صراعنا مع الصهيونية على فلسطين وليس على طابع إسرائيل
إن جوهر صراع الفلسطينيين والشعوب العربية مع الصهيونية ومشروعها، هو فلسطين، وهو أبعد شأنًا من أن يكون على طابع إسرائيل. والأمران ليسا سيّان بأي حال. كما وليس مفروغًا منه الخطاب السياسي القائل بأن أحدهما يغذي الآخر أو يؤدي إلى الآخر، أو أن المسارين يتوافقان، بل إنهما كما أعتقد مختلفان جوهريًا.
إن معركة صمود الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وبقائهم في وطنهم بعد العام 1948 واستعمار فلسطين ونكبتها، هي في المحصلة معركة على الوطن وعلى الحق الفلسطيني. وما حمى الحق وعزّز الوجود هو الكفاح الشعبي المتواصل وليس المواطنة الإسرائيلية التي فرضت قسرًا.
حين أعلنت جماهير الشعب في الداخل الفلسطيني بقياداتها الكفاحية المتمثلة بـ "اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية" الإضراب العام يوم 30 آذار 1976، كتصعيد نوعي هو الأكبر بعد 1948، وذلك ضمن معركة التصدي لمشاريع التهجير ونهب الأرض وتهويد ما تبقى وتحويله لملكية المستعمِر ولأولئك الذين سوف يستقدمهم المستعمِر مستقبلاً من أنحاء العالم، فقد واجهت اسرائيل قرار الإضراب بقوّاتها العسكرية وليس حتى البوليسية، وذلك لأنها كيان قمعي استعماري، ولأنها أدركت القدرات الكفاحية الهائلة لهذه الجماهير، وأوهمت نفسها بأن جبروتها العسكري سيكسر إرادة هذه الجماهير !
بنظرة تاريخية، فقد شكّل يوم الأرض معركة على الجوهر، على الوطن، فلسطين، وعلى تحرير الإنسان لإحقاق الحق، وعلى الحق وليس على الحلّ. لأن أحد المعايير لتبنيّ الشعب الضحية لقيم المستعمر وطغيانه، هو أن تقوم الضحية بتقديم "الحلول" والصيغ إلى مائدة المستعمر، كي يخفف من وطأة سياسته. إن الحق هو كما أسمه ولا حلّ الإ بإحقاقه. فلا يوجد نصف حق كما لا يوجد نصف غبن أو نصف قهر أو نصف استعمار ! ولذلك كان من الأهمية ضمن موقف وسلوك لجنة الدفاع عن الأراضي بأنها لم تقدّم الحلول للمستعمر بقيادة حكومة رابين-بيرس الأولى، بل طرحت الحق بالدفاع عن الأرض وحمايتها من المصادرة وتمسّكت بهذا الموقف. وعندها، وجدت جماهير شعب بكاملها تتجنّد وتحمي الحق، وذلك رغم الثمن الباهظ المقدم بأرواح الشهداء والجرحى والطرد من العمل والملاحقات. لقد شعرت الناس بكرامتها الوطنية والإنسانية في أقوى تجلياتها، وعززت حضورها في وطنها.
صحيح أن الجماهير الشعبية صانعة يوم الأرض، لم تقصد أن تحمّل على إضرابها أبعادا كبرى، سوى المعركة لوقف مصادرة الأراضي وحماية وجودها في وطنها. لكن وبما أن هدفها العيني وقع في صميم الحق الفلسطيني، فقد تضاعف مع الوقت أثر فعل الجماهير سواء فلسطينياً أم عربياً أم عالمياً، دون شك تضاعف مقابل اسرائيل، إذ كبح بشكل ملموس جماح سياسة نهب الأرض والوطن والإنسان والتي تضمنتها "وثيقة كيننغ"، مسؤول لواء الشمال في حينه.
إن قوة القهر لا تحترم إلاّ قوة الشعب، لأنها في لحظة ما تهابُها، وتبطل مفعول قوة القهر أمام الإرادة الشعبية. صحيح أن إسرائيل قد أثبتت أنها لا تتورّع عن شيء... لكن الأهم بالنسبة لنا، هو أنها لا تستطيع كل شيء... أي بالإمكان ردعها، وهذا يعود لقرار الشعب وكفاح الشعب الفلسطيني أولاً، وبناء عليه من الضرورة الكفّ فلسطينيا وعربيا على مستوى النخب الحاكمة، "السجود" لقوة اسرائيل. وعلى صعيد السياسة المحلية، ليس صحيحًا تهويل الناس بـ "قوة اليمين الفاشي" أو "الترانسفير". فإسرائيل غير قادرة على هذا حتى ولو ملكت آلة التهجير. والتهويل من خطر اليمين هو للاستهلاك السياسي، لكنه مطبّ خطير، لأن الخطر الأكبر والذي مورس ويمارس مصدره التيار المركزي الحاكم الذي يرسم السياسات ويطبّقها على أرض الواقع. اسرائيل لا يمكن أن تكون غير ما هي من حيث الجوهر. ولو نظرنا إلى ستة عقود ونصف من نجاح مشروعها الاستعماري، فإن اسرائيل لم تصبح في يوم من الأيام أكثر عنصرية أو أكثر استعمارية ولا أقل، لا بعد 1948 ولا بعد 1967 ولا في العام 2013. وهناك حقيقة أن القوانين العنصرية التي يجري التهويل لها، قد تمّ تطبيقها فعليا قبل تشريعها، وحتّى حين تمّ في حالات معينة منع تشريع قانون ما، فقد تمّ تطبيقه أيضا كسياسة، من خلال إجراء التفافي لذات الجوهر. أما بخصوص تلك الشخصيات من رموز العنصرية والإرهاب الإسرائيلي فهم جميعهم ودون أي استثناء، ليسوا مصدر العنصرية والتصعيد، بل هم الأبناء الشرعيون لإسرائيل والصهيونية، وممارسات الدولة أقسى وأكثر عنصرية من كل أقوالهم واستفزازاتهم. وحين نردعهم، علينا أن نذكر أنهم اسرائيل وليسوا استثناء. إن الموروث الكفاحي ليوم الأرض يؤكد قدرتنا كجماهير وكشعب على ردعهم وإسقاط مخططاتهم.
إن شعبًا اكتوى ويكتوي بنار النكبة والاستعمار والعنصرية مطالب أن تبقى بوصلة كفاحه نحو الجوهر. نحن شعب تاريخه الحديث هو تاريخ كفاحه ضد الاستعمار والصهيونية. نحن شعب لا نيأس من إحقاق الحق، حتى حين يبدو بعيدًا عن المنال، ولا حين يطغى منظور الهيمنة وتوازن القوى المضلّل، وإلا فلن نستعيد الحقّ يومًا. وشعبنا قادر على استعادته بكفاحه التحرري وبمساندة الشعوب العربية وقوى الحرية في العالم. كما أن أي مسعى لاختزال طريق الكفاح ومساراته، أو التخلي عنه، سيقودنا إلى المتاهات وليس إلى الحق.
لا نبالغ إذا حدّدنا يوم الأرض بأنه الحدث الأكثر أثراً لدى فلسطيني الـ 48 وكفاحهم بعد النكبة. وهو يلتقي ببعده التاريخي مع أحداث كبرى سبقته أو تزامنت معه، ومنها انطلاقة حركة التحرر الوطني الفلسطيني ومشروع التحرير وسطوع نجم الكفاح الفلسطيني، والذي شكل كفاحًا عالميا من أجل فلسطين ومن أجل الحق والحرية في العالم، ليستلهم من ثورات التحرر الوطني العربية وفي العالم.
كما شكّل يوم الأرض نقطة تحوّل كبرى على مستوى الناس والقيادات. وليس صحيحا القول أن القيادات قد خافت من قوة الجماهير، فهذا الحديث لم يكن عفويا، بل أن يوم الأرض 1976 كان حدثا منظما على مستوى قطري وعلى مستوى محلي ومناطقي وعلى مستوى أصحاب أراضٍ... الخ. بل أن مسار اتخاذ القرار بالإضراب رغم محاولات السلطة وأعوانها بمنعه بكل الوسائل قد شكلت أساسا لإنجاح الإضراب... الناس انطلقت والقيادات والمؤسسات القيادية انطلقت أيضا وقد جرى تحوّل كبير ونوعي في تبني فلسطينيي الـ 48 بجموعهم "قواعد لعبة" خارج الهيمنة الإسرائيلية، بل في مواجهة هذه الهيمنة والتحرر من أسرها. وازداد التوتّر المنطقي بين قواعد لعبة قائمة على المواطنة كمحور وأخرى قائمة على أصحاب الوطن كمحور.
المواطنة والتجزيء
يزداد وزن "المواطنة" الإسرائيلية لفلسطينيي الـ 48 حين تتعامل مع القضية الفلسطينية بمنظار تجزيئي، كما لو كانت مجموعة قضايا منفردة، اللاجئين في المنفى، وفلسطينيي الـ 48 وفلسطينيي الضفة والقطاع. كما أن تجزيء الرؤية الفلسطينية هو إستراتيجية استعمارية للهيمنة ولتشتيت الشعب الفلسطيني وكفاحه واستنزاف قدراته على تفاصيل كثير منها غير جوهري، ولصالح إلغاء الحق الفلسطيني الأساس بالوطن وعلى الوطن.
بيد أن هذا التجزيء والشدّ على التركيز على "المواطنة" يتغذى أيضا من النخب الفلسطينية المهيمنة على القرار السياسي الفلسطيني، كما ويتغذى من أنظمة العجز العربي، التي ليس فقط أنها لا تحمي الشعب الفلسطيني وحقه، بل تريد أن تحتمي بمواطنة فلسطينيي الـ 48 من سطوة حكام اسرائيل، وتتعامل مع هذا الجزء من الشعب الفلسطيني كما لو كان دوره التاريخي وكيلاً لهذه الأنظمة للتطبيع مع اسرائيل.
وهو ما ترفضه هذه الجماهير قطعيّا. وما حدث في انتخابات كنيست اسرائيل 2013 هو خير دليل على ذلك، فقد قامت الجامعة العربية بالإلحاح والاستغاثة بفلسطينيي الـ 48 أن يشاركوا بجموعهم في الاقتراع للكنيست الإسرائيلي. ولم يحدث أن وجّهت جامعة الدول العربية يوما، نداءً كهذا إلى أي شعب أو جمهور في العالم العربي، وما حدث لا يمكن اعتباره غيرةً على فلسطيني الـ 48، بل هروباً من تحمل الجامعة العربية مسؤولياتها. فالنظام العربي الذي لا يحترم شعبه لن يحترم شعب فلسطين. إن هذه النخب وهذه الأنظمة تريدنا أن نكون "مواطنين إسرائيليين" وليس "شعب فلسطين" كما كل فلسطيني آخر في الوطن والشتات.
وفي هذا السياق وعشية الانتخابات الإسرائيلية المذكورة وبالتزامن، بالصدفة أو بغير الصدفة، مع الجامعة العربية، دعت الصحيفة العبرية وباللغة العربية لأول مرة فلسطينيي الـ 48 بنداء "أخرجوا وصوّتوا" وبلغة استعلائية لا تتحدث الصحيفة بمثلها مع أي قطاع من الجمهور الإسرائيلي، وقد فعلت الصحيفة ذلك حرصاً على الصهيونية وشرعية إسرائيل.
إن يوم الأرض قد انتصر. وما زرعه فلسطينيو الـ 48 في هذا الحدث، أصبح ثقافة مقاومة وملهماً للكفاح في مواجهة ثقافة العجز الحاكمة في النظام العربي. وقد أحسنت منظمة التحرير الفلسطينية قراراً في حينه عندما أعلنت أن يوم الأرض هو يوم الشعب الفلسطيني.
لم يكن يوم الأرض بداية الطريق الكفاحي لا للشعب الفلسطيني ولا للداخل الفلسطيني، فالكفاح ضد المشروع الصهيوني لم يتوقف يوما منذ وضع أسس استعماره في فلسطين، لكن يوم الأرض بالتأكيد هو حدث مؤسّس لمرحلة ما بعد يوم الأرض ولجيل يوم الأرض والأجيال القادمة. ولا نذكره من باب الحنين والتغنّي بالبطولات، بل أن أجيالا كاملة استلهمت منه في الوطن والشتات وفي العالم العربي والعالم. وبشكل خاص الأجيال الصاعدة وهذا ضمانة للمستقبل بأن ثقافة الكفاح ومشروع الكفاح هو الأقصر لإحقاق الحق.
كما أن قيام لجنة المتابعة العليا في الداخل الفلسطيني بإحياء هذا اليوم سنويا وبالاستلهام منه في معركة البقاء والصمود والدفاع عن الأرض والبيت والوطن، ليست أمرًا مفروغا منه، بل هي نتاج قرار كفاحي وثقافة كفاحية متراكمة. والتفاف الناس الهائل حول يوم الأرض هو دلالة على قوة وتنظيم وصلابة هذا الجمهور وهذا الشعب وعلى القدرة العظيمة حين تحلّ إرادة الشعب أصحاب الوطن. وليس مبدئيا النقاش حول شكل إحياء فعاليات يوم الأرض، وإنما المبدئي هو مواصلة إحيائه في الثلاثين من آذار وفي كل يوم والقناعة الذاتية بأن هذا الشعب لا يعرف المستحيل.
*أمير مخول : أسير فلسطيني، ومدير جمعية اتحاد الجمعيات الأهلية "إتجاه"، ورئيس لجنة الحريات المنبثقة عن لجنة متابعة شؤون فلسطيني 1948 العليا
المصدر: الثورة، 17/03/2014
|