إنجازات تحقّقت
إن مردّ الهلع الإسرائيلي تجاه حركة المقاطعة هو الإنجازات السريعة التي تمكنت BDS من تحقيقها في فترة سريعة جداً نسبياً. فما استغرق تحقيقه 25 عاماً في سياق النضال الجنوب أفريقي ضد الأبارتهايد استطاعت حركة المقاطعة BDS أن تنجزه في أعوامها الثمانية الأولى فقط. فمثلاً في سنة 2013، تبنّت أربع جمعيات أكاديمية في الولايات المتحدة الأميركية مقاطعة أكاديمية شاملة لإسرائيل، وبين تلك الجمعيات « جمعية الدراسات الأميركية »، وقد تم ذلك في عُقر دار الحركة الصهيونية، وفي أقوى معاقلها.
(...) إن كثيراً من الإنجازات على صعيد المقاطعة الأكاديمية والثقافية تحقّق في سنة 2013، لكن حركة المقاطعة دخلت في سنة 2014 في مرحلة نوعية جديدة في مجال المقاطعة الاقتصادية والمالية : لقد قطعت حركة المقاطعة BDS أشواطاً كبيرة خلال الأعوام القليلة الماضية على صعيد الوصول إلى التيار العام (mainstream) في المجتمع الغربي، وليس فقط في مجتمعات الجنوب الأكثر تأييداً لحقوقنا بطبيعة الحال. فخلال الأشهر الماضية فقط، بدأت المقاطعة الاقتصادية تصل إلى بداية التحول النوعي : في 1 نيسان/أبريل، أعلنت شركة صوداستريم، المستهدفة من قبل حركة المقاطعة BDS، أن سهمها خسر 14% من قيمته خلال الربع الأول من هذه السنة؛ شركة « ميكوروت » الإسرائيلية للمياه خسرت عقداً كبيراً قيمته 170 مليون دولار في الأرجنتين؛ شركة « فيتنز » الهولندية للمياه أنهت عقدها مع « ميكوروت » لتورطها في الاحتلال؛ الحكومة الألمانية أعلنت أنها ستستثني من اتفاقيات التعاون العلمي والتقني مع إسرائيل جميع الشركات والمؤسسات الإسرائيلية الموجودة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، « بما فيها القدس الشرقية »؛ ثاني أكبر صندوق تقاعد هولندي، وتُقدّر استثماراته العالمية بـ 200 مليار دولار، أعلن سحب جميع استثماراته من البنوك الإسرائيلية التي تعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، الأمر الذي شكّل ضربة معنوية ونفسية هائلة لأحد أهم أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي؛ أكبر بنك في الدنمارك قرر مقاطعة بنك « هبوعاليم » الإسرائيلي لتورطه في الاحتلال؛ صندوق التقاعد النرويجي، وهو الأكبر في العالم، أدرج شركات إسرائيلية متورطة في الاستيطان في قائمته السوداء. وكشفت الصحافة الإسرائيلية قبل أسابيع أن شركات بناء عملاقة عديدة تراجعت عن المشاركة في عطاء تشييد ميناءين يديرهما القطاع الخاص في أسدود وحيفا خوفاً من تنامي المقاطعة العالمية لإسرائيل، كما أن صندوق التقاعد اللوكسمبورغي أيضاً سحب استثماراته من بنوك وشركات إسرائيلية كبيرة. وتأتي هذه الخطوات انسجاماً مع إقرار الاتحاد الأوروبي في أواسط سنة 2013 معايير تمنع تمويل أي مشروع إسرائيلي في الأراضي المحتلة، وعكس هذا التحول الضغط الشعبي المتزايد لأنصار الشعب الفلسطيني، علاوة على العمل الدؤوب لمؤسسات حقوقية فلسطينية وأوروبية عملت بهدوء وراء الكواليس.
وتبنّى عدد كبير ومتزايد من اتحادات الطلبة في جامعات الغرب نداء المقاطعة BDS، بينما تبنّت اتحادات الطلبة في عدد من الجامعات الأميركية والكندية سحب الاستثمارات من شركات متورطة في الاحتلال.
إن حملتنا لمقاطعة شركة « فيوليا » التي أُطلقت في تشرين الثاني/نوفمبر 2008، تثبت جدوى المقاطعة الاقتصادية أكثر من غيرها. « فيوليا » هي شركة فرنسية متورطة في مشاريع إسرائيلية في الأرض المحتلة، وقد خسرت عقوداً، أو اضطرت تحت ضغط حملة المقاطعة، إلى أن تنسحب من مناقصات بقيمة 20 مليار دولار تقريباً في العالم، في بريطانيا والسويد وأيرلندا ومدينتَي سانت لويس وبوسطن الأميركيتين، وغيرها.
هذه العوامل كلها، فضلاً عن تطرف الحكومة الإسرائيلية إلى أقصى اليمين بشكل غير مسبوق، أسقطا آخر أقنعة ما يسمى بالديموقراطية الإسرائيلية، وأديا إلى تراجع مكانة إسرائيل العالمية بشكل حاد. فاستطلاعات الرأي العام العالمي (GlobeScan) التي تجريها بي. بي. سي. أظهرت في الأعوام القليلة الماضية أن إسرائيل باتت تنافس كوريا الشمالية على موقع ثالث أو رابع أسوأ دولة في العالم من حيث الشعبية، الأمر الذي سينعكس من دون أدنى شك على التجارة الإسرائيلية مع العالم، مثلما حذّر غير مرة عدد من الوزراء الإسرائيليين « الأكثر عقلانية ».
BDS في المواجهة
السؤال الذي كان يُطرح دائماً هو كيف يمكن الرد على إسرائيل عالمياً، وما هي الوسائل؟ إن فكرة حركة BDS هي جزء من الرد الاستراتيجي، وجزء من المقاومة الشعبية والمدنية.
انطلقت الحركة في 9 أيلول/سبتمبر 2005، بنداء لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. وشاركت في النداء قوى شعبية فلسطينية واتحادات نقابية وائتلافات سياسية، في أراضي الـ1967 وفي الشتات وفي أراضي 1948، فكان تمثيل مميز يجمع فلسطينيي 1948 و1967 والشتات من جميع المشارب السياسية والأيديولوجية، وللمرة الأولى منذ عقود، على خطة وبرنامج واضحين يستندان إلى مبادئ القانون الدولي على ما في هذا القانون من علاّت. فعلى الرغم من مساوئ هذا القانون، كان أمام الحركة خياران : القانون الدولي أو قانون الغاب، وقانون الغاب عادة ليس لمصلحة المضطهدين، أمّا القانون الدولي ففيه ما يكفي كي يُستفاد منه، إن توفرت الرؤية المبدئية والعصرية، والإرادة، والتحالفات الواسعة، والاستراتيجيا المدروسة، وآليات المتابعة والمحاسبة والتطوير الديموقراطية، غير الإقصائية.
(...) إن نقطة القوة في حركة المقاطعة تكمن في أنها مكونة من ممثلين عن الاتحادات النقابية والهيئات والجمعيات الأهلية والشعبية وشخصيات وناشطين مستقلين، وهناك تمثيل لتحالف القوى الوطنية والإسلامية، ولها سكرتارية تشرف على العمل اليومي، كما أن الأغلبية العظمى من العاملين تتكون من متطوعات ومتطوعين عدا مُمَثلَين دائمَين للحركة : واحد في بريطانيا يدير العمل في أوروبا، والثاني في فلسطين ويديره في فلسطين والبلاد العربية. والحركة ليست منظمة غير حكومية (NGO)، ولا تعتمد على تمويل جهات معينة، وتمويلها بسيط جداً ويُستخدم مباشرة في العمل، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يلوي ذراعها، إذ لا توجد لديها نقطة ضعف مالية، ولا مجال للفساد أو الإفساد. وتصاعد حركة المقاطعة يتطلب بالتأكيد زيادة معقولة في عدد المتفرغين للعمل في مختلف المجالات المتخصصة (الإعلام؛ البحث؛ تنسيق الحملات العالمية؛ إلخ)، لكن هذا التوسع يأتي من حاجة موضوعية واضحة، لا من انتفاخ يسببه التمويل عادة. كما أن القرار يتخذه ممثلو هيئات المجتمع الفلسطيني في اللجنة الوطنية للمقاطعة، وهي أوسع تحالف فلسطيني اليوم، وجميعهم/ن متطوعون/ات، لا من الموظفين/ات.
(...) ومن التحديات أن BDS تواجه هجوماً إسرائيلياً مضاداً، فبين سنة 2005، عندما انطلقت حركة المقاطعة، وحزيران/يونيو 2013، أوكلت الحكومة الإسرائيلية إلى وزارة الخارجية مهمة شنّ الحرب على الحركة، وبما أن وزير الخارجية في الأعوام الأخيرة هو أفيغدور ليبرمان، فإن الأمر صبّ في مصلحة الحركة، لأن ليبرمان بعنصريته يزيد من التأييد العالمي للمقاطعة. وكانت وزارة الخارجية الإسرائيلية تتولى محاربة حركة المقاطعة من خلال برامج عديدة جزء منها يقع تحت مسمى « وسم إسرائيل » (Brand Israel)، في محاولة لإظهار إسرائيل دولة حديثة وعصرية فيها الموسيقى والآداب والفنون والتكنولوجيا إلخ، لا دولة احتلال وعنصرية.
واعتباراً من حزيران/يونيو 2013 أوكلت الحكومة الإسرائيلية مسؤولية محاربة حركة المقاطعة إلى وزارة الشؤون الاستراتيجية، وقد كشفت الصحافة البريطانية مؤخراً عن اجتماع سري عُقد في بريطانيا بين وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي وناشطي الحركة الصهيونية في أوروبا، لوضع استراتيجيا لمواجهة BDS، وكان اجتماعاً على جانب من الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل وحلفائها. كذلك عقدت الحكومة الإسرائيلية في آذار/مارس اجتماعاً سرياً سُرّب إلى الصحافة الإسرائيلية، بهدف وضع استراتيجيا لمواجهة حركة BDS، واتخذت ثلاثة قرارات، هي :
أولاً : تخصيص 100 مليون شيكل إضافية (30 مليون دولار تقريباً)، زيادة عن مبالغ تم تخصيصها سابقاً، لمواجهة حركة المقاطعة.
ثانياً : زيادة العمل الاستخباراتي، من قبل الموساد والشاباك والاستخبارات العسكرية ضد حركات المقاطعة حول العالم، ومراقبة ناشطي المقاطعة من أشخاص ومجموعات وجمعيات واتحادات.
ثالثاً : تعزيز ما يسمونه « الحرب القانونية » (Legal warfare) ضد BDS.
وتسعى إسرائيل تحت مسمى الحرب القانونية للتوجه نحو البرلمانات الصديقة : الولايات المتحدة وكندا وأستراليا بصورة خاصة، وجميعها دول استعمار استيطاني، وليس مصادفة أنها من أكثر الدول التي ترتبط بعلاقة مميزة مع إسرائيل. وقد باشرت إسرائيل وحلفاؤها واللوبي الصهيوني في الأشهر الأخيرة في الولايات المتحدة : في ولايات ماريلاند وإيلينوي ونيويورك، وكذلك في الكونغرس الأميركي في واشنطن، مساعي لسن تشريعات تُجرّم المقاطعة، أي أن أي منظمة أو مؤسسة أميركية تؤيد BDS يُحجب عنها التمويل، ويتم إدراجها في لائحة سوداء.
لكن الحرب القانونية ضد حركة المقاطعة في الولايات المتحدة تُعتبر محاولة لتجريم حرية الرأي، الأمر الذي يتنافى مع التعديل الأول للدستور الأميركي، وهذا شيء لا يتقبله الأميركيون بسهولة؛ فليس من السهل أن تلقى أي حملة إسرائيلية في الولايات المتحدة معارضة قوية من هيئة تحرير « نيويورك تايمز »، أهم جريدة في العالم، وهيئة تحرير « واشنطن بوست »، ورئيس جامعة كولومبيا. فهؤلاء ربما يكونون مؤيدين بقوة لإسرائيل، بل معادين للمقاطعة BDS، لكن عندما وصل الأمر إلى تجريم المقاطعة وقفوا ضد إسرائيل ومجموعات ضغطها، ليس بالضرورة دفاعاً عن مقاطعة إسرائيل، وإنما دفاعاً عن حرية إبداء الرأي، وترسيخاً لحقيقة أن المؤسسة الليبرالية الأميركية تعتبر المقاطعة قضية رأي وتعبير في الأساس.
وفي مطلع نيسان/أبريل 2014، كانت هناك معركة قانونية مهمة في أولمبيا في ولاية واشنطن، بلد الناشطة الأميركية راشيل كوري التي استشهدت في 16 آذار/مارس 2003 وهي تدافع عن منزل في رفح أمام بلدوزر إسرائيلي. ففي أولمبيا يوجد « سوبر ماركت » تجاوب مع حركة المقاطعة وقاطع البضائع الإسرائيلية، وهو الأول الذي يقوم بهذه الخطوة الجريئة في الولايات المتحدة. وقد تحدى الإسرائيليون وحلفاؤهم الحركة قانونياً وخسروا، ثم رفعوا القضية إلى محكمة الاستئناف لكنهم خسروا ثانية، بعد أن رفضت المحكمة التماساً وقفت وراءه وزارة الخارجية الإسرائيلية.
لقد مثّل ذلك نصراً قانونياً مهماً جداً لحركة المقاطعة، يضاف إلى الانتصارات القانونية التي سبق أن حققتها BDS في بريطانيا، لكنه في الوقت ذاته، يمثل تحدياً جديداً وجدياً، في الحرب التي تشنها إسرائيل وحلفاؤها، وسلاحها هذه المرة هو القوانين الداخلية في الدول التي ترتبط بعلاقة جيدة مع إسرائيل، والقوانين الدولية والقانون الدولي الإنساني، وساحتها العالم كله، الأمر الذي يتطلب يقظة وتعباً ومشاقاً كبيرة، ووعياً لا بد من أن يتزايد ويتعزز، وتوحيداً للجهود كلها : فلسطينياً وعربياً. (...)
باحث وناشط فلسطيني، وعضو مؤسس لـ« الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل » (PACBI) و« حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات » (BDS)
المصدر: جريدة السفير اللبنانية 20/06/2014
|