في خدمة التنمية العربية. كان ينبغي ضرب العراق لأنه جسّد مشروع دولة إقليمية قوية تهدد التراتبية القائمة وتهدد أنظمة الدول الإقليمية المستفيدة منها. لعبت دول الخليج دوراً رئيسياً في ضرب المشروع القومي الوحيد الذي كان قابلاً للتحقّق بعد 150 سنة من تجربة محمد علي باشا. كان دورها أساسياً في الحرب على العراق عام 2003، وفي مذهبة النزاع داخل العراق بعد ذلك التاريخ، وتحويل الانتصار على قوى الاحتلال حرباً أهلية لا تُبقي ولا تُذر.


ألغت سلطة الاحتلال سياسة دعم الاستهلاك، خصوصاً المواد الغذائية والمحروقات التي أرستها حقبة صدام، وسرّحت عناصر الجيش، وقسماً كبيراً من العاملين في الإدارة العامة، وضغطت على لجنة صياغة الدستور لإلغاء المادة التي تقول إن النفط هو ملكية الشعب العراقي، واستبدالها بمادة يفسح المجال لخصخصة قطاع النفط والاستيلاء عليه من قبل الشركات الأجنبية، وشجّعت تسليح الميليشيات الطائفية، مقابل الامتناع عن إعادة بناء الجيش العراقي. واستخدمت في مواجهة المقاومة التي اندلعت ضدها منذ السنة الأولى للاحتلال وسائل جرّبتها إسرائيل ودأبت على استخدامها ضد الفلسطينيين (هينبوش، 2006 ب: 300). وكان لا بد لممارساتها هذه أن تتسبّب على جناح السرعة بإفشال احتلالها للعراق. الكل يعرف البديهية المتمثلة في أن القوة العسكرية كائنة ما كانت درجة عتوها، لا تستطيع أن تصنع نصراً سياسياً، بوجود مقاومة مجتمعية لها. برز في هذا السياق دور الدول المستزلِمة لها في شحذ وتمويل الصدام المذهبي الداخلي.
أصبحت أنظمة الدول المستزلِمة أكثر عدوانية منذ «الربيع العربي» في استهداف دول المشرق العربي بغية تدميرها كدول وتحطيم مجتمعاتها بالنزاعات المذهبية. وإلى الفكر الوهابي الذي صدّرته هذه الأنظمة، والذي تحمله الحركات السياسية التي تستهدف الدولة الوطنية في سوريا والعراق، فإنها لم توفّر جهداً في التمويل والتعبئة لهذه الغاية. يرى الباحثون أنها باتت ترى تدمير سوريا والعراق شرطاً لبقائها. يكتسب الكلام المتداول حول مركزية سوريا والعراق في الصراع الدائر على الشرق الأوسط صدقية أكثر من أي وقت مضى. يحدد انتصار الدولة الوطنية في سوريا والعراق مصير المشرق العربي والعالم العربي برمته لأجيال وربما لقرون مقبلة. وها هي هزيمة محمد علي باشا العسكرية، أسّست لقرنين حتى الآن من الفشل العربي.

 

أهداف الموقف المقاوم وعناصر القوة فيه: القومية العربية

استعرض هينبوش الأدبيات البنيوية التي تُظهِر أن المنطقة العربية هي من بين كل مناطق العالم الأكثر تعرّضاً للاختراق من الخارج. وهي الأكثر خضوعاً داخل منظومة التراتبية العالمية للسيطرة المفروضة عليها من الخارج. لكن هذه المنطقة هي في الوقت عينه الأكثر مقاومة لهذا الواقع، مع ما يفرزه ذلك من عدم استقرار دائم وأزمات دورية كبرى (هينبوش، 2011: 213). تُظهِر هذه الأدبيات أن المنطقة العربية هي إحدى مناطق العالم الأكثر غنى بالأسباب المبرّرة للغبن والاعتراض، وتُظهِرها في الوقت عينه، بوصفها الأكثر غنى بالهويات التي تتصادم مع السيطرة ضمن إطار التراتبية القائمة. الهويات المقصودة هنا هي العروبة ثم الإسلام. وهي هويات يعوّل عليها لكي تكون عامل لحمة على صعيد المنطقة، بما يتجاوز تجزئتها إلى دول، ويعوّل عليها لجعل المنطقة قادرة على التصدي للسيطرة المفروضة عليها (المصدر نفسه: 217).
تقف المدرستان البنيوية القديمة والبنائية على طرفي نقيض لجهة تشخيصهما لدور الهويتين العربية والإسلامية في التصدي للموقع الدوني الذي يحتلّه المشرق العربي في التراتبية الدولية. ترى الأولى أن ما يحدد قدرة المشرق العربي على التصدي هي الشروط المادية فقط. أما المقاربة البنائية، فهي تبالغ في شأن دور نظرة الدول العربية إلى هويتها في تغيير سياساتها الخارجية. وهي ترى أن تراجع القومية العربية بوصفها محدداً لمسلكية دول المنطقة، وإعطاء هذه الدول الأولوية للسيادة القطرية، وهي التي تجسّدت بموقف مهادن تجاه الدولة المسيطرة والسير في ركابها، يعكس القواعد والمعايير التي تعتمدها هذه الدول. أي إن هذه المقاربة لا تأخذ في الاعتبار الشروط المادية التي أملت هذه المسلكيات (هينبوش، 2003: 360). يوضح هينبوش أن تراجع القومية العربية كإيديولوجية تعبوية وناظمة لمسلكية الدول العربية في سياساتها الخارجية، يتسبّب به واقع مادي هو حالة التجزئة، وربط كل دولة عربية بمفردها بالغرب، وعدم وجود بنية تحتية مادية وإنتاجية تربط أقسام المشرق العربي المختلفة بعضها بالبعض الآخر (المصدر نفسه: 361).

 

استعادة وحدة المشرق العربي من خلال «فدرالية مشرقية»

يعرّف هينبوش المنطقة العربية بوصفها الوحيدة بين الحضارات الكبرى التي لم تُعِد تشكيل نفسها كقوة على المستوى الدولي خلال حقبة ما بعد الاستعمار المباشر (هينبوش، 2011: 213). يقع على عاتق القوى التي ترمي إلى إعادة النظر بنظام التراتبية القائم، التصدي لحالة التبعية الاقتصادية التي تسم الواقع القائم، وبناء حالة من التآزر الاقتصادي الإقليمي، عبر خلق مصالح اقتصادية مشتركة بين أطرافها، تتواءم مع هويتها العربية الواحدة (المصدر نفسه: 217).
لا بل إن خلق «فدرالية مشرقية» هو هدف ينبغي أن تعمل عليه القوى القومية العربية. وقد شهد القرن العشرين نشوء فدراليتين كبيرتين هما الاتحاد السوفياتي والهند، أثبتت الوقائع أن مردودهما التنموي للشعوب التي دخلت في إطارهما، كان أكبر بكثير مما تحقّق للبلدان التي التحقت منفردة بمنظومة «العالم الحرّ» (هينبوش، 2014).


استدرجت التجارب الفدرالية دراسات عديدة بعد انتهاء الحرب الباردة لمعرفة سبب انفراط دول فدرالية سابقة كالاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وغيرها. وهي تفيد في معرفة ما ينبغي عمله في تنظيم «الفدرالية المشرقية». أظهرت دراسة هنري هالّ أن الفدراليات القائمة على أساس إثني كانت عرضة أكثر من غيرها للانفراط. لا بل إن قسمة البلاد إلى جمهوريات تعكس حدود الإثنيات الموجودة، كانت الوصفة الدستورية لدفع البلاد عاجلاً إلى الحرب الأهلية، بحكم أنها أتاحت للمقاولين السياسيين لعب ورقة التمايز الإثني أو الديني أو الطائفي، والتحشيد على هذا الأساس.


أعطت تجارب نيجيريا وباكستان وأندونيسيا في مرحلة من تاريخ كلّ منها إثباتاً على صحة ذلك (هال، 2005: 182). كذلك كان انفراط الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا كفدراليات إثنية، وليد ضعف الدولة المركزية وتمكن نخب الجمهوريات من التحشيد على أساس إثني أو طائفي. ركّز هال في دراسته لتجارب القرن العشرين، على أن الخطر الأهم الذي يواجه الفدرالية هو وجود «منطقة إثنية مركزية» (core ethnic region) تتجمّع فيها الإثنية الرئيسية وتتيح لسياسييّ هذه الأخيرة بث خطاب شوفيني، ومنازعة السلطة المركزية أدوارها. أي تتيح خلق «ازدواجية سلطة» تؤدي إلى انفراط الفدرالية (المصدر نفسه: 172-174). هذا ما عبّرت عنه تجربة الاتحاد السوفياتي، حيث مثّلت جمهورية روسيا «المنطقة الإثنية المركزية» ونازعت السلطة الفدرالية صلاحياتها وجعلت سياسييها يعتقدون أنهم بغنى عن الاستمرار كجزء من فدرالية أكبر. في المقابل، بيّن استقصاء الباحث هال أن الفدراليات الإثنية التي عمّرت، كالهند وماليزيا وسويسرا وكندا هي التي ليست فيها «منطقة إثنية مركزية» (المصدر نفسه: 181). كذلك هي حال الفدرالية الروسية التي استطاعت البقاء.
يمكن الاستنتاج من كل هذا، أنه لضمان استمرار البناء الفدرالي، يتوجّب عدم قسمة البلاد إلى وحدات سياسية أو جمهوريات على أساس إثني أو طائفي أو مذهبي، وأن حظوظ الفدرالية في الاستدامة والاستقرار تكون أكبر بتجزئة «المنطقة الإثنية المركزية» في حال وجودها إلى وحدات صغيرة لا توفّر لممثليها السياسيين فرصة اللجوء إلى التعبئة على أساس إثني أو طائفي أو مذهبي (المصدر نفسه: 176). وعلى سبيل المثال، جرى إحلال 37 وحدة فدرالية محل الجمهوريات الثلاث التي شكّلت قوام الفدرالية الأولى في نيجيريا، التي أدت إلى نشوب حرب بيافرا الأهلية الدموية (المصدر نفسه: 188). وتم تقسيم الفدرالية الروسية إلى 31 وحدة في المناطق التي تقطنها الأقليات، و57 وحدة في المناطق التي يقطنها الروس (المصدر نفسه: 191).


أجرى الباحث سفانتي كورنل استقصاءً حول منطقة جنوب القوقاز التي تضم تسع أقليات تتوزّع على ثلاث جمهوريات هي جورجيا وأرمينيا وأذربيجان. وهي شهدت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نزاعات دموية تواجهت خلالها أقليات عدة مع السلطة المركزية في الجمهوريات الثلاث التي استقلت حديثاً عن الاتحاد السوفياتي. تبيّن أن الأقليات التي سبق لها أن تمتعت بـ»استقلالية جغرافية» (territorial autonomy) طالبت بالانفصال عن هذه الجمهوريات (كورنل، 2002: 258). ميّز كورنل بين «الاستقلالية الثقافية» (cultural autonomy) التي تحظى المجموعات الإثنية بموجبها بحقوق وواجبات في علاقتها مع الدولة كائنة ما كانت أماكن سكنها، وبين «الاستقلالية الجغرافية» حيث يوفّر حيز جغرافي لهذه المجموعات تسيطر عليه وتمارس فيه استقلاليتها الثقافية. وقد دحض الآراء القائلة أن توفير «استقلالية جغرافية» للمجموعات الإثنية من شأنه أن يعزّز أكثر التزامها خيار الوحدة الوطنية، ورأى أنه يدفعها إلى المطالبة بمزيد من الاستقلالية والانفصال إذا أمكن. واستنتج أن تشجيع الهويات المدنية بديلاً من استخدام الهوية الإثنية في السياسة، هو الخيار الأفضل لتأمين استدامة الوحدة الوطنية (المصدر نفسه: 276).


ومن دروس تجربة الهند، تقسيمها إلى وحدات فدرالية أو جمهوريات على قاعدة اللغة. أي الرفض المطلق لقبول كيانات تنشأ على أساس ديني أو طائفي، بالإضافة إلى رفض نشوء حركات انفصالية أو إعطاء شرعية لأحزاب تنادي بها (براس، 1992: 113). عكس شعار «جمهوريات قوية مع وحدة قوية» المبدأ الذي اعتمده الاتحاد السوفياتي والهند ايام نهرو على حد سواء. وهو عكس ممارسة قائمة على «الفدرالية المبنية على التعاون» (cooperative federalism) وقدرة الجمهوريات على التفاوض مع المركز وإسماع صوتها له (براس، 1992: 114). وبيّنت دراسة أتول كولي عن الهند أن التعاطي المتميّز من قبل السلطة الفدرالية مع الجمهوريات والأقاليم والمستوى المؤسساتي الراقي لهذا التعاطي، يلعبان الدور الرئيسي في تلافي ظهور حركات تنادي بالاستقلال الذاتي، ويمكّن السلطة المركزية من استيعاب الحركات الانفصالية وإزالة خطرها (كولي، 1997).

 

مسألة اللغة في التجربة الهندية

إحدى إنجازات حقبة نهرو، اعتماد اللغة الهندية (hindu) لغة رسمية للهند كلها واعتماد الإنكليزية لغة رسمية إضافية مرافقة. وقد أُضيفت إلى هاتين اللغتين 14 لغة معترف بها في الامتحانات الرسمية للإدارة العامة (براس، 1992: 112). الدرس الذي تقدمه تجربة الهند التي عرفت مع نهرو إحدى أكثر حقباتها تعبئة ضد مخلّفات الاستعمار الإنكليزي، إجبار النخب الاجتماعية على امتلاك لغة عالمية كالانكليزية. وهو ما سوف يكون له أكبر الأثر في الإبقاء على علاقة للهند وثيقة بالحداثة الغربية وعلومها، وما سيسهّل لها نقل التكنولوجيا وتكييفها، والتحوّل ولو متأخرة بعض الشيء إلى دولة عظمى هي الأخرى.

 

 

العلمانية

أوضح بول براس أوجه الاختلاف في تعريف العلمانية (secularism) بين دول الغرب وبين الهند. لا يعكس الأخذ بالعلمانية عند القوى السياسية في الهند همّ فصل الدين عن الدولة، كما هو الأمر في الدول الغربية، ولا يُستخدم التطرّق إلى هذا الموضوع من هذه الزاوية، إلا لإنتاج أدبيات سِجالية (براس، 2005: 116 ). في المقابل، مثّل حزب المؤتمر، الحزب العلماني الأكبر بل المسيطر في العقود الأربعة الأولى للاستقلال. عبّر عن علمانية تنادي بـ «قومية مركّبة» (composite nationalism)، أي تعكس اعترافاً بحق الجماعات ما-دون الوطنية في الحفاظ على مؤسسات ثقافية ودينية وقانونية على حدة، طالما رغبت بذلك، شرط أن تلتزم هدف الدفاع عن الوحدة الوطنية (المصدر نفسه: 120). وهو ما عبّر عنه وجود أنظمة مختلفة للأحوال الشخصية، وعدم اعتماد الهند لقانون مدني موحّد. وهي وفّرت بالتالي ما سبق تعريفه تحت عنوان «الاستقلالية الثقافية». الأخذ بالعلمانية يعني في حالة الهند الوقوف في وجه الطائفية (communalism)، أو استخدام الدين للتعبئة السياسية. وقد استخدم العلمانيون سلطة الدولة لضبط أو حظر التنظيمات الطائفية (المصدر نفسه: 130). وفي ولاية البنغال الغربية، حيث السلطة المحلية للشيوعيين، ليس ثمة تساهل مع استخدام السياسيين للتعبئة على أساس طائفي، بل منع صارم للتعبئة والتعبئة المضادة على هذا الأساس، وامتناع من العلمانيين عن إطلاق مناشدات على خلفيات طائفية، أكان الأمر يتعلق بالهندوس أو المسلمين (المصدر نفسه: 129). يستجيب هذا التعريف للعلمانية لحاجة المشرق العربي لتعريفها على هذا النحو واعتمادها.

 

بناء المقدرة التكنولوجية

عدّد هينبوش محاولات التصدي للموقع الدوني للمنطقة في التراتبية الدولية التي كانت تتكرر بمعدل محاولة كل عشر سنوات وبأشكال مختلفة، من القومية العربية الناصرية بدءاً من الخمسينيات، إلى حركة التحرّر الفلسطينية في الستينيات ودور منظمة الأوبيك في السبعينيات والثورة الإسلامية في إيران في الثمانينيات وعراق صدام حسين في التسعينيات وظاهرة بن لادن في العقد الأول من الألفية الجديدة. وهي محاولات منيت بالإخفاق رغم قوة الأفكار التي حملتها، لأن العامل المادي البنيوي الذي هو العامل المحدد للنجاح والفشل بقي غير متوفر (هينبوش، 2011: 230).
قدم الاختصاصي الكبير في التنمية هنري بريتون قراءة لتجربة «استبدال الواردات» (import substitution) التي اعتمدتها كل بلدان العالم الثالث تقريباً بعد الحرب العالمية الثانية، أظهرت أن هذه الأخيرة اختارت السهولة (بريتون، 1998). وهي اعتمدت الحمائية، من خلال فرض رسوم جمركية عالية على الواردات، لتشجيع إنتاج أو تجميع سلع معمّرة تباع في السوق المحلية. وشجعت الاستثمار في هذه القطاعات باعتماد أسعار صرف للعملة خفّضت من خلالها كلفة استيراد مكوّنات هذه السلع وقطع الغيار العائدة لها.
وهي تخلّت بهذا الخيار عمّا هو أهم بكثير، أي إنتاج السلع التجهيزية أو الآلات (capital goods) بنفسها، من خلال «التمرين التكنولوجي» (learning by doing). لم تشذ مصر عن هذه القاعدة في إقامة صناعات تجميعية خلال فترة التصنيع حتى أواخر الستينيات، وفي التخلي عن هدف إنتاج آلات بمقدرتها التكنولوجية الخاصة. ولم تعتمد خيار إنتاج الآلات أية دولة عربية أخرى. بقيت الدول العربية بالتالي في حالة دونية تكنولوجية تجاه الغرب. وهي دونية جعلتها غير قادرة على تطوير تقنيات محلية تجعل جيوشها قادرة على التصدي للعدوان الخارجي المستمر عليها. وقد أظهرت حرب العراق بأعلى قدر من المأسوية أن التصدي للعدوان الخارجي والحفاظ على الدولة الوطنية القائمة لا يمكن أن يتحققا إلا بإعطاء الأولوية لهدف بناء القاعدة التكنولوجية المحلية، والتمكن من إنتاج الآلات بالإمكانات الوطنية.


ما لم تحققه أي من الدول العربية، حققته إيران في ظل الثورة الإسلامية. أظهرت قراءة الكاتب عامر محسن للتجربة الإيرانية في إنتاج التكنولوجيا العسكرية، أن ثمة إنجازات فعلية تحققت على هذا الصعيد. طورت إيران بجهودها الذاتية تقنيات التشويش على المهاجمين الذي يعوّلون على وسائل الاتصال وتعيين الأهداف بالأقمار الصناعية، وطورت تقنيات الطائرات الخفية، وحسّنت قدرتها الصاروخية وأقامت منظومة دفاعية متكاملة تمنع استهدافها من الجو (محسن، 2014). تمثّل تجربة إيران في بناء قاعدة تكنولوجية محلية نموذجاً يمكن أن تحتذيه الدول العربية.


رأى الباحث الاقتصادي الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى، أن على الدول العربية أن تجد صيغة لتطوير جهد مشترك في ميدان إنتاج التكنولوجيا الجديدة، كأولوية لا يمكن التسامح فيها أو تأجيلها (عيسى، 2014). ورأى الدكتور رودولف القارح، أنه باتت ثمة حاجة إزاء العدوان الخارجي الذي يستهدف مجتمعات المشرق العربي بضربها وتفتيتها وإزالة موروثها من العيش معاً على مدى عشرات القرون، لإعداد «خطة طوارئ» على مستوى المشرق العربي للتصدي للعدوان (القارح، 2014).

تعِدّ «السيطرة الجماعية» التي تمارسها دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة كدولة مسيطرة، أطباقاً مرّة للمشرق العربي. لا يستطيع المثقفون أن يقفوا موقف المتفرّج في مواجهة الخطر الداهم.
(
هذا النص هو الجزء الثالث والأخير من مادة:
الولايات المتحدة والمشرق العربي: بيان للاستنهاض القومي)

المراجع:

Hinnebusch R., “Hegemonic Stability Reconsidered: Implications of the Iraq War”, in Rick Fawn, Raymond Hinnebusch (eds.), The Iraq war: causes and consequences , Boulder : Lynne Rienner Publishers, 2006b , pp. 283-322.

Hinnebusch R., “ The Middle East in the world hierarchy: imperialism and resistance”, in: Journal of International Relations and Development , vol 14, n. 2, 2011, pp. 213 - 246.

Hinnebusch R., “Identity in International relations: Constructivism versus Materialism and the Case of the Middle East”, Review of International Affairs, Vol. 3, n. 2, 2003, pp. 358-362.

Hinnebusch R., “Empire and after : toward a framework for comparing empires and their consequences in the post-imperial Middle East and Central Asia”, Journal of Historical Sociology, Vol. 27, n. 1, 2014, pp. 103-131.

Hale Henry, “Divided We Stand: Institutional Sources of Ethnofederal State Survival and Collapse,” World Politics , January 2004, pp. 165-193.

Brass Paul R., “Indian Secularism in Practice”, in Indian Journal of Secularism, Vol. 9, n. 1, Jan-Mar 2006, pp. 115-132.
Brass Paul R., “Language and National Identity in the Soviet Union and India,” in Motyl Alexander (ed.), Thinking Theoretically About Soviet Nationalities: History and Comparison in the Study of the USSR, New York: Columbia, 1992, pp. 99-126.

Kohli Atul, “Can Democracies Accommodate Ethnic Nationalism?” Journal of Asian Studies 56,1997, pp. 325-344.

Bruton Henry, “A Reconsideration of Import Substitution”, in Journal of Economic Literature , Vol. 36, June 1998, pp. 903-936.

ألبر داغر، "الحرب في سوريا كـ " ـحرب جديدة "" ، الأخبار، 5 / 9 / 2012.
ريشار لابيفيير، "التحولات في العقيدة العسكرية الأميركية، أو الشكل الجديد للحرب "، بيروت، المركز الإستشاري للبحوث والتوثيق، محاضرة في 28/ 3/ 2014.

عامر محسن، "ما الذي يُخيف أميركا في إيران : عن قدرات طهران العسكرية"، الأخبار، 26/ 9/ 2014.
رودولف القارح، "نحو إعلان حالة طوارئ لمواجهة التدمير "، الأخبار، 12 و. 13/ 9/2014

الأخبار العدد ٢٤٤٧ الثلاثاء ١٨ تشرين الثاني ٢٠١٤

 

 

 

 

C.A. DROITS HUMAINS

5 Rue Gambetta - 92240 Malakoff – France

Phone: (33-1) 40921588  * Fax: (33-1) 46541913

E. mail achr@noos.fr   www.achr.nu www.achr.eu

 

 

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي اللجنة العربية لحقوق الإنسان , إنما تعبر عن رأي أصحابها

الصفحة الرئيسة