مقابلة فيوليت داغر مع صحيفة الصباح التونسية
اولا، من خلال تجربتك في منظمات حقوق الانسان العربية والدولية كيف تقيمين تطور ملفات حقوق الانسان في تونس بعد ثورة 14 جانفي 2011 ؟
لو أردنا الإيجاز لأمكنني القول أن انتهاكات حقوق الإنسان في هذا البلد لم تتوقف بعد ثورة 14 جانفي 2011، وأن عدة قوانين يمكن النفاذ منها لممارسة انتهاكات بقيت على حالها من مثل قانون التظاهر أو قانون الإعدام - وإن كان لا يطبق. لكن حيث أن هذه الانتهاكات كانت ممنهجة من قبل، فقد باتت أقرب لتجاوزات فردية من بعد. كما لم يعد يصح القول فيها أنها سياسة نظام كون الإرادة السياسية للتغيير موجودة. لقد أصبح بالإمكان متابعة الشكاوى، وإن كان القضاء خصوصاً والمؤسسات المعنية عموماً لم تدخل إصلاحات حقيقية على أنظمتها. يبقى أن النقلة النوعية لا يمكن أن تتم إلا بتراكم الإرادات الخيرة والعمل الدؤوب لصناعة الغد الذي يطمح له بنات وأبناء هذا البلد. إضافة لعامل الوقت الذي له الدور الكبير في تغيير العقليات والثقافة السائدة التي ما زالت مطبوعة عند الغالبية بما عانته في ظل نظام دكتاتوري ومن تماهي البعض منها مع هذا النمط من الحكم ولو لا إرادياً.
ثانيا، هل تعتبرين ان المقاييس الاممية والدولية لحقوق الانسان قد وقع احترامها في تونس؟
المواثيق الدولية لم يقع احترامها في أكثر من مجال، وبالطبع الدستور الجديد له علوية عليها. وقد عبر بعض أعضاء المجلس التأسيسي عن رغبتهم بإلغاء ما سبق أن وقع الإتفاق عليه من رفع تحفظات على اتفاقية السيداو. أيضاً إتفاقية الاتجار بالأسلحة رفضت حكومة علي العريض توقيعها. بالمقابل، هيئة الوقاية من التعذيب تمت الموافقة عليها، كما تشكلت الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، بما يجعل تونس الدولة العربية الوحيدة التي شكلت مثل هذه الهيئة.
وكأنه مقابل الخطوتان للأمام هناك خطوة للوراء. فلو أخذنا على سبيل المثال قانون العدالة الانتقالية الذي قد يكون من أهم القوانين التي كتبت بعد ثورة 14 جانفي، نجد الانتقادات كثيرة بخصوصه. فهناك من أشار للفصل 25 على أنه من أخطر الفصول من حيث تشريعه لانتهاك حق التظلم على أساس أن قرارات لجنة الفرز غير قابلة للطعن. وراج أن حكومة الترويكا كانت مسؤولة عن غياب الإرادة السياسية لوضع أسس قوية لهذا القانون، وأنها التفت في الربع ساعة الأخير على المشروع الذي تقدمت به منظمات المجتمع المدني فأفرغته من محتواه. وعدم تعديل هذا القانون قد يضر بصيرورة العدالة الانتقالية. أيضاً انتقادات شديدة وجهت لهيئة الحقيقة والكرامة التي تم تخصيصها بـ55 فصلا من القانون وتمتيعها بصلاحيات واسعة من حيث: النفاذ للأرشيف العمومي والخاص وإجراء التحقيقات وتنظيم جلسات الاستماع وتحديد المسؤوليات في الانتهاكات- رغم الإحالة للنيابة العمومية للملفات التي يثبت فيها ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان- وتداخل صلاحيات الهيئة في بعض الأحيان مع صلاحيات الضابطة العدلية إن لم يكن تجاوزها. علاوة على تركيبتها التي يمكن من خلالها انتهاك حقوق الإنسان لمن يفترض بهم معالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي تراكمت على مدى عقود. وعلى هذا المنوال يمكن قراءة بقية ما صدر والتوجس مما هو في طور التحضير.
ثالثا، لقد زرت السجون التونسية والتقيت بعض السجناء في قضايا ذات صبغة سياسية وامنية كيف تعاملت مع ملفاتهم ووضعياتهم ؟
كانت ازدواجية المعايير في التعاطي مع هذه الملفات واضحة للعيان منذ البداية، سواء كان من طرف السلطات السياسية والقضائية أو المنظمات الحقوقية. الأمر الذي زاد من اهتمامي بهذه القضية، وبالتعاون مع نائب رئيس جمعية تأهيل المساجين، انكببنا على هذا الملف. لذا واظبت قدر الإمكان على متابعة جلسات المحاكمة وكل ما يفيد في الدفاع عن حقوقهم من زيارات للسجن أو اتصال بالعائلات والمحامين كما بعائلات الضحايا، يحدوني في ذلك الأمل بمحاكمة عادلة بعد 3 سنوات خلف القضبان وأحكام ابتدائية غير عادلة. كذلك عملت على إسماع صوتهم من خلال الخروج في الإعلام بما أتيح من فرص لم تكن حقيقة كثيرة، رغم المحاولات العديدة لفتح هذا الباب، وخاصة القنوات التلفزية التي كانت شبه موصدة. فغالب هؤلاء الذين يحاكمون على أساس أنهم شركاء بالقتل لم يثبت عليهم ما يدينهم، وبالتالي فهم محكومون بحكم الوظيفة لا الأفعال.
رابعاً، هل لك أن تفصلي في هذا الملف بعض الشئ
بداية لا بد من القول أن المدير العام للأمن الوطني، عادل التويري، القابع بسجن المرناقية، كان قد كرر على مسامعنا ما أكده مراراً للقضاء أنه أصدر تعليمات صارمة لمدرائه العامين بمراكز الدولة لضبط النفس وعدم استعمال الذخيرة الحية وتسليم الأسلحة للجيش الوطني. كذلك فعل وزير الداخلية في ذلك الحين، رفيق بلحاج قاسم، الذي أقيل صباح 12 جانفي من منصبه. رغم ذلك اتهم هو أيضاً بالمشاركة في القتل العمد وأوقف في 1 فيفري دون إذن قضائي وحكم ب37 سنة سجن دون إثباتات تؤكد أنه قد أعطى تعليمات بإطلاق النار على المحتجين. الأمثال من هذا القبيل كثيرة، لكن لا يمكن الحديث هنا عن الجميع بأسمائهم لضيق المكان. إنما على العموم، كانت التسجيلات في قاعة العمليات في وزارة الداخلية وفي نظام تسجيل الوحدة المركزية قد أثبتت خلوها مما يشي بأوامر أعطيت لقتل المتظاهرين. كما أن ميدانيين ومدراء في وزارة الداخلية شهدوا بأنهم لم يتلقوا أوامر بإطلاق النار، بل أُخذوا تعليمات بضبط النفس وعدم إطلاق الرصاص والعمل على جمع السلاح من المراكز وتسليمه للجيش. وهو ما تم فعلاً وثبت بالمحاضر المسجلة بين القوات الأمنية والجيش الوطني.
لا ننسى أنه في ذلك الوقت جرت في جهات عديدة من البلاد حوادث عنف واستهداف لمؤسسات الدولة خاصة منها الأمنية، أشاعت الذعر والبلبلة ووسعت رقعة الاشتباكات وأثرت على سلمية الثورة. وكانت وزارة الداخلية قد أصدرت كشوفات في بداية الأحداث بالأسلحة التي فقدت وبأعمال العنف التي حصلت. منها على سبيل الذكر لا الحصر، كون الأرقام كثيرة ولا يستوعبها هذا المكان: عمليات حرق ل 17معتمدية، و23 بلدية، و132 مركز أمن وطني، و112 مركز وحدة حرس وطني، و19 مؤسسة تربوية، و11 محكمة، و166 مؤسسة إدارية، و29 إدارة تابعة لوزارة المالية، و5 مراكز بريد، و9 محطات نقل، و114 وسيلة نقل، و33 فرع تابع لمؤسسات بنكية، و72 شركة تجارية، و15 مؤسسة صناعية. هذا عدا عمليات السرقة والنهب وإتلاف المعدات وغيره من أضرار وقعت في أماكن كثيرة ومنها من تم استكمالها بعمليات إحراق بقية محتوياتها.
والغريب أنه جرى في المحاكم العسكرية فصل حوادث القتل التي حصلت قبل 14 جانفي عما بعده. فاعتبرت الأولى جريمة، في حين لم تعتبر الثانية قتل عمد. وتم التحقيق مع عدة عشرات من الأشخاص واتهم وأودع السجن من شاءت أطراف سياسية وقضائية اعتباره مسؤولاً عن الأحداث التي حصلت قبل رحيل بن علي وإلباسه جريرة أفعال آخرين, بينما عدد الذين قضوا في الأحداث بعد هذا التاريخ يفوق بثلاثة أضعاف ونصف. وكأننا بالذين قتلوا بعد 14 جانفي لا قيمة لزهق أرواحهم ولا متابعات لمن تسبب في قتلهم.
ألفت النظر إلى أن مجلة العقوبات العسكرية كان قد تم تنقيحها بعد الثورة بموجب مرسوم غير مصادق عليه من البرلمان، لكن ما زال يُعمل به حتى الآن. في نفس الوقت تم تنقيح الفصل 22 من قانون 82 المتعلق بتركيبة المحكمة العسكرية التي تنظر في القضايا التي يحال فيها الأمنيون اليوم. الأمر الذي يعني أنه كان هناك توجه ما لتحميل الأمنيين مسؤولية ما جرى دون منحهم إمكانية الدفاع عن أنفسهم. فكيف يمكن لمحكمة أن تقصي إمكانية أن الأمن عندما يستعمل السلاح لا يكون في حالة دفاع شرعي عن النفس، علماً أن الفصل 50 من مجلة الإجراءات الجنائية يوجب على القاضي البحث بالتساوي باتجاه البراءة والإدانة؟ لكن هذه المحاكم ذهبت فقط باتجاه الإدانة على أساس مرسوم صدر بعد الثورة واعتبر كل المتوفين قبل 14 جانفي شهداء. مع ذلك المحكمة العسكرية في الكاف أقرت في حيثية من الحيثيات بأن المظاهرات السلمية قد تخللتها أعمال شغب من أفراد اندسوا بين المتظاهرين. لكن لم نر ترجمة لهذا المعطى في الأحكام حتى الآن. ورغم أن محكمة الاستئناف العسكرية قد سعت بكل جهدها لمعرفة الحقيقة من خلال إصدار مئات الأحكام التحضيرية، مع ذلك لم تتوصل لإثبات الإدانات.
رغم كل ما سبق وذكرت ولم أذكر، ما زال المتهمون وعائلاتهم يرون بصيص أمل في النطق بالحكم بعد 11 ابريل/نيسان الجاري في قضايا تونس والكاف وصفاقس، حيث ستجري يومها جلسة الأعذار التي كانت قد أجلّت من أجل اطلاع محكمة الاستئناف العسكرية على التقارير الدسمة التي قدمها محامو الدفاع. فعسى خيراً، ولننتظر ونرى.
خامسا، بالمناسبة، ما تتفضلي به يتيح لي طرح السؤال الذي يطرحه كثيرون عن أسباب ودوافع اهتمامك بهذا الملف؟
بداية، أنا هنا في تونس أقف بمنأى عن الاعتبارات السياسوية والمشاحنات الفئوية التي تخض الطبقة السياسية التونسية والشريحة الحقوقية. ما يهمني هو مراقبة ما يجري والمساهمة بما استطيع من أجل حسن مسار الانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية. أعتبر عموماً أن الحقوقي الحق والمتابع الجدي لأوضاع حقوق الإنسان معني بالبحث عن الحقيقة أينما كانت ومهما كلفه ذلك من ثمن. وحيث سبق وأن تابعت أوضاع حقوق الإنسان في تونس سنوات قمع نظام بن علي، أجد نفسي مدفوعة للاهتمام بما يجري بهذا البلد الذي يعيش صيرورة انتقال ديمقراطي خلفته ثورة الكرامة وتحدي إرساء عدالة انتقالية متينة. إني أهتم بتونس مثلما اهتممت بأقطار أخرى من العالم العربي الذي جبت أطرافه للدفاع عن حقوق البشر وإلقاء الضوء على معاناتهم ونقل صوتهم. صفحتي على الويب شاهدة على ذلك.. أعتبر أن الحقوقي شخصية عابرة للحدود الضيقة انطلاقاً من امتياز حقوق الإنسان بالكونية والشمولية والحيادية، وبأن هويتي عابرة للقارات وليست محدودة بمكان نشأتي أو إقامتي.
اسمح لي أن أعبر عن أسفي لاستنتاج أن الدفاع عن القيم الإنسانية النبيلة أصبح في ذهن الكثيرين بضاعة للبيع والإثراء. قد يعود ذلك لوجود البعض من النشطاء في بعض الجمعيات ممن خلطوا بين الدكاكين والبيزنس الشخصي وبين النضال الحقوقي. لكن من الخطأ تصنيف الكل في نفس الخانة وتعميم الجزء على الكل. يمكن أن أتفهم الحد الذي بلغته صورة النظام السابق في الوعي الجمعي العام والذي يقتضي حسب هذا الفهم التشفي والانتقام من رموزه. لكن وعيي الحقوقي يتجاوز التقييمات الانطباعية أو السياسية نحو ما هو أسمى وبما يرتبط بمفاهيم قيمية مطلقة. اهتمامي بالمحاكمات العادلة والإنصاف وإبراز الحقيقة وقرينة البراءة هي القيم التي تقودني في هذا المجال.
عندما كنت على سبيل المثال لسنوات خلت اذهب للدفاع عن قيادات الأخوان المسلمين في مصر في ظل نظام يطاردنا ومحاكمات عسكرية تترصدهم، لم يكن سوى قلائل يجرؤون على ذلك. فهل كنت أتعاون حينها مع مخابرات أجنبية أو أقبض ثمن ذلك لأني دافعت عن حقهم في محاكمة عادلة ؟ دافعت عن حقهم في محاكمة عادلة وليس عن فكرهم كونه لا يعنيني. وفعلت ذلك في أماكن عدة. ولو كنت ممن تقودهم مصالحهم الشخصية لاستجبت لدعوة رئيس الجمهورية المؤقت للعمل معه دون وضع شروط، ونحن الذين شاركنا بتأسيس جمعية وعملنا معاً في العمل الحقوقي تطوعاً سنوات طوال.
سادسا : تعقيبا على ما تذكرين، كنت التقيت برئيس الجمهورية المؤقت الدكتور المرزوقي زميلك السابق في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، كما بنشطاء حقوقيين عرفتيهم سابقا في تونس، الم يسهل ذلك مهمتك الحقوقية مع المساجين السياسيين والامنييين ؟
لا للأسف.. يرى المتهمون أن تأثيراً ما على القضاء قد حصل من طرف سلطة الإشراف المتمثلة في رئيس الجمهورية، باعتباره رئيساً للمؤسسة العسكرية وتوابعها (كالمحكمة العسكرية ونيابتها). وهم يرجون منه أن يلتزم الرصانة والحيادية والموضوعية، بدل إصدار مواقف شخصية وانفعالية من شأنها التأثير في توجيه سير المحاكمات، خاصة وأن الكثير من الحقائق التي تتعلق بثورة 14 جانفي لم تظهر بعد.
كما يعتبر الأمنيون القابعون وراء القضبان أن وزارتهم قد تخلت عنهم ولم تدافع عن قضيتهم رغم عدم توفر اثباتات تدينهم ورغم التزامهم بقانون عدد 4 لسنة 69 الذي ما زال ساري المفعول حتى اليوم. هم يرون أن المحاكمات العسكرية المسلطة عليهم تندرج في سياق المحاكمات السياسية الظالمة، حيث أنهم لم يكونوا إلا أداة لتطبيق وتنفيذ القوانين. ويتمنون أن يأخذ القضاء مجراه بعيداً عن الدعاية والمزايدة السياسية التي تأتي في بعض الأحيان من أطراف حزبية ترغب في عدالة انتقامية، وأخرى تعمل جاهدة لترسيخ عدالة انتقائية عرجاء تضر بالضحايا وبالمتهمين وبالحقيقة وتنال من الذاكرة الوطنية، لصالح أطراف سياسية همها الوصول للحكم أو الانتقام ممن شغله، كلف ذلك ما كلف الوطن والمواطنين.
لقد اتهموا أيضاً أعضاءا من داخل المجلس الوطني التأسيسي لعبوا دوراً مشبوهاً في التأثير السلبي على سير المحاكمات والتدخل في السلطة القضائية. وعوض الاهتمام بمعالجة الجرحى والعناية بعائلات الشهداء، فقد نصبوا أنفسهم قضاة يحق لهم أن يدينوا وأن يحكموا ضد الموقوفين ويصفوهم بالقتلة والمجرمين قبل البت قضائياً في البراءة أو الإدانة. عبّر هؤلاء الأمنيون الموقوفون لنا عن خشيتهم أيضاً من التأثيرات السلبية التي يمارسها محامو الحق الشخصي عند التصريح في وسائل الإعلام والتشهير بهم قبل ثبوت الإدانة، واعتبروا أن هؤلاء المحامين يلعبون دوراً مخلاً بمسارات المحاكمات العادلة والنزيهة والشفافة، كما أن لهم دوراً خطيراً في إلحاق الضرر النفسي والمعنوي بأبناء وبنات وزوجات وعائلات المتهمين. كذلك قالوا أن بعض المحامين أقحموا منظماتهم الحقوقية طرفاً في المحاكمات، بحيث نالوا من حيادية المنظمات التي ينتمون لها وانتهكوا مبادئ المحاكمة العادلة وقيم حقوق الإنسان التي تنبني على قرينة البراءة. في حين أن هذا الوضع يتطلب معالجات مختلفة كي تكشف الحقيقة وتظهر حيثيات وخفايا الثورة التونسية ويأخذ كل ذي حق حقه ولا يظلم أحد زوراً وبهتاناً.
سابعا : ماهي توصياتكم ومقترحاتكم حتى لا تتراكم مجددا انتهاكات حقوق الانسان في تونس والدول العربية ؟
ابدأ بالقول أنه لحسن الحظ أن التجربة التونسية لم تعرف نفس المسار الذي ارتكست إليه الانتفاضات الشعبية الأخرى. وعسى أن تتجاوز مرحلة الخطر نهائياً التي ما زلت أنا شخصياً متخوفة منها. أما ضحايا الثورة الذين قدموا أرواحهم فداءا للوطن أو عاش بعضهم الآخر مع الجراح والتشوهات- وما زال العديد منهم يعيش الفقر والأوجاع والحسرة والإحباط واللامبالاة- فنعتبرهم نحن المدافعين عن حقوق الناس جزءاً مقتطعاً من أكبادنا في عالم عربي مثخن بالآلام والمعاناة. ومن المؤكد أن موقعي منهم ليس إلا بينهم، لكن عبر إظهار الحقيقة مهما كانت قاسية والتي ليس فيها ضحايا آخرون أو أكباش فداء أو ترضيات موهومة لهم. فهم قد ضحوا بأنفسهم لا ليظلم غيرهم ويبقى المجرم الحقيقي يسرح ويمرح بينهم، وقد يعيد إنتاج نفس الانتهاكات في وقت قادم. هناك الكثير من هؤلاء الجرحى وعائلات الضحايا ممن لم يعد يقبل بالقراءات والحيثيات والاستنتاجات والأحكام المسبقة التي قدمت لهم في البداية. كما أنهم يطالبون بعدم الاستمرار في الضحك على ذقونهم والمتاجرة بقضيتهم من بعض الأطراف التي تضغط عليهم، ويرغبون بكشف الحقيقة نهائياً وكاملاً بعد سنوات الانتظار التي طالت كثيراً.
فيما عدا ذلك، أعتقد جازمة أنه من المفترض بحكومات ما بعد الثورة والتي تؤكد على شرعيتها ومشروعيتها بأنها إبنة الثورة أن تكون وفية للمطالب التي حملتها هذه الثورة. أن تترجم تطلعات الشعب التونسي على أرض الواقع وبأقرب الآجال، دون التلاعب بالمفاهيم التي تتعلق بحقوق الإنسان. وهذا لا يخص فقط السلطة التنفيذية، وإنما أيضاً المجلس التأسيسي والقضاة والمحامين والحقوقيين. كذلك يتوجب على المعنيين أخذ البروتوكولات التي تنظم الآليات الحامية لحقوق الإنسان بعين الاعتبار واعتمادها في أقرب الآجال. أما الهيئات الدستورية الخمسة التي أضيفت للسلطات الثلاث الكبرى فيفترض أن تُمنح القيمة التي تستحق في انتخاب حر ومباشر دون ولاءات أو حسابات سياسية. كما يجب تمكينها من القدرات المالية واللوجستية، وتحريرها من الضغوط الرسمية والسياسية والإعلامية التي يمكن أن تؤثر سلباً على عملها.
أيضاً يجب دعم جمعيات المجتمع المدني المختصة بحقوق الإنسان، التي أثبتت الحيادية والاستقلالية عن المال السياسي والأحزاب والأجندات المشبوهة، لتقوم بعملها بشكل أفضل كونها إحدى مقومات مجتمع ناهض وفعُال. أما المؤسسة الأمنية، فيجب تأهيلها بما يتماشى مع ثقافة حقوق الإنسان. وهذا يفترض إجراء إصلاحات هيكلية داخل وزارة الداخلية تدعم هذا القطاع. علاوة على هذا وذاك، من الضروري جداً الإسراع في إصلاح المؤسسة القضائية لبلوغ قضاء نزيه ومستقل ومن أجل تسريع البت بالملفات. فجلّ الانتهاكات في السجون تكمن في تأخير فحص الملفات القضائية وترك المساجين ينتظرون مدداً طويلة دون النظر بقضاياهم. هناك 12 ألف شخص يعانون من الإيقاف طويل الأمد دون إحالة للمحاكمة، وهذا الرقم يساوي نصف عدد المودعين بالسجون التونسية. كذلك، يجب إيلاء أهمية للجنة العفو التابعة لرئيس الجمهورية ولدراسة الملفات ليقع العفو ضمن تصور وفهم واقعيين لوضعية السجين. من الضروري أيضاً تفعيل هيئة حقوق الإنسان وهيئة الوقاية من التعذيب وتمكينهما من الامكانيات المالية واللوجستية من أجل إعلاء مصلحة الشعب التونسي.
ثامنا : ماهو موقفكم من قرار محكمة مصرية اعدام اكثر من 500 من معارضي الانقلاب العسكري في مصر ؟
أولاً، أنا ضد الحكم بالإعدام بشكل مبدئي. ثانيا، في هذه القضية لم يتم الاعتماد على إجراءات قانونية وقضائية عادلة، بل جرى البت بسرعة فائقة بملفات 529 شخصاً اتهموا بقتل شرطي وهجوم ضد مراكز أمن وسرقة سلاح وإطلاق سراح مساجين. فخرجت أحكام مرتجلة بعد جلستين ودون استكمال الإجراءات المرعية، حيث لم يتم الاستماع لمحامي الدفاع أو المتهمين أو الشهود. بما يشكل خرقاً كبيراً لشروط المحاكمات العادلة ويسير عكس الإتفاقات الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان. وحيث ثبت أن القضاء المحلي كان قاصراً أو خارقاً للإجراءات فيمكن بهذه الحال للمحكومين التوجه بالشكوى لمحكمة الجنايات الدولية. لكن اعتقد أن الإستئناف سيعود على هذه الأحكام، إن لم يحصل تدخل من طرف رئيس الجمهورية يعيد الأمور لنصابها ولا يترك الفرصة لمزيد من تشويه صورة القضاء المصري.
مقابلة مع جريدة الصباح التونسية في 8 و9 ابريل 2014
أجرى الحوار : كمال بن يونس
|