قدّر لمنطقة الخليج العربي أن تختزن ثروة أسطورية هي النفط والغاز، وعلى امتداد قرون لم يكن أحد يعرف هذه الثروة الباطنية، لكنه ومع دخول البشرية عالم الاكتشافات بكافة تجلياتها، فقد اكتشف النفط أولاً في العالم الجديد (الولايات المتحدة)، وحفر أول بئر في فيلادلفيا، ثم تتابعت الاكتشافات في العالمين القديم والجديد.
ومع التطور الهائل في الصناعة والنقل والعمران، برزت الحاجة المتزايدة إلى النفط، وتأسست شركات النفط العملاقة في أميركا وأوروبا، واندفعت إلى الاستكشافات النفطية على امتداد العالم، تسبقها الجيوش والأساطيل، فاتحةً أراضي العالم للبحث واستخراج النفط في ظل الاحتلال أو التهديد بالقوة والإغراء.
وكانت العراق وإيران في مقدمة البلدان التي نشطت فيها الشركات النفطية الغربية، حيث كان الغاز يتسرب من شقوق الأرض ويشتعل، وهي ظاهرةٌ قديمةٌ جداً، وكان أول بئر مستكشف للنفط في مسجد سليمان على الضفة الإيرانية من الخليج العام 1921، ثم تتابعت الاكتشافات على الضفة العربية في بداية الثلاثينيات. والبحرين على رغم صغرها واحتياطها المحدود، كانت الأولى في اكتشاف النفط العام 1933 من قبل شركة كالتكس الأميركية المسجلة في كندا. وتتابعت الاكتشافات في باقي دول الخليج العربية، الكويت ثم السعودية وقطر، ثم الإمارات وأخيراً عمان، ليتبين أن منطقة الخليج بضفتيها (مجلس التعاون الخليجي والعراق وإيران) تعوم على بحيرةٍ من النفط هي الأكبر من حيث الاحتياطات، ولتصبح المصدر الأول للنفط إلى العالم الصناعي.
المقادير هي التي جعلت من هذه المنطقة (الشاطئ العربي على الأقل) الأفقر من بين المناطق العربية والأكثر تخلفاً والأقل سكاناً، محظيةً بهذه الثروة الهائلة، أو ما يعرف بالذهب الأسود.
وفي ظل الهيمنة البريطانية، كان هم بريطانيا العظمى حينها أن تستحوذ الشركات البريطانية على نصيب الأسد، لكن الشركات الأميركية العملاقة، والولايات المتحدة القوة العظمى الصاعدة، كانت مصممة على النصيب الأكبر، وهكذا جرى تقاسم المغانم بين الحليفين أميركا وبريطانيا، في تقاسم امتيازات النفط في المنطقة، والتي تحوّلت لاحقاً إلى دول ست استقرت حدودها نسبياً، والتي استمرت في دائرة النفوذ الغربي وتحت مظلة الحماية الأميركية.
لا شك أنه على الرغم من النهب الغربي للثروة النفطية والغازية، ورغم استحواذ القوى الحاكمة على جزء كبير من هذه الثروة، ورغم التبذير الترفي، والتبذر والإنفاق غير العقلاني، وغياب التخطيط وغيره من العوامل المصاحبة لظاهرة تخلف المجتمع وتكالب الغرب، فقد أحدث النفط تحولات هائلة في بلدان الخليج العربي، ونقلها من مجاهل القرون الوسطى إلى مشارف العصر الحديث، ولكن بتناقضات غريبة تحمل الشيء ونقيضه، وهو ما وصفه عبقري الرواية العربية المرحوم عبدالرحمن منيف في «مدن الملح»، وروايات أحمد الزبيدى وإسماعيل فهد إسماعيل وعبدالله علي خليفة وغيرهم. كما تجلّت في أعمال فنية رائعة مثل المسلسل الكويتي «درب الزلق»، وغيره من أعمال فنية عديدة في الدراما والشعر والرسم.
وإذا ما ألقينا نظرةً على البنية الاقتصادية الخليجية، فقد تطورت هذه البنية في جميع القطاعات الصناعية والمصرفية والمالية والخدماتية، بحيث تقف الاقتصاديات الخليجية في مقدمة الاقتصاديات العربية بما فيها تلك الأكثر سكاناً ومساحةً وتطوراً حضارياً. كما أن البنى المتوسطة من تعليم وصحة وإسكان وغيرها، متطوّرةٌ جداً، وأضحت جامعات ومستشفيات المنطقة من الأفضل عربياً. كذلك البنى التحتية من مواصلات واتصالات ونقل بحري وجوى وبرى، هي الأفضل عربياً.
وبالنسبة للقطاع الخاص، أضحت الشركات الخاصة ومعظمها عائلية، من أكبر وأحدث الشركات الخاصة العربية، بل والعالمية، وأضحت ممتدةً على امتداد العالم بما في ذلك الغرب المتقدم. كما أن الصناديق السيادية الخليجية من الأغنى في العالم، ولها استثماراتها المتنوعة والمعقّدة على امتداد الغرب والشرق.
لاشك أننا اليوم وعندما نقيّم المجتمع الخليجي، فهو مجتمع حديث وواعٍ، حيث التعليم الأساسي يفوق %95، وحتى التعليم الإلكتروني والتعاطي مع منتجات العصر التقنية متقدم، حيث أن دول الخليج هي الدول الأولى في النفاذ إلى الإنترنت واستخدام تكنولوجيا المعلومات، والتواصل الاجتماعي، وتملك فضائيات ذات انتشار واسع. ونستطيع أن نستطرد كثيراً في مظاهر التقدم الاجتماعي، وحتى تقدم المؤسسات والوزارات الحكومية الخدمية من حيث الأداء وجودة الخدمة.
ولكن وكما يقول ماركس «كل شيء يحل في داخله نقيضه»، وإذا ما كان هذا النقيض في موقع السلطة والقوة، فإنه يحيل عوامل هذا التقدم (وهي هنا الثروة النفطية) إلى عوامل ضعف وإحباط لتقدّم المجتمع وازدهار البلاد.
لقد تضافرت السيطرة البريطانية، ثم الوجود الأميركي، ورغم الدور التحديثي أحياناً، في دعمها للقوى الحاكمة، وعملت على عزل هذه المنطقة عن التفاعل مع محيطها العربي الأكثر تقدماً ووعياً، وخصوصاً العراق وبلاد الشام ومصر، وإغراقها بالهجرة غير العربية، والحد من دور المواطنين في الصناعة النفطية، ثم إلى تسليم السلطة للحكومات دون دورٍ للشعب، مع الإبقاء على روابط التبعية، ما أدى إلى دخول المنطقة في مراحل متتالية، من إحباط التطور السياسي والطبقي والاجتماعي.
منذ البداية تصدّت بريطانيا للمشروع القومي النهضوي، فأدخلت العراق في حلف بغداد لتحد من إشعاعه القومي، ثم عمدت من خلال الأنظمة الحاكمة إلى التصدي للمنظمات الوطنية والقومية، منذ حركة المجالس في 1938، مروراً بحراك الخمسينيات، وأخيراً في تصدّيها للمنظمات السياسية اليسارية والحركات العمالية والمجتمعية، وحتى أفكار التنوير والتحرّر والنهوض القومي. وليس صحيحاً أن شعوب المنطقة لم تقاوم الاحتلال البريطاني والنفوذ الأميركي والاستبداد المحلي، والتي اتخذت طابع الثورات والانتفاضات والهبّات، كما أن بريطانيا والأسر الحاكمة قد عمدت إلى رعاية ودعم الدعوات والحركات والمنظمات الإسلاموية الرجعية. بل إن بعضها أقام ورعى منظمات إسلاموية ذات مهمات عالمية، وهكذا استخدمت هذه الدعوات والمنظمات لمحاربة الفكر والدعوات والمنظمات التقدمية والتنويرية وعزلها وتكفيرها، مستفيدةً من التخلف الفكري والتدين العميق في صفوف أبناء الشعب. كما عمدت إلى إحياء العلاقات القبلية وتكريسها في علاقات الولاء لولي الأمر، وتوزيع مغانم السلطة، وبناء أجهزة الدولة وخصوصاً العسكرية والأمنية والمخابراتية.
ومع بروز وتطور الرأسمالية المحلية الخاصة، المتزاوجة مع القوى الحاكمة، تطوّرت قوة أخرى حليفة للأنظمة وفي مواجهة قوى التطور والتنوير والديمقراطية، والتي عمادها الطبقتان الوسطى والعمالية، وطليعتها المثقفون الوطنيون والقيادات العمالية، بحيث مدّت بنفوذها إلى الحياة السياسية والمجتمعية أيضاً هذا الثالوث: القوى الحاكمة، والمؤسسة الدينية المحافظة، والبرجوازية المحلية (التجار) وهو ما يهيمن اليوم على الاقتصاد والسياسة، ويعمل على إخضاع المجتمع لاستدامة هذه السيطرة التي تجمع السلطة والثروة معاً، ويعيق التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي والتحول الديمقراطي، وتحوّلت بلداننا من إقطاعيات إلى أوطان، والشعوب من رعاية إلى مواطنين، ويحول دون إنهاء التمييز ضد أبناء الشعب والامتيازات للقلة، ويحول دون وطن المواطنة المتساوية، ودولة المؤسسات بدلاً من التعاضديات.
وبموازاة ذلك التمدد المخيف لنفوذ الأنظمة الخليجية في السياسة العربية، وتصدّيها مبكراً للنهضة القومية التي قادها الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر، حيث لم تتورع عن خوض الحرب ضده في اليمن الذي هب لنجدته، وإغراقه في رمال اليمن حتى جاءت هزيمة 1967 لتجهز على هذا المشروع. وهذا واحدٌ فقط من تجليات الهجمة الخليجية ضد موجة النهوض القومي والنزوع التحرري العربي والوحدة القومية. وما نراه اليوم من دور مماثل في مواجهة الربيع العربي وثوراته إما باحتوائها أو إغراقها بالدم، إلا امتداد لهذا الدور المتساوق مع الاستراتيجية الغربية. لكن حركة التاريخ لا تتوقف، والتطور وإن انكسر مؤقتاً، فإنه يعاود الصعود سواءً داخل المنطقة أو في الوطن العربي. فها هو الربيع العربي، وإن انتكس هنا أو هناك، إلا أن أمواجه العاتية تجتاح الحدود والسدود، وتنهض شعوب عربية بعد أخرى، وتصحح الشعوب المسار، وتتصدى للهيمنة العربية التقليدية/ الغربية. وعلى جميع الأنظمة أن تدرك اليوم أن هناك حدوداً لسلطة المال، وأن استراتيجية إخضاع الشعوب واحتواء النخب أو اضطهادها، لن يدوم، فهذه الشعوب العربية خرجت من عباءة الأنظمة.
في حادثةٍ ذات مغزى، خاطب ضابط شرطة لقياصرة روسيا لينين الشاب في مظاهرة بمدينة قازان، وهي تواجه جداراً من الشرطة المسلحة، بقوله: «ألا تدرك أنكم تواجهون حائط صد منيع»؟ فرد عليه لينين: «حائط الصد هذا آيل للسقوط وبدفعة من أكف الجماهير سينهار».
لم يفت أوان مصالحة الأنظمة العربية مع شعوبها، والعبرة لمن اعتبر.
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية - العدد 4050 - الأربعاء 09 أكتوبر 2013
|