في تشخيص الوضع السوري، لافتٌ تخبط بعض التيارات العربية المحسوبة على الخط التقدمي، وتقّلبّها من تقدير الى آخر وفق تطورات الوضع وتغيّراته. فمن ثورة شعب ينتفض على مستبديه انتقلت هذه التيارات، في مرحلة أولى، إلى نظرية أخرى تحوّل «الشعب» فيها إلى طوائف بفضل «لعبة» سياسية ذكية قام بها النظام.
وفي مرحلة ثانية، ونتيجة تفاقم حدة الصراع الإقليمي وبروز الأدوار التركية والقطرية والسعودية والروسية والإيرانية، لمحت هذه التيارات «جنوحاَ خارجياً» للأزمة السورية. فانتقل أصحابها هنا الى تبصيرة جديدة تتحدث عن مخطط أميركي يستهدف تدمير سوريا دولة وشعباً بعد النجاح في تدمير العراق والسودان وغيرهما.
على وقع الأحداث ترقص السردية «الديموقراطية» ومفرداتها: فمن ثورة، انتقلنا إلى صراع أهلي، فأزمة سورية، فمسألة سورية. من «شعب» يصارع سلطة مستبدة انتقلنا إلى طوائف تتقاتل. من شعوب تنتفض لكرامتها إلى مؤامرات تسعى قوى عظمى من خلالها إلى تدمير دولنا. من الأولوية للداخل ولترتيب البيت الداخلي عدنا الى لغة المؤامرة الخارجية. تحوّلٌ يشي، على الأقل، بغياب قراءة صحيحة ليس فقط لطبيعة الصراع الجاري، بل ربما لحقائق العمران البشري وحدوده الجغرافية حتى. لهاثٌ وراء الحدث لا يمكن أن يقود إلا إلى مزيد من التضعضع والغموض والمواقف الارتجالية.
على أي حال وبرغم هذه الانتقالات في «وعي» الوضع والصراع وما كانت تفرضه، منطقياً، من تغييرات في التموضع، بقي هؤلاء في مواقعهم الأولى يردّدون اللازمة الأولى نفسها القائلة بضرورة «تغيير النظام» المسؤول عن هذه النتائج الوخيمة. فالنظام، برأيهم، يتحمل المسؤولية في نجاح «المؤامرة الخارجية» لأنه قمعي ولم يتنازل للشعب. هل كان عليه أن ينتحر مثلاً للقضاء على المؤامرة؟ هل كان عليه أن يقدم سوريا إلى من كان يريدها لكي يتفادى «المؤامرة»؟
أياً يكن أمر السلوك السوري الرسمي مع «المؤامرة»، الدلائل التي تشير حقاَ إلى أدوار خارجية لا تسعى الى الحسم ولا تعطي أي فريق إمكانية الانتصار النهائي، موجودة ولا يمكن إنكارها. وهي دلائل لا تقتصر على سوريا وحدها بل تمتد لتشمل دول «الربيع العربي» كافة. فالخطاب واحد، والتوقيت واحد، والأدوات البشرية والتنظيمية واحدة. أما إذا كان الهدف تدمير سوريا فلا يمكن أن يكون هذا الهدف قد «طرأ» فجأة على بال «المتآمرين» بل هو نتيجة سياسة مخططة معدّة بإحكام. فكيف تجلت هذه «المؤامرة» وبأي أدوات؟
حركة «التغيير» التي لا نعرف عن اسمها الكثير، سوى «الربيع العربي»، سعت منذ البداية إلى «إسقاط الأنظمة» من أجل «الحرية والكرامة». سمعنا أشياء غير واضحة في البداية، بسبب «عفوية التحرك»، عن الاستبداد الذي لم يعد مقبولا في عصر «الديموقراطية» والانتخابات. قيل «إن الشعوب تقرر». تحدثت الانتفاضات العفوية عن «حقوق الانسان» و«دولة القانون والحق» وضرورة وجود الدساتير المؤسسة.
على الصعيد الرؤيوي والفكري سوّق الربيع لنفسه إذن بواسطة خطاب حقوقي - دولتي، يتمحور حول الديموقراطية كبديل لـ«الاستبداد الشرقي». لماذا هذا الخطاب بالذات؟ هل لأن الغرب الاستعماري، الذي يعرفنا جيداً، يعرف أنه في ظل تركيبة اجتماعية تتميّز بسيطرة الجماعات القرابية، كل شعار ديموقراطي، حقوقي، أو سلطوي بحت، سوف يخلق صراعات أهلية تناحرية كبيرة؟ هل لأن الجماعة القرابية الأكثر عدداً، دينية كانت ام رحمية، سوف تتمسك بهذا الشعار لكي تقلب الغلبة القديمة وتقيم غلبتها الجديدة؟ من هنا مثلاً تسمع كثيراً عن «المظلومية السنيّة» لا عن مظلومية الشباب العربي العاطل من العمل مثلا، مع أن المظلومية الأخيرة تستأهل اليوم ألف «ربيع» جدّي.
القرابات الحاكمة، أقلّوية أم لا، شعرت بالخطر على وجودها من خلال هذه الطروحات الديموقراطية. وبما أنها لم تصل، لا هي ولا ضرائرها، إلى درجة تطور تاريخي يتيح الانتخاب والفرز على أساس المواطنة التي تشكل الشرط الفعلي لإمكان التصويت «العصري» غير «الطبيعي» وغير «الأهلي»، فإن الديموقراطية بالنسبة لها لا تمثل غير انتقال الغلبة والمُلْك إلى القرابة الخصم. العراق ولبنان واليمن أمثلة حيّة.
الخطاب «الديموقراطي» إذن لم يكن بريئاً من دم هذا الصدّيق. وهو من أدوات «المؤامرة» التي عاود البعض اكتشافها. ففي غياب مجتمع ناجز وتام، كل شعار يثير النعرات التناحرية بين القوى الاجتماعية في الداخل ولا يوحِّدها يكون هدفه استثارة الصراع الأهلي، التدمير والتفتيت. وأي تدمير أهم من تدمير الاجتماع البشري ذاته؟ على أي حال لا يمكن أن يكون للخطاب الديموقراطي حالياً أي هدف آخر غير هذا، ذلك أنه لو كانت الديموقراطية تعبيراً داخلياً عميقاً، يترجم حاجات اجتماعية عربية صرفة، لما كان وُوجه برعاية أميركية وقطرية وتركية، ثم سعودية، بل لكان واجه أشد العداء والتآمر.
الخطاب لم يكن إذن عفوياً وما الأداة التنظيمية، التي ما لبثت أن ظهرت للعيان بعد فترة قصيرة من «العفوية» إلا الدليل. «الإخوان المسلمون» وظهيرهم «السلفيون» طلعوا أصحاب المشروع الديموقراطي المزعوم. «الإخوان» المدعومون إقليمياً من الثنائي القطري - التركي في طبعة الربيع الأولى، ثم من السعودي في طبعته الثانية. بعد فشل «الإخوان» بالمهمة انتقلنا الى القوى «الديموقراطية» الأكثر راديكالية كـ«داعش» و«النصرة» و«القاعدة».
فإذا سلمنا بصحة نظرية المؤامرة التي تستهدف تفتيت الدول العربية عامة وسوريا، خاصة، لجاز القول إن «الربيع العربي»، بشعاراته وتنظيماته السياسية، لم يكن غير وسيلته الرئيسة. وإلا لأضحى فهم المؤامرة من الأسرار المغلقة. فالأنظمة الموجودة لا يمكن ان تكون هدف المؤامرة ووسيلتها في آن معاً. أما إذا صحّ كل ذلك، أي أن الهدف هو تدمير سوريا والدول العربية، فالاستمرار في خطّ يستمد مفرداته من خطاب «المؤامرة»، وتحالفه من تحالفاتها خيار خاطئ، هذا إذا سلمت النيات. فشعارات «إسقاط النظام» و«الانتقال الديموقراطي» شعارات تنخرط الآن في إطار خطة التفتيت والتشظي.
إن من يدرك أن ما يجري لم يعد «ثورة»، أو لم يكن ثورة بالأصل، بل مخططٌ لتدمير بلاده عليه أن يتوقف، وهذا أضعف الإيمان، عن حكي التغيير الداخلي الآن لأنه يساهم بالتدمير. مواجهة التدمير لا يمكن أن تكون أيضاً بالوقوف على الحياد بين «متخلّفَيْن» اثنين: النظام الاستبدادي والقوى التكفيرية السعودية. المؤامرة، إذا كان هناك من مؤامرة، تستدعي الالتفاف حول جميع القوى التي تواجهها وتواجه أدواتها. ولا يمكن الانسحاب منها أو الوقوف على الحياد أو الحياد الإيجابي لمصلحة «المعارضة غير المسلحة» أو الانحياز بصراحة إلى قوى التفتيت تحت ستار أن الشيعة أو الإيرانيين سوف يستفيدون إقليمياً ومحلياً من مواجهة المؤامرة. لا يمكن بطحُ المؤامرة بالوقوف ضد الذين يقفون بوجهها ومع الذين يشكلون أدواتها الفعلية على الأرض.
ولنكن صريحين أكثر، لأن التشخيص الصحيح ولو كان مؤلماً أحيانا يعيننا أكثر على تخطي الواقع بدلاً من التلطي خلف الكلمات. لنسلم جدلاً بأن الأميركي لعب بذكاء الورقة الشيعية في المنطقة لكي يحرض السنّة ويفتت دول المنطقة، كما يحاول البعض أن يوحيَ بشكل خجول وغير مباشر، فهل أفضل مواجهة للنفوذ الإيراني هي في التحالف مع المشروع السعودي الوهابي؟ هل أفضل بديل تقدمي اليوم هو بالوقوف مع أدوات المشروع الأميركي أياً كان هدفه سواء التفتيت أو تجديد سيطرته عبر قوى اكثر شعبية من السابق؟ وهل يمكن المساواة بين من يحمل مشروعاً مستقلا لدولته ـــ وإن تفاوض مع الأميركي - وبين من يتصرف كأداة له أو كزوج مخدوع؟
أغلب الظن أن العامل الإيراني وبسبب التاريخ والجغرافيا والتركيبة القرابية الدينية لا يمكنه توحيد العرب حتى ولو جرّهم إلى مشروع تحرري. لكن توحيد العرب وتحررهم وبناء دولتهم المستقلة لا يمكن بالتأكيد أن يمر بالصراع مع الإيرانيين خصوصاً، وهم في مرحلة تحرر. كما لا يمكن العرب أن يتحرروا إذن من دون القيام ببلورة مشروعهم التحرري الاستقلالي الخاص بهم. لكن من المؤكد أيضاً أن هذا المشروع التحرري لا يمكن ان يكون لا طائفياً ولا سعودياَ.
لقد صار من البديهي أنه لا يمكن العرب أن يتقدموا من دون بناء دولة موحدة وصاعدة، من دون الاستقلال وفك التبعية عن العالم الغربي الاستعماري. فكيف إذا كان هذا المشروع تابعاً لهذا الغرب ومستفيداً من دعمه المباشر او غير المباشر.
أصحاب سردية «التغيير الديموقراطي»، بتنقلهم ولهاثهم خلف تطور الأحداث، فاتهم حتماً أن التغيير في الدواخل القطرية لم يكن هدف الصراع ولا مضمونه، ما نراه اليوم يثبت بوضوح أن الصراع كان ولم يزل صراعاً على المنطقة وثرواتها ومواردها وموقعها الجغرافي. فالتركي والقطري والأميركي والإيراني والسعودي لم يدخلوا الحلبة الآن بل كانوا في أساسها وقبل «تسلّح الثورة» و«اختطافها»، الذي تغيّر ربما هو فقط «وعي» الصراع لا أكثر. بقي أن نعي موقعنا الحقيقي فيه والأولوية في المهمات.
إن تبني سردية «التغيير الديموقراطي» من قبل التيارات التقدمية العربية قاد اليوم، مرة جديدة، ليس فقط إلى عزلتها وخيباتها المتكررة بسبب تضييعها للهدف الفعلي المطلوب التصدي له، التحرر الوطني، بل أيضاً وخصوصاً إلى تضييع فرص بناء دولة عربية صاعدة. القوى السياسية التي تفشل في تحديد طبيعة الصراع والتحديات الحقيقية، فتختار أهدافاً خاطئة، تفشل في قيادة شعوبها وتنتهي باتهام الشعب نفسه بالتخلف والفشل.
المصدر, صحيفة السفير اللبنانية / 20/12/2013
|