أعرف أن أكثر من معتذر سوف يغضب ويقول: وأين فشلت روسيا ولم هذا التشاؤم؟ لكني لست متشائماً وإنما أكتب في باب قد غاب عن عدد من الآخرين. وسبب كتابتي هذه هي كي نفهم حقيقة سياسة روسيا وما يمكن أن تفعله وما لا يمكن أن تفعله مما يمكننا من حساب السياسات المقبلة في منطقتنا وما هو واقعي في التوقع وما هو خيالي في الإمكان.
مقدمة تأريخية
وقبل الدخول في موضوع أوكرانيا وما حدث ويحدث فيها وتعلق ذلك بالسياسة الروسية لا بد أولاً أن نعرف شيئاً عن أوكرانيا وعلاقتها بروسيا تأريخياً لإرتباط ذلك بما يحدث اليوم، أي بمعنى آخر إن فهم تأريخ أوكرانيا يسهل فهم ما يجري اليوم! وقد يكون هذا أكثر إلحاحاً للقارئ العربي من فهم قضايا دول أخرى لأن المواطن العربي قد تم حجبه عن تأريخ الشعوب التي قد يجوز إصطلاحاً تسميتها بالشعوب السلافية وذلك لأن غسل الدماغ الصهويني للإنسان العربي خلال سبعين سنة، والذي أثر بشكل أو بآخر على كل العرب، أدى إلى عدم إهتمام العربي بشكل عام بتأريخ وثقافة هذه الشعوب رغم أهميتها لنا. ودليل ذلك أن روسيا التي دعمت قضايا الأمة العربية لخمسين عاماً لم تتمكن من إدخال لغتها في مناهج التعليم في العالم العربي حتى قررت سورية إدخال تعليم اللغة الروسية هذا العام وذلك بسبب العزلة والهجمة الصهيونية التي تعرضت لها وليس بالضرورة بسبب إدراك قيمة الثقافة الروسية للإنسان العربي!
إن الترابط التأريخي والثقافي بين الروس والأوكرانيين اليوم يمكن تتبع جذوره في الدول الإتحادية التي قامت من تجمع قبائل السلاف الشرقية والتي استمرت بين القرن التاسع والقرن الثالث عشر وامتد سلطانها بين بحر البلطيق والبحر الأسود في بعض فترات عزها. وتستمد شعوب روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء اليوم تأريخها من تلك المرحلة. ولعل أهمية تلك المرحلة تكمن في أن مدينة كييف كانت عاصمة تلك الدولة حيث لم تكن موسكو قد ولدت بعد.
وحين زالت تلك الدولة فإن أرض أوكرانيا التي نعرفها اليوم مرت بقرون من التقسيم والهيمنة من قبل دول أخرى ولم تقم دولة أوكرانية بالمعني الذي نعرفه اليوم حتى القرن العشرين. أي بمعنى آخر إن دولة أوكرانيا اليوم، شأنها في ذلك شأن العديد من دول أوربا الحديثة، لم توجد سابقاً بالشكل الذي يحاول البعض تصوير وجوده التأريخي. ففي القرن الخامس عشر كانت أرض أوكرانيا مقسمة بين مملكة بولندة الني حكمت الشمال وبين حكم التتار الذي ساد في شبه جزيرة القرم. وبعد انهيار بولندة وتقسيمها في نهاية القرن الثامن عشر تم تقسيم أوكرانيا بين روسيا التي كانت لها الحصة الأكبر والدولة المجرية النمساوية التي كان لها القسم الغربي من أوكرانيا التي نعرفها اليوم. ثم أسست دولة أوكرانيا الحديثة بعد نجاح الثورة البلشفية عام 1919. إلا أن الدولة المعروفة اليوم نشأت بعد الحرب العالمية الثانية عندما أمتدت لتضم أجزاء كانت في بولندة قبل ذلك ثم ضمت شبه جزيرة القرم عام 1954 لتقوم أوكرانيا الحديثة، ضمن الاتحاد السوفيتي. وقد لا يكون مستبعداً أن يعاد تقسيمها من جديد لكن هذا ليس موضوع هذا المقال كي نتوسع فيه.
وقد كان طبيعياً بسبب هذه النشأة المشتركة أن اللغة الروسية واللغة الأوكرانية إشتركتا في الجذر قبل أن تنفصلا وتتطورا كما تطورت اللغة الأسبانية عن البرتغالية. وهذا الترابط له أثر مباشر على العلاقة بين الشعبين. فقد سكن وعمل عدد كبير من الروس في أوكرانيا خلال الدولة السوفيتية وأصبحت اللغة الروسية اللغة الرسمية لكن الأهم أنها كانت لغة التعليم الرئيسة.
وقد وقع نوع من التقسيم خلال تلك المرحلة السياسية فقد تركزت الصناعات السوفيتية في شرق أوكرانيا وأصبح أهل الشرق أكثر ميلاً للروس بينما أصبح غرب أوكرانيا أبعد عن الروس وأكثر تحمساً لتبني اللغة الأوكرانية والإبتعاد عن الروسية. ولا يخفى على المتابع اليوم أن يرى الانقسام بين شرق أوكرانيا التي تميل لروسيا وبين غرب أوكرانيا التي تميل لأوربا. إن سكان شرق أوكرانيا يعتقدون أن أهل غربها هم في حقيقة الأمر ليسوا أوكرانيين إذ ان قلوبهم هي مع بولندة، ويشيرون إلى أن لغة أهل الغرب فيها من البولندية الكثير.
ما الذي تريده روسيا؟
إن حقيقة أن لروسيا قاعدة بحرية مهمة في ميناء سواستبول في البحر الأسود من شبه جزيرة القرم ليس قليل الأهمية بالنسبة للدفاع عن مصالح روسيا في ذلك البحر شبه المغلق. لكن خطورة أوكرانيا بالنسبة لروسيا أبعد من هذا الميناء بكثير. فأوكرانيا تقع في خاصرة روسيا جغرافياً ويسكن ويعمل مئات الآلالف من أبنائها في أوكرانيا ويرتبط اقتصاد البلدين ارتباطاً قوياً منذ المرحلة السوفيتية رغم انفصال أوكرانيا عام 1991. لذا فإن محاولة الغرب (بالمفهوم الأوسع) للتغلغل في أوكرانيا يثير مخاوف روسيا من أنه حلقة أخرى من حلقات تطويق روسيا وإحتوائها... وهي المحاولات نفسها التي ما زالت قائمة قبل نشوء النظام السوفيتي وأثناءه وبعده.. وإلا فكيف يمكن تفسير هجوم نابليون على روسيا وهي لم تكن شيوعية أو تحمل فكراً معادياً لبقية أوربا؟
وروسيا في حيرة من أمرها. ذلك لأن قادة روسيا اليوم جادون في تبني النظام الراسمالي بعد نبذهم للماركسية والشيوعية. وهم لا يقدرون أن يفهموا لماذا بعد كل ذلك ما زالت أوربا متوجسة منهم وتسعى لإحتوائهم. ويبدو لي ان الأمر سهل الفهم، وأعجب لعدم فهم القادة الروس له.
ذلك لأن الرأسمالية في كل مرحلة من مراحل التأريخ لا بد أن يكون لها ضابط يتحكم بها ويديرها فهي ليست حركة عشوائية يحركها السوق كما يدعون بل هي حركة منظمة وموجهة. والرأسمالية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تديرها الصهيونية العالمية إذ أن الصهيونية هي أعلى مراحل الرأسمالية العالمية. وهذا يعني أن من يريد أن يكون له نظام رأسمالي لا بد أن يخضع للهيمنة الصهيونية ليس فقط في الإقتصاد ولكن في السياسة والعسكرة والمجتمع وكل شيء. ومن لم يرغب في أن ينتظم في هذا فإنه سيحارب حتى وإن كان يسير في الإقتصاد الرأسمالي ويتبنى إقتصاد السوق الحركما يسمونه، وهو ليس حراً!
وهكذا يجد الروس أنهم مهما فعلوا فهم في موضع الدفاع عما يفعلون وإيجاد الإسباب له.. بينما لا تجد الولايات المتحدة وأوربا السائرة في ركاب الصهيونية العالمية حاجة لأن تفسر أي عمل تقوم به فهي بحكم نظرية سيادة الصهيونية سائرة على الطريق السليم للرأسمالية. وسبب عجبي لعدم مقدرة القادة الروس على فهم هذه الحقيقة هي أنها ليست المرة الأولى التي يجري هذا فيها. ذلك لأن الحرب العالمية الثانية لم تكن بين النظام الرأسمالي والنظام الماركسي بل كانت داخل النظام الرأسمالي نفسه. فألمانيا كانت دولة صناعية في طليعة النظام الرأسمالي، إلا أن هتلر أدرك أن عليه من أجل الديمومة أن يسير تحت القيادة الصهيونية للإقتصاد الرأسمالي فرفض ذلك فحجموه فثار عليهم وخرب النظام قبل أن تعيد الصهيونية الرأسمالية المهيمنة على مصارف العالم ترتيبه من خلال إلغاء الديون كما تشاء وتحديد قيمة العملة بأي شكل ترغب.
لكن القادة الروس، والذين تنازلوا في كل مرحلة سياسية خلال السنوات العشر الماضية بعد أن أعادوا ترتيب البيت الروسي في السنوات العشر التي تلت سقوط الإتحاد السوفيتي، ما زالوا غير قادرين على إستيعاب هذه الحقيقة. فقد حاولوا إقناع الصهيونية أنهم لايشكلون خطراً على مصالحها وان كل ما يطمعون فيه هو نوع من التفاهم الذي يحفظ أمن روسيا ومصالحها مقابل إعترافهم هم بمصالح الصهيونية العالمية. إلا أن ذلك لم يفلح فقد نصب الدرع الصاروخي في بولندة وليس على أرض الولايات المتحدة ليهدد أمن روسيا... وتغلغلت الصهيونية العالمية في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية مستعينة في ذلك بعض الشيء بالسلفية الإسلامية التي تجندها الوهابية لصالح المشروع الصيهوني العالمي.
وحين تساهل الروس في موضوع خراب ليبيا فقد استفحل الداء وبوشر بتنفيذ خراب سورية بعد أن خرب العراق في العقد الذي كان فيه الروس يجرون أنفاسهم للخروج من نظام إلى نظام. وكل هذه المشاريع تشكل تضييقاً على روسيا ومصالحها في الشرق ليس بسبب أن روسيا تريد قاعدة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط ولكن بسبب أن المياه الدافئة هي حلم روسيا من أيام القياصرة لأنها هي المتنفس الوحيد لها وإن منعها منها هو تطويق لا يمكن لأية قوة عالمية أن ترتضيه. فما دام الروس غير راضين بأن يكونوا جزءاً من المشروع الصهيوني العالمي فإن تبنيهم للرأسمالية ليس كافياً لإخراجهم من العزلة والطوق...
إن على الروس أن يفهموا أن كل حديثهم عن "الحلفاء الأوربيين" كما يحلوا لهم أن يشيروا للصهاينة في كل مناسبة ليس كافياً لإرضاء أولئك إذ أنه لا يمكن للروس أن يتبعوا سياسات مستقلة عن المشروع الصهيوني فإن فعلوا فهم ليسوا في المشروع الرأسمالي العالمي، أما إذا دخلوا فيه فليس هناك من مشكلة إذ أن الدرع الصاروخي في بولندة سوف يكون جزءاً من الدرع الصاروخي الذي يحمي الصهيونية من خطر صيني أو إسلامي منتظر كما يصورون... كما أن انضمام أوكرانيا إلى أوربا الغربية لن يكون ضد روسيا لأن روسيا ستكون قد اصبحت جزءاً من المشروع.
وهكذا فإن حصيلة تجربة أوكرانيا تتلخص في أن أي نظام سياسي في العالم لا يقبل بالهيمنة الصهيونية حتى وإن كان نظاماً رأسمالياً فلن يقبل منه ذلك بل إنه سوف يحاصر ويهدد ويبتز حتى يقر بولاية الصهيونية السياسية المطلقة..
لا شك أن روسيا التي خسرت هذه الجولة سوف تسعى لإسترجاع شيء من نفوذها في أوكرانيا عن طريق القروض وبيع الغاز الذي تحتاجه أوكرانيا بسعر منخفض مما يساعد إقتصادها المنهار في وقت لا تستطيع أوربا فيه أن تقدم دعماً مادياً كبيراً.... إلا أن هذا لن يكفي فقد كان عليها أن تدرك أبعاد ما سيحدث قبل عام وتسعى لتداركه... فأي تدارك الآن وأي إتفاق سوف لا يقلل من الهزيمة السياسية لروسيا.
بعد كل هذا يبقي سؤال مهم يجب على كل من يهتم في منطقتنا بما تفعله روسيا أن يسأله: ترى هل إن روسيا سوف تسلك السلوك نفسه حين يتعلق الأمر بسورية إذا ما تعرضت لغزو أو تدخل خارجي معلن أم أنها ستسلك طريقاً أكثر صرامة يقبل حتى إحتمال المواجهة وأن تجعل ذلك معروفاً للطرف المغامر الآخر؟ وإذا كانت روسيا قد وقفت تتفرج لمدة عام على ما يحدث في أوكرانيا مع ما لها من ارتباط سياسي وعضوي بالمصالح الروسية، هل ستفعل الشيء نفسه مع سورية؟؟
28 شباط 2014
|