لا أخال أن واحداً من تلك الثلة من شرفاء الأمة وأحرار العالم التي تحركت مع عشرات الملايين من عرب وغير عرب في حركة غير مسبوقة لمناهضة الحرب على العراق، وقد انطلقت في مثل هذا اليوم (20/3) قبل 11 عاماً، كان يظن انه يسهم في واحدة من أعظم مواجهات العصر التي أطلقت، وما تزال، من التداعيات الإقليمية والدولية الهامة، والتحولات الكبرى التي نشهدها هذه الأيام من أوكرانيا إلى سوريا إلى إيران والصين وأمريكا الجنوبية مروراً بمعادلة الردع المتصاعد بين المقاومة اللبنانية والفلسطينية من جهة والكيان الصهيوني من جهة ثانية...
ولا أخال أيضاً أن واحداً من تلك "المجاميع" التي بررت العدوان الصهيو – أمريكي، وحرضت عليه، وركبت دباباته، وأعلنت يوم احتلال بغداد عيداً وطنياً... وصفقت لحل الجيش العراقي، وهللّت لاجتثاث البعث، "وشيطنت" المقاومة العراقية الباسلة ولاحقت مجاهديها وقادتها ومناصريها، كان يعتقد أن "القوة العظمى" التي راهن على "خلود" تفوقها، والتي أعلنت حربها على العراق خروجاً عن أبسط مبادئ القانون الدولي، سيتآكل نفوذها، وتتراجع هيمنتها على العالم بهذه الوتيرة المتسارعة كما تظهر التطورات ميدانياً وسياسياً واقتصادياً...
ولا أخال كذلك أن أكثر المحللين تفاؤلاً بأفول النظام الاقتصادي والسياسي العالمي "الجديد" ومركزه واشنطن، كان يعتقد إن احتلال بلاد الرافدين، وقد أراد منه المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية سبيلاً لإنعاش اقتصادهم عبر مصادرة ثروات المنطقة، كما لحماية أمن الكيان الصهيوني، سيتحوّل إلى مصدر استنزاف كبير، اقتصادي وسياسي واستراتيجي وأخلاقي، للإدارة الأمريكية وحلفائها، ومدخلاً لأزمات اقتصادية ونقدية ومالية متلاحقة، وكاشفاً للأزمة البنيوية العميقة التي تعصف بالنظام الرأسمالي، الربوي – الامبريالي العالمي وفي المقدمة منه النظام الأمريكي منه، بل تحولت المقاومة العراقية الباسلة، بغض النظر عمن حاول تشويهها وحرفها عن مسارها الأهلي إلى نموذج يحتذى به على مستوى الأمة والعالم، فجاء انتصار المقاومة اللبنانية الباسلة عام 2006، وبعدها المقاومة الفلسطينية المحاصرة في غزة في حربين، ليتوّج المقاومة التي تصدت للقوة الأعتى في العالم وأربكتها، فبات طبيعياً أن ترتبك بالتالي "القوة الصهيونية التابعة" تحت ضربات المقاومين داخل فلسطين المحتلة وعلى حدودها الشمالية مع لبنان.
وليس افتئاتاً على الحقيقة، أو من قبيل المبالغة، القول إن الحراك الشعبي العربي الذي انطلق في نهاية 2010 على يد أحرار تونس، وتوجّه انتصار ثوار مصر في مطلع 2011، وبغض النظر عما أصابه من تجويف وتشويه، إنما كان واحداً من ثمار مقاومة الاحتلال والعدوان الأمريكي والصهيوني التي عرفها العراق ومعه فلسطين ولبنان، لأنه حين ينكسر حاجز الخوف الشعبي من القوة العسكرية الأعظم في العالم، ومن القوة العسكرية الأعظم في المنطقة، يصبح سهلاً كسر حاجز الخوف من أنظمة استمدت وجودها واستمرارها، وربما "شرعيتها" المزيفة من الاعتماد على ذلك التحالف الصهيو – أمريكي واختارت سياسة تتراوح بين المهادنة غير المبررة وبين التبعية المدانة لهذا التحالف.
بل يمكننا القول أيضاً إن التحوّل التدريجي في موازين القوى، إقليمياً ودولياً، ما كان له أن يتم لولا الوهن الكبير الذي أصاب الإدارة الأمريكية على كل صعيد، وهو وهن ما كان له أن يحصل لولا مقاومة عراقية باسلة انطلقت في أم قصر في الأيام الأولى للحرب، لتنتشر في كل نجود العراق وبواديه وحواضره، وفي جوهرة المقاومة المتألقة، الفلوجة، التي شكلت، مع كربلاء والنجف، بعد عام على الاحتلال عنوان وحدة وطنية عمادها المقاومة، وعنوان مقاومة عراقية ركيزتها وحدة العراقيين، فنجحت في طرد الاحتلال من بلادها، وان لم تنجح حتى الآن في تصفية آثار الاحتلال وتداعياته، بدءاً من الفتنة المذهبية والعراقية، وصولاً إلى دستور المحاصصة الطائفية والعرقية وقد حاكه الحاكم المدني الأمريكي بريمر، مروراً ببقاء آلاف المعتقلين في سجون الاحتلال ممن سجنهم المحتل ولكنهم لم يخرجوا من سجونه بعد خروج المحتل، كما جرت العادة في كل الدول التي تنجح في طرد الاحتلال.
ثم أليست "حرب العراق" ومعها "حرب أفغانستان" ، وبعد 11 سنة على اندلاع تلك الحرب العدوانية مع بلاد الرافدين، الأكثر حضوراً هذه الأيام سواء في خطاب الرأي العام الأمريكي وشهادات قادة البنتاغون الرافضين لزج بلادهم في حرب جديدة ضد سوريا أو أوكرانيا أو غيرهما بذريعة عدم الرغبة في تكرار مأساة العراق أولاً، وأفغانستان ثانيا، أو في خطاب القوى المناهضة للهيمنة الأمريكية التي لا تجد مثالاً أفضل من المثال العراقي لكشف خروج واشنطن وحلفائها عن القانون الدولي وانتهاكها لحقوق الإنسان في كل مرة تحاول الإدارة الأمريكية أن تقدم نفسها كمدافعة عن القانون الدولي، وحقوق الإنسان.
وبالمقابل ألم يكن الانهماك الأمريكي الدامي في العراق، على مدى سنوات، فرصة استفاد منها بوتين، من ضمن فرص أخرى، في إعادة بناء قوة روسيا ونفوذها ودورها المتصاعد في العالم، وفرصة مكنّت، مع غيرها، الصين من أن تحوّل حجم اقتصادها إلى الاقتصاد الثاني في العالم مع احتمالات تقدمه في السنوات القادمة ليصبح الاقتصاد الأكبر، بل فرصة جعلت مع عوامل أخرى العديد من دول أمريكا الجنوبية يخرج من "الحديقة الخلفية" لأمريكا الشمالية ويشق لنفسه طريق الاستقلال والوحدة ناهيك عن تمرد دول البريكس على نظام القطبية الأحادية.
ألم يكن الانشغال الأمريكي خصوصاً، والأطلسي عموماً، وعلى مدى سنوات في مواجهة "حرب" العراقيين عليه بعد حربه العدوانية على العراقيين، هو أحد الأسباب المهمة التي ساعدت إيران على أن تدخل النادي النووي، كما قلت يومها في مهرجان دعم الانتفاضة الفلسطينية في طهران عام 2006، وفي كلمة باسم المؤتمر القومي العربي.
قد يظن البعض في هذا الكلام عزاء لشعب العراق العظيم وهو يقدّم كل يوم العشرات من أبنائه والكثير من عمرانه ومعالم حياته، ضحية تلك الحرب المجنونة الدامية التي تهز كل نواحيه، والتي خطط لها يوماً السفير نيغروبونتي، الذي جاء في "مهمة عاجلة" إلى بغداد وخرج منها بعد أن أطمأن إلى انه قد وضع هذا البلد العربي الهام على سكة الفتن والتفجيرات والصراعات المذهبية والعرقية على أنواعها...
وقد يظن البعض أيضاً في هذا الكلام شماتة ببعض من راهن على الاحتلال وبنى أحلامه على تلك الحرب، أو تقريعاً لكل من ساهم في التحريض والتمويل والتسهيل والتضليل وإسباغ "الشرعية" عليه وعلى إفرازاته سواء في جامعة الدول العربية أو غيرها من المنظمات الإقليمية والدولية، أو حتى تذكيراً بمواقف سليمة وشجاعة لرجال ونساء رفضوا الحرب قبل أن تبدأ، ورفضوا الاحتلال واثاره دون هوادة، ثم دعموا المقاومة العراقية، دون حسابات ودون وجل، وتعرضوا إلى ما تعرضوا إليه من "شيطنة" واتهامات وافتراءات....
الهدف الحقيقي من هذا الكلام أساساً يبقى في الرغبة من إخراج العراق من آثار الاحتلال بعد أن أخرج بمقاوميه الاحتلال نفسه، كما إخراجه من أجواء الانقسام والمحنة والفتنة التي تعصف بمدنه وقراه، بل الهدف هو التذكير الدائم بأنه لا يعقل أن يحقق العراقيون ما حققوه من انجازات عظيمة بوجه الأعداء ثم لا يتمكنوا في الوقت نفسه من إدارة خلافاتهم وصراعاتهم بما يصون وحدة بلدهم وكرامة أبنائه وموارد وطنهم وحياة أطفاله والأبرياء.
بعد أقل من أشهر ثلاثة على احتلال العراق، وخلال الدورة 13 للمؤتمر القومي العربي المنعقدة في العاصمة اليمنية في صنعاء في حزيران/يونيو 2003، وكانت وطأة الاحتلال في العراق جاثمة على القلوب والعقول معاً، أطلقنا ما أسميناه يومها" رباعية الخلاص" للعراق والأمة كلها، والتي ما زالت، في نظرنا صالحة للعراق، ولغير العراق من أقطار الأمة التي تغور في دماء أبنائها.
كانت رباعيتنا يومها تقول "بالمقاومة ، والمراجعة، والمصالحة، والمشاركة" أي مقاومة احتلال الأرض واحتلال الإرادة، ومراجعة التجارب والأخطاء والخطايا التي وقع الجميع فيها، والمصالحة بين مكونات الوطن وتياراته للتفرغ لمواجهة كل التحديات الخارجية والداخلية، وصولاً إلى المشاركة التي تعطي كل ذي حق حقه، وتنبذ الإقصاء والاستئثار والانفراد والاجتثاث والتسلّط والقمع كما تسقط كل مشاريع التقسيم وذرائعه.
فهل يقودنا الخلاص في العراق، إلى الخلاص على مستوى الأمة... تماماً كما نجحت المقاومة العراقية في تغيير قواعد الصراع الإقليمي والدولي فيما هي تسعى إلى تحرير بلدها.
المصدر: المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن 20/03/2014
|