لعل الأيام ستذكر أن تلك البلاد الصغيرة المرتمية في أحضان التاريخ حينا والجغرافيا حينا آخر، ستلج التاريخ حتما من بوابتين، بوابة اندلاع أول ثورة بعد انقضاء عهد الثورات ويأس الناس منها، وبوابة الوفاق المجتمعي ممثلا في تحقيق مصالحة وطنية عبر إنجاز تاريخي يتمثل في دستور جديد حمته الأغلبية من كل طوائف المجتمع.
لقاء التاريخ والجغرافيا. تونس الأمس استبداد وفساد ودولة أمنية عاثت في الأرض إفسادا، سقط الرأس واندلعت ثورة كتب لها أن تكون عاصفة تجاوزت الحدود وأربكت الأجندات، ورسمت على الأرض نشيد الحرية وكرامة الإنسان 'اذا الشعب أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر'تونس اليوم لقاء بين التاريخ والجغرافيا، لقاء بين الأضداد، وأحلام ترسم مخيالها على أرض لا زالت تحمل ولاشك ذرات من رمال متحركة...
قصة تونس الثورة والدولة هي قصة عبور بين الأشواك والورود، بين صفائح من حديد حار ومياه عذبة تنساب، هي قصة الأمل يختمر في زجاجة صغيرة حبلى بالمفاجآت...إن ثقافة قوم وميولاتهم ومواقفهم يحددها بعد تاريخي حاسم ومساحة من الجغرافيا، فيتأسس لدى القوم تجانس يشكل مسار فعل وتفاعل ويبني شكل المجتمع وينحت علاقاته. لقد كانت تونس ولا شك ملتقى الحضارات وكانت نقطة جغرافيا مميزة فتعقبت عليها الأجناس والأفراد والجماعات لتشكل مع التاريخ صفة مميزة للشعب التونسي أنه شعب مسالم غارق في هويته يتطلع إلى الآخر و يتعارف معه في صيغ وفاقية لا تنزوي ولا تندثر. التونسي عربي مسلم بالفطرة والتاريخ ومنفتح على الآخر وذلك نصيب الجغرافيا في تشكله.الدستور والمحطة الحاسمة في المسار الثوريإن كتابة الدستور الجديد يمثل ولا شك محطة هامة في القطيعة مع عهد الاستبداد والفساد، ويمثل تطورا ملحوظا وحاسما مع دستور الجمهورية الأولى الذي كان دستور فرد بأقلام الجماعة، كان بورقيبة رجل تلك المرحلة وزعيمها فرسم دستورا حمل ولا شك جديدا حدثيا ودفعا ملموسا في مستوى البعد التعليمي والصحي، ولكنه لم يمنع سقوط الدولة البورقيبية في مستنقعات التفرد والاستبداد السياسي، فكانت دولة الرئيس مدى الحياة ودولة المعارضة المعدومة والحريات المقموعة.كانت هذه البوابة مفتاح شر للعهد الذي تلاه فخيّر الرئيس الثاني تحويرا اضافيا ومتكررا للدستور حسب مقاسه ومصالحه ومصالح أسرته، فتتالت التنقيحات حتى أصبح الدستور عند البعض قطعة جبن مثقوبة ومقضومة من كل أطرافها.إن الدستور الجديد لا يحمل ورديته الكاملة وتميزه في مضمونه، فهو دستور وفاقي وغلبت في بعض مراحله الترضيات والاسقاطات وحمل ولا شك نقائص وتناقضات، ولكن تميزه كان خارج اطار المضمون بما مثله من اجتماع وتوافق بين الأضداد. كان الدستور محطة حاسمة في مسار انطلق من حوار وطني أطلقته رباعية من المنظمات كان على رأسها الإتحاد العام التونسي للشغل وهو أكبر النقابات التونسية تاريخا وحاضرا، فكانت محطة الدستور حلقة من مسارات ثلاث تتلازم، استقالة الحكومة وتعيين حكومة جديدة، وإطلاق لجنة الانتخابات بما تعنيه من آليات وتحضير وتحديد المواعيد الانتخابية القادمة.
إن الفرحة والابتهاج التي تلت اعلان ختم الدستور الجديد والمصادقة عليه، مفهومة ومقبولة لدى النخبة ولدى العامة، فقد طال المخاض ومرت التجربة بمحطات، مأسوية في بعضها تخللتها أول اغتيالات سياسية تشهدها الأرض التونسية، وشهد المجلس التأسيسي أحوالا تتراوح في بعضها بين 'السرك' وبين المناورات السياسية، فاكتشف الشعب التونسي وعلى المباشر صورا هزلية عند البعض من نوابه ولمس عن قرب سقوط البعض في مستنقعات الانقلابات الناعمة.التجربة المصرية مرت من هنا لعلنا لن نتفاجأ حين نقرر أن التجربة المصرية كانت درسا للخارج أكثر من الداخل، وأن التطورات المأسوية لها كانت في أعلى عناوين كراسات السياسيين في تونس. كان الانقلاب المصري على الشرعية أملا عند البعض وكابوسا عند البعض الآخر، كان سحب البساط من الاخوان في مصر واسقاط حكومتهم رجاء البعض من المعارضة التونسية، التي عملت جاهدة على تكرار التجربة المصرية في تونس واسقاط دولة حركة النهضة والقفز لاحقا إلى مرتبة تسيير البلاد. كانت هناك قناعة عند بعض الأطراف أن الصندوق لا يضمن وصولهم إلى سدة الحكم ولا بد من تجاوز هذه العقبة ولو على بساط من الجروح والدموع، ولو بعيدا عن الحلم الديمقراطي وكرامة المواطن. سقطت اطراف من اليسار والليبراليين في هذا الفخ وانقلبوا على مبادئهم وثوابتهم الأيديولوجيا وتنادوا همسا الى انقلاب على الشرعية ولكن الصدى اندثر في صحراء التيه... غاب الجيش عن المعادلة وبقي الشعب على الحياد ولعل الاجندات الخارجية رسمت طريقا آخر للحل.كانت التجربة المصرية أيضا كابوسا عند حركة النهضة، التي تنتمي إلى منظومة الاخوان، سقط الأصل فيجب حماية الفرع...اعتنقت النهضة منهجا آخر لتفادي السقوط وارتياد السجون والمنافي من جديد، كانت سياسات التنازل منهجية الانقاذ...
تنازلت حركة النهضة فصادقت على مراحل الحوار الوطني بعد نبذه، اعتبرت حزب نداء تونس حزبا محترما بعد ان اعتبرته مجمعا للتجمعيين القدامى أزلام النظام السابق، رضيت باستقالة حكومة شرعية وتعيين حكومة كفاءات، فتخلت عن الحكومة دون ان تتخلى حقيقة عن الحكم كما صرح رئيسها الشيخ راشد الغنوشي، مسلسل طويل من التنازلات والترضيات في البعض من فصول الدستور حتى أن أحد فصوله تأسس ترضية لخصومة وقعت بين نائب نهضاوي ونائب يساري على خلفية التكفير. جولة انتهت ولكن الانقلاب لم تنقض احلامه لعلها واقعية عند البعض، لعلها هزيمة وفشل عند البعض الآخر، ولكنها في نهاية المطاف أنقذت تونس وقتيا ومرحليا من السقوط في جحيم الحروب والمآسي والتشبه بالحالة المصرية الحزينة...
ولكن إن تونس قد صدرت فعلا ثورة وأحبطت محاولات انقلابات ناعمة، قد لا تستورد تونس اليوم انقلابا، لكن من الضامن أن لا تستورده غدا وكيف؟؟ تساؤل يقض مضاجع الكثيرين لأن فرحة المصادقة على الدستور لا تلغي التوجسات والمخاوف، لا تنحي امكانات الزيغ والانحراف. ان فرضيات السلام الأهلي والأمن والأمان والاستقرار لا يحمل خيوطها كلها الشعب التونسي أو الخيرين من أبنائه...
لكن الأجندات متنوعة ومتعددة! من يضمن أن مرحلة الحكومة الجديدة لا تطول ويصبح المؤقت مستديما؟ لقد مثل وصول حكومة الكفاءات جزء من المسارات المتفق عليها والتي حددت مهمتها الأولية الوصول بالبلاد الى تنظيم انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة؟ من يضمن أن الاستقرار الحالي الهش لا يهتز على أصوات اغتيالات أو انفلات أمني جديد أو فتنة اجتماعية أو انتفاضة خبز وعيش جديدة؟ من يضمن أن أزلام النظام السابق وفلوله لا يعودون من جديد وقد بدت بوادر ظهورهم الجريء تتوالى زيادة على أن منظومة الاستبداد والفساد لم تسقط وتندثر كما سقط رأسها؟ كل ذلك يجعل ان امكانية الانقلاب الناعم لم تتلاشى نهائيا وتبقى احدى الفرضيات المزعومة خاصة وأن القرار التونسي الوطني ليس المحدد الوحيد في هذا المجال.
هل انتهى النموذج الى نهاية صياغته، صياغة جديدة تجمع بين الأضداد والمختلفين ايديولوجيا في توافق ثقافي ومجتمعي بين علمانيين وإسلاميين، بين حداثيين وأصوليين، هل هي الرسالة الجديدة للعالم العربي والإسلامي والدولي على ان الاختلاف ليس نقمة ولكنه رحمة في السياسة وحكم البلاد؟ انها الفرادة التونسية ولا شك ولكنها فرادة جلبت معها تخلي أصحاب القبعة عن قبعتهم وأصحاب العمامة عن عمامتهم ليصبح اللقاء خارج لعبة الأيديولوجيا أو هكذا يظهر للعيان. ولكن هل حقيقة اختفت الأيديولوجيا في التجربة التونسية فتميزت عن التجربة المصرية ولم تستورد انقلابا؟ أم أن الأيديولوجيا كانت حاضرة ولا تزال تسير المشهد ولو من وراء مناورات السياسة ودهاء السياسيين ولكن بجبة الناسك الزاهد أو المصلحي الانتهازي من أجل عودة النظام المخلوع بوعي أو بغير وعي؟
المصدر: تورس 12/02/2014
|