قبل أكثر من شهر، وعشية اليوم الوطني للسعودية، قُتل شابان بسبب مطاردة رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما بالسيارة، ما أدى إلى انحراف سيارتهما عن وسقوطها جسرٍ في أحد طرقات العاصمة الرياض. تواصلت التحقيقات وأفضت قبل أيام قليلة إلى إدانة 6 من أعضاء «الهيئة» بالتورط في الحادثة.
أثارت الحادثة ردة فعل غاضبة شعبياً على الهيئة ورجالها، وذكّرت بنقاشات قديمة حول دور هذا الجهاز واشتباكه مع الحريات الاجتماعية للأفراد، وكانت الاعتراضات قد تكاثرت في السنوات الأخيرة على جهاز الهيئة من قبل عدد من كتاب الصحف السعودية ممن يصنفون ضمن النخبة المثقفة و«الليبراليين»، وكذلك مجموعة من المدونين والفاعلين في مواقع التواصل الاجتماعي، ووصل الأمر لمطالبة كثيرين بإلغاء الجهاز تماماً.
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي جهاز حكومي يمثل ما يمكن تسميته «الشرطة الدينية»، مهمته مراقبة الناس للتأكد من عدم ارتكابهم مخالفات أخلاقية أو دينية بحسب التفسير السلفي، وتسمى بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نسبة إلى قيمة دينية تحثّ على الأمر بالمعروف والنهي عن منكرات الأعمال. وتحت العنوان العريض للأمر بالمعروف تبرز الهيئة كجهاز ضبط يقوّم سلوكيات الناس بما يتوفر له من سلطة، ووقعت في هذا الإطار مشاكل تنوعت من التجاوزات بحق الأفراد إلى القتل مؤخراً.
تعود المجتمع السعودي بكل فئاته على خشية رجال الهيئة، وخشية الذين كانوا ينضمون إليهم من «محتسبين» يودون الحصول على الأجر الرباني والمثوبة في حالة إنكار المنكر وتغييره حد الاستطاعة، بما في ذلك اللجوء إلى العنف أحياناً، كما ينضم لهذا الفريق بعض من يرتجون الوجاهة الاجتماعية باسم التدين أو السيطرة المريضة على الآخرين بسبب المظهر الموحي بالالتزام الديني. ويقوم هذا الفريق المتميز بمحدودية الأفق وانغلاق الفكر والانحصار ضمن ثقافة التحريم الكلي لكثير من الممارسات السلوكية للأفراد المبررة بتفسير سلفي متشدد بالتسلط على بعض تجمعات الشباب دون أي مبرر، ومنع الفعاليات الفنية والحفلات وضبط كل الاحتفالات في البلاد بالضوابط «الشرعية»، ومعاقبة من يظهر بمظهر لا يروق لهم مثل من يطيل شعره، فيقومون بإجباره على حلاقة شعر رأسه مدعين أن هذا لمنع تشبه الشاب بالنساء ومرجعين ذلك لأدب إسلامي، ويبدو أنه في السنوات العشر الأخيرة اختفت هذه الظاهرة إلى حد كبير.
لكن رجل الهيئة ما زال يتعرض للمرأة في السوق أو الشارع ويأمرها بتغطية وجهها أو تغطية الواضح من جسدها ككفيها مثلاً، وقد يحدث من تجاوزات بعض الأعضاء التعدي اللفظي والسب أو الضرب في بعض الحالات معللين تصرفهم بأنه قضاء على الفتنة التي تروج لها «النساء السافرات» بين المسلمين، مثل هذه التعديات والتجاوزات استفزت السعوديات والسعوديين على حد سواء بشكل كبير، وانتشار كثير من مقاطع الفيديو على موقع «يوتيوب» في السنوات الأخيرة لإشكالات بين رجال الهيئة ومتسوقين ومتسوقات في المجمعات التجارية خدش صورة الهيئة ورجالها وأثر على سمعتها في المجتمع كثيراً.
في القضية الأخيرة التي أصبحت قضية رأي عام في السعودية، وضعت الهيئة نفسها في أسوأ مواقف المساءلة المجتمعية بالانتهاك الذي صدر من بعض أفرادها واعتُبرت مسؤولة مسؤولية كاملة عنه، وحتى الذين تمرسوا في الدفاع عن وجود الهيئة وسلوكياتها لم يكن بمقدورهم مواجهة كم الغضب الشعبي العارم الذي تسبب به مقتل الشابين. الحادثة في مجملها كانت تمثل قمة الإجرام من الأعضاء المطاردين للشابين بحجة شكوك اتضح أنها عارية من الصحة، ما أثار النقاش أولاً حول ذلك الاشتباه الذي يؤدي إلى القتل، وثانياً حول شرعية مطاردة أشخاص بسبب الاشتباه وشرعية «التجسس» على الأفراد وتقييم حرياتهم الشخصية، وأخيراً يصل الحديث إلى شرعية وجود جهازٍ كهذا من الأساس.
مع كثرة الانتقادات تكررت الوعود الرسمية في السنوات الأخيرة بعمل إصلاحات داخل جهاز الهيئة، وصدرت لائحة جديدة تنظم عمل الهيئة، وتمنع دخول متطوعين في إطار عملها. ورئيس الهيئة الحالي يعد إصلاحياً ومحارباً من التيارات السلفية الحركية والمتشددة، لكن هذا كله لا يلغي النقاش حول إشكالية وجود هذا جهاز الهيئة من الأساس، فالمشكلة تتعلق بالانتصار للحريات الفردية ورفض الوصاية على سلوكيات الأفراد، كما أن الهيئة تصنع إشكالاً دينياً أصلاً، فشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تفترض وجود جهاز تسلطي يضبط سلوك الأفراد بالقوة، ومثل هذا الأمر ينعكس بشكل سلبي على مفهوم الإيمان ذاته، إذ يفرّغ الإيمان من مضمونه، ويصبح دافعه الخوف من البشر لا من رب البشر. ويؤدي هذا إلى انتشار النفاق وازدواجية المعايير في المجتمع، يظهر هذا مثلاً في إجبار النساء على ارتداء الحجاب، حيث تخلع شريحة واسعة من السعوديات الحجاب في اللحظة الأولى لمغادرتهن الأراضي السعودية، وهو ما يعني أن المسألة ليست قناعة بل خوفاً من عقوبة جهاز سلطوي، وأن المظهر القشري هذا يخفي وراءه ما ينسف الهدف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا إذا كان الهدف فقط إقامة مظاهر دينية مفروضة بأدوات الدولة.
إن المجتمع السعودي ليس بحاجة لأي ضابط تنظيمي يسبب إيذاء المواطنين والتدخل في حرياتهم الشخصية وإجبارهم على نمط تديّن محدّد لا يقتنعون فيه، فأفراد المجتمع من حقهم أن يحددوا نمط السلوكيات التي يمارسونها ما دامت لا تضر بالآخرين، ومن حقهم أن يرفضوا فرض مظاهر بعناوين دينية عليهم دون قناعة منهم، والأهم أن الدين أمر متروك للناس باعتباره ظاهرة اجتماعية كما يصفه دوركايم، وإفساد الدين يكون عبر ابتلاعه من السلطة وتحويله إلى أداة تسلط، ولن ينقذ الدين سوى تحريره من قبضة السلطة السياسية وإعادته للمجتمع، لذلك إلغاء الهيئة أمر يخدم دين الناس ودنياهم.
المصدر: الاخبار اللبنانية/ ٧ تشرين الثاني ٢٠١٣
|