المحاكمات العادلة, الانصاف, البحث عن الحقيقة بعيدا عن الترضيات والصفقات السياسية والشعبوية مفاهيم لطالما ترددت في خطابات السياسيين والحقوقييين بكثرة، لكنها سرعان ما تغيب وتختفي كلما تعلق الأمر بملف الأمنيين المتهمين بقتل الشهداء والقابعين خلف القضبان والمسؤولين السياسيين في عهد بن علي حيث جرت سنة التعامل معها بفكر الادانة المسبقة «مع سابقية القصد» التي اسسوا عليها مجمل تحليلاتهم تناغما مع متطلبات الشارع والتناول الاعلامي للمسألة. ولنا في تقرير بودربالة الدليل الأكبر على ذلك ...
هذا الإجماع جعلنا نتساءل عن سر التوجه المخالف للحقوقية فيوليت داغر رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان في تعاملها مع ما اصطلح على تسميته «الملفات المنبوذة أو الحمراء».
كيف تنظرين اليوم الى المسار الانتقالي في تونس وما يسمى بالعدالة الانتقالية.. ؟
ان هذا المسار الذي سيبقى وفياً لأرواح الضحايا ومخلداً لذكراهم وحريصاً على الأمانة في كتابة التاريخ للأجيال القادمة، وحاسماً في محاسبة المجرمين الحقيقيين، هو وحده القادر على المحافظة على النسيج الاجتماعي من التفكك وعلى أمن البشر وشعورهم بالاطمئنان لمن يحكمهم. كذلك هو الطريق الذي يردع كل من يريد التوغل في دماء البشر واختطاف الحياة وحرمان الآخرين من العيش الكريم، في دولة نطمح ونعمل على أن تحترم ابناءها ولا تغلّب قانون القوة على قوة القانون.
فما نشهده من كوارث وأوجاع على الساحة العربية التي نادت شعوبها في فجر الانتفاضات بالسلمية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، سرعان ما صودرت شعاراتها وتحركانها لتجيّر لمصالح قوى عظمى حوّرت مساراتها باتجاه يخدم فقط مصالح هذه القوى ومن تحميه من قوى الصهيونية العالمية. وحيث الضغينة تولد الضغينة، فقد تواصل الانتقام والاحتراب وتفتيت الصف الداخلي داخل البلدان المستهدفة وأهدرت قدراتها البشرية وارتكبت انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان. وليس من الصعب أن يتكرر المشهد في أي مكان من العالم، كون الآليات النفسية للبشر هي نفسها في كل مكان، كما أن الغرائز والنوازع البشرية التي يمكن تحريكها بهدف التدمير موجودة في كل المجتمعات بالتالي، إن نزع فتيل الانقسامات وحسم الصراعات ينبني على المحاكمة العادلة وإنصاف الضحية والجلاد في آن واحد بالطرق الإنسانية وبالاعتماد على الاستراتيجيات التشاركية وطرق العدالة الانتقالية التي تفضي إلى المصالحة الوطنية البناءة من أجل مستقبل واعد للأجيال الشابة وللاستقرار والتنمية الدائمة وهذا الطريق يساعد في تجنبنا المؤامرات التي تحاك ضد أوطاننا والتي تجلب الدماء والدموع ولا تفضي إلا لإهدار الحياة هباءاً....
فمن خدم في نظام بن علي (أو أغلبهم على الأقل) لم يكن يحمل بالضرورة لوثة رأس هرمه عندما أراد المشاركة في خدمة بلده بإمكاناته المشهود بها. كما لم يكن يخدم نظاماً دكتاتورياً بقدر ما كان يعتقد أنه يخدم دولة ومؤسسات قائمة في وطن يرغب في تقديم الأفضل له ,وعلى فرض أن بعضهم قد تعمد ارتكاب مظالم بحق مواطنيه، فلتكن المحاكم العادلة والنزيهة هي الفيصل، ودون أن يكون مجرد شغله منصباً في السلطة الحاكمة في تلك الفترة سبباً للعنة التي تلاحقه اليوم, ولنا من تجربة سياسة اجتثاث البعث في العراق واستراتيجيات تحويل هذا البلد لدولة فاشلة وتفتيت مجتمعه وتهيئة مناخات انقسامه وجعله عبرة وجب الاعتبار بها وتجنب الأسباب التي قادت إلى مآلاتها ونتائجها...
لو تحدثينا عن الخروقات التي وقفت عندها تونس.. ؟
أعتقد أن الإطارات الأمنية مثلا والمسؤولين الكبار من نظام بن علي المتبقون وراء القضبان ملفاتهم لا تشي بمسؤوليتهم عن فساد أو عن أحداث القتل خلال ثورة 14 جانفي...وهذه الأعمال التي تسببت بها في بعض الأحيان أطراف في الميدان، كانت إما بواعز الدفاع المشروع عن النفس وعن المقرات الأمنية والأسلحة المودعة بها تماشياً مع قانون 69 وتطبيقاته المتدرجة في قمع التظاهرات، أو بفعل سوء تنسيق بين السلطات الأمنية والعسكرية كذلك قد تكون بسبب مندسين غرباء يجهل الشعب التونسي حتى اليوم الأطراف التي حركتهم أو كانت لها مصلحة في استعمالهم لتأزيم الوضع ونشر الفوضى لأغراض لا يعلمها إلا من كانوا في الدوائر المجهولة تلك الدوائر التي عملت على التأثير في مسارات الانتفاضة التونسية وتوجيهها باتجاه آخر حتى وإن اضطرت للتضحية بقيادات ميدانية أو إطارات سياسية.
أحد هؤلاء الأمنيين الميدانيين، والذي يقبع في سجن المرناقية، كان قد اتهم بقتل أحد الشهداء في تالة وحكم ب8 سنوات سجن، رغم تشريح جثة القتيل وثبوت أن الرصاص ليس من النوع الذي كان بحوزة المتهم، ورغم التعرف على المتسبب بالجريمة الأصلي. مع ذلك لم تقع إدانته ولا تبرئة المتهم. فقد كانت الشظية التي أصابت فخذ المصاب غير قاتلة، إلا أن التلكؤ والتباطؤ بفعل الطرق المغلقة وعدم توفير سيارات الإسعاف من طرف وزارة الصحة قد تسبب بوفاة هذا الشهيد، كما العدد الكبير من أمثاله. ولا ننسى أن العديد من الجرحى والشهداء الذين أصيبوا بإطلاق النار كان المتسبب بها مصادر مجهولة، لم تنجح حتى اليوم الأبحاث في كشف النقاب عنها لأسباب وأجندات مشبوهة. ويتساءل المتهم عن العدالة التي تحاكمهم باعتبارهم المسؤولين المباشرين عن سقوط الضحايا، في حين أنهم تعرضوا للنيران المعاكسة والتزموا رغم ذلك مراكزهم ومواقعهم وبقوا يدافعون عنها وقد أصيب العديد منهم بإطلاق النار المباشر عليهم، وقضى بعضهم في أحداث وقعت في ساعات متأخرة من الليل لم تكن فيها مسيرات أو تظاهرات شعبية كما قيل أنه ثابت في شريط الأحداث المرفق بمحاضر الجلسات.
وماذا عن المحاكمات السياسية.. ألا توجد اخلالات في هذا الشأن..؟
هناك وراء القضبان من هم موقوفون في ملفات فساد أبرزهم وزير البيئة السابق نذير حمادة. فهو موقوف منذ 17 ماي 2012 بموجب ثلاث بطاقات إيداع على ذمة قضية تتعلق بالتصرف بأموال وزارة البيئة والمؤسسات التابعة لها والتي تحظى بالاستقلالية المالية والإدارية عن الوزارة وقد صرح أن القضاء قد أخفى وثيقة تثبت عدم مسؤوليته عما نسب له، وعندما أعاد إبرازها اعتبر حاكم التحقيق أن الأوامر التي أعطاها كانت شفاهية وليست كتابية رغم ثبوت براءته الكتابية مما نسب له، ولم يخرجه من السجن. وبالرغم من تبرئة ساحته من تهمة سوء التصرف بأموال الصناديق الرئاسية، ما زال موقوفاً وحيداً في هذه القضية، وذلك بعد إطلاق سراح كل المتهمين الذين استطاعوا طمس الأدلة التي تدينهم ويجاهر حمادة بالطابع السياسي لمقاضاته، ويتساءل كيف يعقل أن شخصين متهمين في نفس القضية يمكث أحدهما بالسجن ويبرأ الآخر؟ وهو يحتج على تمكين نفس الخبراء بصياغة التقارير، وقد ثبت عدم اختصاصهم بالميدان موضوع البحث فضلاً عن تحاملهم عليه؟
نحن نتساءل هنا هل يمكن محاربة الفساد بانتهاج تلفيق اتهامات لمسؤولين دون الاستناد لأدلة كافية والتغاضي عن قرينة البراءة والزج بالمظنون فيهم داخل السجون، في حين لم يحاسب المئات من رموز الفساد؟ لقد هرّبت أموال طائلة إلى خارج البلد دون أمل في استعادتها والاستفادة منها، بينما تستفيد منها البلدان التي أودعت الأموال في بنوكها، وهي جاهدة على أن لا تمكن تونس منها. لا ننسى أن هناك من جرّد من أمواله دون وجه حق وصودرت أملاكه ولم تعاد إليه بعد، رغم الحكم بالبراءة وخروجه من السجن بعد 28 شهراً داخله وسقوط تهم استيلائه على أموال عمومية. هناك أيضاً من يعيش خارج البلد مجرداً حتى مما ورثه عن عائلته وهو محروم من التصرف بأمواله ومن جواز سفره ومن حق العودة للبلد. فأين هي العدالة في كل ذلك، وماذا أضاف قانون العدالة الانتقالية الذي تحول إلى جعجعة تطرح بدورها العديد من الاشكاليات ....؟
قانون العدالة الانتقالية الذي تم الانتهاء من العمل عليه في المجلس التأسيسي وصدر بتاريخ 24 ديسمبر 2013، يجري أحياناً جدل محتدم بشأنه حتى داخل من عملوا على تهيئته. من تلك الاعتراضات انه يتعارض في بعض الجوانب مع الدستور الذي خرج في وقت لاحق، كما لا يتماشى مع مبدأ اتصال القضاء. هو يسمح بإعادة النظر في ما سبق وجرى البت به، لكنه بالمقابل يقضي بمراجعة قضايا لم يجر النظر بها سابقاً وبات بالإمكان اعادة فتح ملفاتها بعد تسلم الهيئة المكلفة عملها. هذا القانون الذي أعطى صلاحيات واسعة لهيئة الحقيقة والكرامة (المؤلفة من 15 شخصاً قد يخضع اختيارهم لاعتبارات ليست كلها بالضرورة موضوعية)، جعل العدالة الجزائية تجد نفسها مكبلة معه. إلى جانب أنه يفتح الباب لتسويات وخروقات في جرائم فساد أو قتل. بما يجعل التخوف مشروعاً من أن ينتهك هذا القانون حقوق الإنسان في وقت أتى ليعالج انتهاكات حقوق الإنسان. ويتخوف السجناء من هذا القانون أيضاً ويعتقدون أنه قانون عدالة انتقامية وانتقائية وليس تصالحية، ويتساءلون كيف تنتصب عدالة انتقالية وهناك عدالة جنائية ما زالت جارية، وكيف لهم المثول من جديد أمام محاكم في نفس القضايا في الوقت الذي قد يبرؤون فيها، وحيث يحتاجون للانصراف حينها لتضميد جراحهم ومعالجة مشاكلهم وترميم عائلاتهم؟
ان مفهوم العدالة الانتقالية لا يمكن أن يستقيم منطقا في ظل قضاء يعمل في منظومة تستوجب بدورها الإصلاح ...فإذا كانت المحاكمة الجيدة تفترض البحث والتدقيق في المعطيات، وإذا كان يجب متابعة الضحايا وعائلاتهم، والاستناد لدور المجتمع المدني في المراقبة، وعدم استغلال الذين سجنوا لإجراء صفقات معهم، وإنصاف الشهداء وكشف القاتلين الحقيقيين، وهي تتمنى أن تنصف المحكمة العسكرية، رغم مؤاخذتها اللجوء إليها، فيما أصدرته من أحكام غير عادلة في المرحلة الابتدائية وفي أطوار البحث الابتدائي وهو أمر منطقي من هيئة قضائية يفترض فيها الإنصاف والمحاكمة العادلة في زمن مطلوب فيه العمل لإصلاح المؤسسات والقيام بالدور الذي يفترض به أن يحمي المواطن ولا يتسبب في انتهاك حقوقه. علاوة على أن الوثائق التي أضيفت مجدداً ضمن وثائق محكمة الاستئناف - بعد أن جرى إخفاؤها كأدلة لصالح المتهمين في المرحلة الابتدائية ولم يتم الاستناد لبعضها وهي التي تبرئ مسؤولية المتهمين باقتراف الجريمة- هذه القرائن وغيرها يجب الاستناد لها لكشف الحقيقة. إن طمس الحقيقة وإخراجها من مسارها يضر بعائلات الشهداء وبالجرحى ولن يساعد البتة في التئام الجراح ولا في انجاز العدالة الانتقالية.
أهداف العدالة الانتقالية مهددة
تخلص فيوليت داغر للقول: للأسف، ما كتب من تقارير لجان تحقيق أو ما شابه لم يستطع إماطة اللثام عن كل ما جرى وذلك لفقدان أدلة هامة واعتماد شهادات من جانب واحد وعدم التدقيق الجيد في المعطيات (من ذلك على سبيل المثال الأخذ باستنتاجات حاكم التحقيق وعدم ايلاء أهمية لشهادات المتهمين في تقرير فريق بودربالة).علماً أن عدم رد الاعتبار للضحايا قد يأتي على عملية الانتقال برمتها، وقد ينسف الأهداف المرجوة من العدالة الانتقالية، وقد يعيد انتاج دورة الاستبداد والقمع من جديد.
مؤلم حقاً – حسب تصريحاتها-أن لا يرى الكثيرون أن انجاز التغيير الحقيقي مرهون بالنضال الدؤوب وبما تصنعه عقول وقلوب أبناء وبنات هذا الوطن مجتمعين غير متفرقين. وأن الفعل التغييري يفترض انفتاح الأطراف المختلفة على بعضها واستيعاب الاختلاف والتفاعل فيما بينها لخلق عناصر جديدة ترسي قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية ودولة القانون وتحدث النقلة المطلوبة باتجاه المجتمع المدني الديمقراطي الحق.
إذا كان الانتقال الديمقراطي في تونس لم يتعرض لارتجاجات كبيرة جدا بالمقارنة مع ما حصل من تحولات كارثية في بلدان عربية أخرى، فهل يتعظ الناس ويسيرون بالاتجاه الذي يقتصد العنف ويوفر الدماء؟ وكي لا ننام ونصحو في كل يوم مع الحزن والخوف واليأس، يجب أن يستوعب التونسيون خطورة المرحلة، بعدما تحولت الأحلام والآمال العظام مع ما سمي بالربيع العربي لكوابيس وكوارث تطوقنا من كل الجوانب.
حاورتها: نورالهدى
الموقع: جريدة الصحافة التونسية 12/03/2014
|