هناك مؤشرات لبداية تبلور حالة جديدة ومتجدّدة من الكفاح الشعبي الفلسطيني في الداخل ومستوى المواجهة مع المشروع الصهيوني. جديدة لانها تتزامن مع حضور جيل جديد يحمل الراية متحديا "كل شيء"، ومتجددة للتأكيد بأنها نتاج فعل كفاحي تراكمي طويل وشاق لم يبدأ من اليوم. انها المعركة الفلسطينية على النقب والتي يقودها بجدارة فلسطينيو الـ 48، وهي تمثّل جوهر القضية الفلسطينية ومعركة على الوطن.
في مواجهة مشروع استعماري استيطاني يهدف الى اقتلاع حوالي ربع السكان الفلسطينيين الحاليين في النقب (حوالي أربعين ألفا) وتهجيرهم، ومصادرة ونهب غالبية أراضيهم (ثمانمائة الف دونم) لصالح المجتمع اليهودي المستوطن، واقامة عشرات البلدات والمزارع بروح المشروع الصهيوني.
ويمكن ايجاز المؤشرات المبشرة بمرحلة جديدة بما يلي :
1. انها معركة شعب خارج حدود المواطنة والمساواة (حتى وان استخدمت بعض ادوات المواطنة القسرية). انها كفاح من اجل حماية الحق بالوطن والبقاء فيه والحفاظ على أهله المقيمين وعلى حق اهله اللاجئين، ورفض المخططات التي أصبحت قانونا (قانون تنظيم توطين البدو في النقب- قانون برافر) لاستعمار واستيطان ما تبقى من الوطن، وضمن مساعي الصهيونية الحالية لاضعاف الوجود العربي الفلسطيني فيه والقضاء على اي حق فلسطيني عليه.
2. انها معركة شعبية متواصلة وبنَفس طويل يطغى عليها طابع التصعيد والمراكمة والتحول من حالة احتجاج الى حالة مقاومة شعبية. والفرق بين الحالتين هو جدي. فالاحتجاج في جوهره هو عملية رفع الصوت ضد مخطط او سياسة او اجراء حكومي والمطالبة بالتراجع عنه او تغيير الوضع او تعديله. واجمالا يجري الاحتجاج ضمن التزام بقواعد اللعبة القانونية والتشريعية المعمول بها، وهي مرحلة ضرورية واساسية لخوض الكفاح وتصعيده والتّمرس فيه.
اما المقاومة الشعبية فيشهد عليها التحوّل، حين لا يعود بمقدور الاحتجاج العادي بتعريفه الآنف، تحقيق المردود المرجو منه، وهذا ليس بسبب الطاقات الكفاحية، وانما حين يصعّد الجهاز القمعي عنفه القانوني والتنفيذي لدرجة تتطلب من الشعب الضحية كسر قواعد اللعبة وليس العمل ضمنها. اي التحرر من قواعد اللعبة القاتلة المفروضة.
في المقاومة الشعبية هناك رفض للقانون نصّا وتشريعا وتنفيذا والسعي ميدانيا وشعبيا لمنع تنفيذه على أرض الواقع، والاستعداد لدفع الثمن والقدرة على إرغام دولة القهر على دفع الثمن بالمقابل والنيل من ردعها القمعي وخلق حالة ردع شعبي لها، وهذا ما وجد تعبيرا عنه في عمليات اغلاق الشوارع الرئيسية ومفارق الطرق (يومي 13/7/15 و 8/1) وبالذات خارج منطقة النقب في الجليل ووادي عارة حيث تمّ التعبير عن ثقافة كفاحية وحدودية بمفهوم ان المسؤولية عن حماية النقب وأهله الفلسطينيين العرب وحقهم فيه هي مسؤولية كل جماهير شعبنا وليس فقط الضحايا المباشرين.
ان هذه التطورات واعدة وهي مؤشر للمستقبل، ومن هنا جاء استهداف الشرطة وجهاز الأمن العام للناشطين والناشطات الشباب.
ومن الانصاف التأكيد في هذا السياق على دور النواب العرب في الكنيست الاسرائيلي والذي كان مُلهِماً، وشكّلت عملية تمزيق قانون التطهير العرفي (قانون برافر) من على منصة الكنيست حدثاً ومشهداً معنويّاً، ورغم رمزية الخطوة التي قاموا بها جماعياً فإنها مؤشر لاستنفاذ معيّن لمفعول قوانين اللعبة الإسرائيلية القائمة والحاجة الى أدوات جديدة والتخلص من محدوديّة أدوات اللعبة القائمة. فالتحوّل من الاحتجاج الى المقاومة الشعبية ليس ملموساً بالضرورة في اللحظة الانتقالية لكن الاختلاف في قواعد اللعبة ملموس.
3. تميّزت معركة النقب وخلال عقود بكونها بعيدة عن مركز الحدث السياسي الفلسطيني في الداخل وبضعف الحركة السياسية المنظمة في هذا الجزء من الوطن، ومع هذا لم تتوقف يوماً بل سارت في مسار تصعيدي بدءاً من صمود أهل النقب المهددين بالاقتلاع ومساعي تنظيم أنفسهم بلوغاً الى ما نشهده في العقدين او الثلاثة الاخيرة من تحوّلها وبشكل منهجي الى معركة الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل وفي هذه المرحلة فان عنوانها اضافة الى اهالي النقب وقياداتهم العشائرية والحزبية فان عنوانها الاوسع هو لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية التي تعاملت معها كخط المواجهة الامامي مع المشروع الصهيوني، ونجحت في استقطاب الدعم المحلي والعالمي وبلوغاً الى أنها أصحبت مسألة محوريّة في احياء فعاليات يوم الأرض سنوياً وفي مواجهة سياسة الهدم والاقتلاع بالبناء والتثبيت في الأرض وبلوغا الى الاضراب العام للجماهير العربية الفلسطينية في الداخل (7/15) ومظاهرات (8/1) وما رافقهما من اغلاق الطرق وتعطيل حركة السير، وأيضا بلوغا الى حالة نادرة لكنها واعدة في الثقافة السياسية الفلسطينية وهي تنظيم فعاليات ومظاهرات تضامن وتقاسم الهمّ في كل من غزة والقدس ورام الله والشتات في بعض مواقعه مع نضال شعبنا في فلسطين 48. ولهذا ايضا دلالات بشأن طبيعة حركة التحرر الوطني الفلسطيني وآفاق مستقبلية ممكنة لو توفرت الإرادة وهي أن مركز الثقل الكفاحي يتحدد على أساس طبيعة المقاومة الشعبية، وحين يكون الموضوع في جوهر وصلب القضية الفلسطينية.. وقضية النقب هي عودة كفاحية الى الثوابت التاريخية والى جوهر الحق الفلسطيني.
4. لقد تحّول النقب من منطقة لها حدود جغرافية وفيها قضية هامة ندافع عنها، الى حيّز يجمع كفاح الفلسطينيين في الداخل ويجمع حوله النضال الفلسطيني في الوطن والشتات وتنطلق المبادرات والحملات والاجتهادات على تنوّعها وتلتقي حول النقب وجوهر الحق بالوطن.
5. في المقاومة الشعبية كما في كل أشكال المقاومة والكفاح التحرري يحدث في نقطة ما كسر قواعد اللعبة التي يهيمن بموجبها النظام المستبد على ضحاياه. وإن كانت الحركة الصهيونية بكل تياراتها قد طالبت (إن لم نقل فرضت على) الفلسطينيين العرب مواطني اسرائيل "باحترام" أدوات اللعبة الاسرائيلية والدمقراطية الصهيونية وسعت لكي يتبنّوا ذهنية خاضعة قائمة على مبدأ "التغيير من الداخل" و"احترام القانون" كقيمة عليا، وتغييره (حتى وان كان عنصريا) فقط بأدواته !! اي استحالة تغييره، فإن النضال الحالي يتميز برفض شرعية القانون الإسرائيلي حول النقب ومقاومة تنفيذه والمنظومة المنبثقة عنه حتى اسقاطه على أرض الواقع وبالكفاح الشعبي. ومع الإدراك الواعي بأن تشريع قانون عنصري استعماري كهذا انما يؤكد وجود النظام العنصري الاستعماري. فالقانون من طبيعة النظام والدولة وفاقد للشرعية.
ليس هذا القانون والمخطط استثناءً في المشروع الصهيوني، فهو يرتبط برابط منطقي منهجي واضح المعالم مع النكبة والتطهير العرقي (وبالذات ما عرف فيها بخطة "د" الاجرامية للتطهير العرقي) واحتلال الوطن ونهبه عام 1948، ومع مخطط تهويد الجليل (مخطط كيننغ) الذي كشف عنه عام 1976 لمصادرة الأراضي وبناء المستعمرات والحدّ من الوزن السكاني العربي الفلسطيني في الجليل والذي ردعته مقاومة يوم الأرض (1976)، ويرتبط مع الاملاءات الاسرائيلية الامريكية والمساعي لفرض اعتراف فلسطيني وعربي باسرائيل كدولة اليهود ودولة يهودية وتطبيعها عربياً.
6. ان سعة الاستعداد الجماهيري وبالذات الشبابي الواسع لدفع ثمن المواجهة والمقاومة الشعبية، تجعل أثر العقاب الجماعي والفردي أضعف، وعمليا تؤدي الى ابطال مفعول آلة الردع والترهيب الاسرائيلية.
هناك اتساع في حالة التعددية وتراجع مفهوم المركزية في دور لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل، هذه الهيئة ورغم نقاط الضعف الجديّة تبقى الكيان السياسي الجماعي المرجعي الجامع للنضال الوطني لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني. فإضافة للأحزاب والحركات السياسية التي شكلّت مركّبات لجنة المتابعة وعكست تعدديتها، فهناك حركات وحراكات شبابية ومبادرات وحملات جديدة، ليست ممثلة في تركيبة لجنة المتابعة لكن أثرها ملموس ودورها يزداد محورية. وإن شكّلت هذه الحركات حتى فترة معينة رافدا لتنفيذ قرارات لجنة المتابعة والحضور الشبابي الواسع في المظاهرات والمسيرات والفعاليات الوطنية، فما يحدث مؤخرا وبرز بشكل جلّي في معركة النقب، هو أن هذه الحركات والحراك أخذت تتعامل مع قرارات وأنشطة المتابعة كفضاء شعبي واسع أو حيّز كفاحي كي تطلق مبادراتها وحملاتها وتطرح سقف تطلعاتها وتسهم في رفع سقف الفعل الوطني الى مواجهة ومقاومة شعبية. وهذا الشكل من التنظيم المركزي المحوري (لجنة المتابعة) والسعة للمبادرات التصعيدية، فيه طاقات كفاحية ورافعة نوعية للعمل الشعبي.
إن الحراك الشبابي لم يعد مشارك في تنفيذ القرارت فحسب، بل أيضا أصبح له دور في تصميم الحدث وصنعه وبهذا الدور يستقطبون طاقات شبابية جديدة وتتسع الحلقة.. إن هذه النخب الشبابية تنتمي الى مختلف فئات المجتمع دون استثناء، وهذا مؤشر للحالة الشعبية الجديدة والاستعداد الكفاحي الواسع للتصعيد.
كما أن هذا التطور وجد تعبيراً عكسياً عنه في شراسة ودمويّة قوات الأمن الإسرائيلي في تعاملها مع إضراب النقب وإغلاق الطرق وسياسة الترهيب والقمع الجسدي والقانوني.
حذار من مساعي الترويض
كما علّمتنا التجربة فمن المحتمل أن نشهد تصعيداً في سياسة التهريب الإسرائيلي والملاحقات السياسية واستخدام الاعتقالات والمحاكم الإسرائيلية لاستهداف الشباب بالذات وروحه المقاومة، فما يجري في أنحاء الوطن يخيف اسرائيل والمشروع الصهيوني برمّته. وفي هذا السياق جدير الادراك بأن جماهير شعبنا في الداخل محميّة بكفاحها وصمودها في وطنها، وكذلك لأنها نجحت في فضح اسرائيل وجوهرها وممارساتها عالميا ولنا دور مركزي في حركات المقاطعة الدولية ومناهضة التطبيع العربية. كما ان فلسطين الـ 48 أصبحت معركة الشعب الفلسطيني كله.
كما أن جماهير شعبنا ونتيجة لدورها ودور خاص لمؤسسات المجتمع المدني نجحت في تحويل جزء من ارتباطات اسرائيل وعضويتها في محافل دولية (الشراكة الاورومتوسطية ومنظمة الدول المتطورة OECD ومعاهدات ولجان الامم المتحدة) الى أدوات نلاحق بها اسرائيل ونزيد عزلتها ومقاطعتها عالميا وفرض العقوبات عليها ورفض تطبيعها. أي أن جماهير شعبنا طوّرت أكثر من "ورقة لعب" واحدة تواجه من خلالها المشروع الصهيوني.
في المقابل لا نستبعد أن تظهر مبادرات اسرائيلية على شكل وعود مالية كبيرة للنقب بشكل خاص وللسلطات المحلية العربية بشكل عام، كما حدث في العام 2000 على شاكلة ما أطلق عليه "فوروم معالي هحميشاه" في مبادرة مالية كبرى أطلقتها حكومة ايهود باراك في مسعى لإطفاء شعلة انتفاضة الداخل كجزء من انتفاضة القدس والأقصى.
وبشكل متكامل فلا نستبعد أن تتحرك المنظمات الصهيونية العالمية واللوبي اليهودي الأمريكي من خلال "طاقم العمل لمتابعة قضايا عرب اسرائيل" التابع للجاليات اليهودية والمنظمات الصهيونية ومن أبرز قياداته فوكسمان وأقطاب الحركة الصهيونية العالمية. وهؤلاء يهرعون الى البلاد في كل هبّة شعبية لجماهير شعبنا وذلك في محاولة لشراء الضمير الجماعي وضمن مسعى لخلق نخب ترتبط بهم وبالذات باسرائيل مصلحيّاً. وما يميز هذه المؤسسات أنها تعتبر نفسها صاحبة بيت في "دولة اليهود" وكلما زادت حدة المواجهة وكفاحيّة الشباب الفلسطيني تنفتح جيوبهم وخزينتهم على الدعم الترويضي.. ومهم أن نؤكد ان هذه المحاولات والمساعي تمّ التصدي لها واخفاقها وفضحها.
ولن يكون مفاجئا- كما علمتنا التجربة هو مساعي "اليسار الصهيوني" والتيار اللبرالي الاسرائيلي العالمي لترويض روح المقاومة لدى الشباب العرب الفلسطينيين وذلك من خلال أدوات الهيمنة والتطويع خاصتهم والتي تجمع بين التمويل وبين الدعوات والاغراءات الخبيثة بالدعوة الى مهننة المقاومة الشعبية والى الاستشارة التنظيمية من خلال مؤسساتهم. وذلك أيضا مكشوف ا ان الاستشارة التنظيمية والتدريب وقولبة العمل الشعبي التي يروجون لها ليست مهارات حيادية، بل قوالب تفكير ترويضية، فيها إبعاد عن الجوهر واشغال الطاقات الشعبية في تفاصيل هامشية، فالنضال والكفاح والمقاومة الشعبية كلها ليست مهنة بل روح شعب في مقاومة الاستعمار ومؤسساته ومنظومته المحلية والعالمية وليس الوقوع في مصيدتها.
قد تحاول اسرائيل الاستثمار أكثر في تجنيد الشباب العربي الفلسطيني للخدمة المدنية الاسرائيلية، او اي وسيلة ترهيبية كانت او اغرائية لاعادة المارد الشعبية وبالذات الشبابي الى "القمقم" الاسرائيلي – اي الى قواعد اللعبة الاسرائيلية القاهرة.
لكن، وهذا درس كفاحي تاريخي وهو أن عنف اسرائيل لم يزدنا الاّ عنفوانا ومهما كانت النتجية المباشرة بشأن تشريع قانون "برافر" أو تنفيذه.
المصدر: 4 ايلول 2013
|