دعوة لتحالف من أجل عدالة دولية**

د. فيوليت داغر*

 

ثبّتت المحكمة العليا الاسبانية يوم الخميس أول حزيران/يونيو الحكم على تيسير علوني بالسجن سبع سنوات. وهو إجراء استثنائي في تاريخ القضاء الاسباني من حيث لم تتم اعادة النظر إن في مضمون أو في شكل الإجراءات القضائية. بل تم تبني كل ما وقعت به المحكمة الوطنية الاستثنائية من أخطاء تضافرت فيها جهود القضاء وحكومة أزنار وحتى الصحافة الاسبانية للوصول لنقطة لا يبدو فيها الرجوع عن الخطأ فضيلة بل اضاعة ماء الوجه. مما يؤكد مرة أخرى أن هذا الحكم وكل ما رافق الدعوة من مفاجآت وهفوات وتخمينات وتذبذب في القرارات واتخاذ اجراءات منافية للمنطق واعتماد وسائل غير قانونية وتطبيق نظام السرية وعدم الاطلاع على الملف بشكل كافي وتورط قاضي في التحقيقات والجهل بمعطيات أساسية في ملف يعرض كأنه محاكمة العصر لما يسمى بخلية القاعدة الاسبانية والاعتماد باتهام الخلية على صلات بمنشق عن ابن لادن منذ 15 عام، وعدم اللجوء لخبراء في الارهاب ودون الاعتماد فقط على قرائن موضوعية وادلة قضائية ثم الخروج باتهامات يغلب عليها الطابع الردعي، كل ذلك لا يمكن أن يكون إلا اقتصاصا من الزميل تيسير وفقا لقرار سياسي مسبق.

قرار يطال ليس فحسب الصحفي الذي كان على جبهات القتال في افغانستان والعراق فذّا أمينا ومقنعا بعبثية ما تقوم به الادارة الأمريكية في ما اسمته حربها على الارهاب، وإنما يطال قناة الجزيرة التي هي ربما المستهدفة الأساسية في هذا الحكم. ولو أن الثمن الذي يدفعه تيسير وعائلته أكبر بكثير من أي طرف آخر، ودون التقليل من الثمن الذي دفعه كل من شارك من قريب أو بعيد في هذه المعركة غير المتكافئة بأي حال من الأحوال.

جاء هذا الحكم الجائر، الذي كان للادارة الأمريكية ضلع كبير فيه وفي كل ما جرى قبله، كحلقة من سلسلة طويلة من التعديات على كل ما تمثله الشرعة الدولية والقانون الإنساني الدولي وتغليب شعار حفظ الأمن على مبدأ احترام الحريات. وبذريعة الحرب على الارهاب ضربت الضوابط القانونية والقواعد الأخلاقية التي حاولت البشرية أن تضعها خلال النصفية الثانية من القرن العشرين جراء ما عانته من عقابيل كوارث وأهوال حروب النصف الأول منه العالمية والإقليمية.

وضع كهذا يتطلب تضافر جهود المجتمعات المدنية في انحاء العالم وبشكل عاجل وحاسم، في تحالف يدافع عن مبادئ العدالة الدولية التي يستنزفها زحف أخطبوطي لمنظومات استثنائية موازية للعدالة الدولية تقود حملتها الإدارة الأمريكية الحالية. تحالف على شاكلة التحالف السابق من أجل محكمة جنائية دولية والذي أدى منذ 1998 لولادة المحكمة الجنائية الدولية. ذلك أن هذه الإدارة اتخذت من أحداث 11 أيلول 2001 ذريعة للالتفاف على أوضاع عالم يفترض المنطق وتطور البشرية أنه يتخلص تدريجيا من قوانين الغاب لبناء بيئة أكثر عدالة وتحررا من الطغيان والهمجية.

سعت إذن الادارة الأمريكية جاهدة للالتفاف على المحكمة الجنائية الدولية الناشئة واتفاقيات جنيف والعرف الدولي كما وعملت على ابتزاز الأمم المتحدة والحصول بالقوة والضغط على قرارات من مجلس الأمن للقيام بما تشاء. وعندما لم تستطع فعلت ما تريد من دون الحصول على اجماع دولي، وفي حالات عديدة في مواجهة الرفض الدولي الواسع لسياستها. وعندما لم تفلح بالحصول على قرارات أممية أبرمت اتفاقيات ثنائية أو تحالفات محددة في الزمان والموضوع بما يتناسب مع مصالحها الاقتصادية والجيوستراتيجية.

لتوضيح معالم هذه السياسة، نستعرض بعض الأمثلة العيانية، خاصة في السنوات الأخيرات بدعوى الحرب على الارهاب، لارهاب الحكومات وإخضاعها لمطالبها:

-        اتخاذ قرار في مجلس الأمن ينص على عدم ملاحقة العاملين في قوات حفظ السلام من الأمريكيين بتهم جرائم الحرب وغيرها.

-        ابرام اتفاقيات ثنائية مع دول صدقت على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كي لا يتم محاسبة أو ملاحقة أمريكيين على أراضيها.

-        توقيع القرار 17 من بريمر الحاكم الأول في العراق الذي يضع قوات الاحتلال فوق المحاسبة والقانون في العراق.

-         التمسك برفض تشكيل لجنة دولية للإشراف على الانترنت في قمة المعلوماتية الأخير كبديل لهيمنة دولة واحدة على هذا القطاع.

-     اتخاذ قرار من المستشارين الأمريكيين بتعريف خاص لجريمة التعذيب للالتفاف على ما وقعت عليه هي نفسها، أي اتفاقية مناهضة التعذيب.

-        صدور قرار بمنع حصول أي تحويل بنكي على الصعيد العالمي لا يمر عبر مصارف نيويورك.

-    فرض قرار يطالب بكشوف كاملة ودقيقة على الجمعيات الانسانية والخيرية في العالم الاسلامي والتي تقوم بالدور الذي يفترض من الحكومات أن تلعبه في مواجهة الفقر والبؤس، بما أدى لاقفال بعضها أو تجميد أموالها.

-    اتخاذ قرار بتعهد أية جمعية غير حكومية تنال مساعدة أمريكية أهلية أو حكومية بعدم التعامل مع أي طرف تتهمه الادارة الأمريكية بالارهاب.

-    استصدار قرارات تخول لها أن تتسلم خارج القضاء من تشاء من الأشخاص من غير مواطنيها وعندما تشاء ودون حتى تقديم دليل على اتهاماتها له.

قرارات كالعديد غيرها صيغت بنفس العقلية ولنفس الأغراض، بما أودى لفرض ما يشبه حالة الطوارئ على الصعيد العالمي. وبحيث يبدو العالم اليوم بالتالي كمن أصيب بالعدوى من مرض خبيث عندما اتخذ المثل الأعلى الذي يحتذيه هذا البلد المتقدم تقنيا واقتصاديا والذي ضرب كلا من البعدين الأخلاقي والقانوني في العلاقات الدولية لحساب نظرة ضيقة للمصالح الوطنية. لكنه للأسف يتعامل مع المجتمع الدولي بقصر نظر لا مثيل له، حاله حال صبي الحارة الأرعن الذي يثير الذعر أينما حل بفرض ارادته على الآخرين بالقوة بسبب تضخم الأنا المرضي نتيجة غياب أو تهميش من يفترض أن يلعب دور راعي الرعية ويجسد عمليا أو رمزيا السلطة الأعلى.

هذه السلوكيات، أكان موضوعها فردا أو جماعة، تطرح اشكاليات متعددة كون انتفاء الضوابط لا يحوّل فقط الضعفاء في موازين القوى لضحايا لها، وإنما يجعل منها هي أيضا ضحية نفسها عندما لا تجد أمامها من يتصدى لعنجهيتها. والسلطة الأعلى هنا هي أولا مؤسسة الأمم المتحدة التي أنتجت وباجماع من الدول المجتمعة على مدى عقود تشريعات واتفاقيات يفترض أن تنظم العلاقات بين البشر وتضبط السلوكات على أسس مقبولة دوليا. لكن للأسف كان هناك شروخ ونقاط ضعف في هذا الصرح، منها عدم وجود هيئة رادعة تستطيع أن تحاسب وتحاكم. بما سهّل للأجسام الغريبة النفاذ لهذا الكيان في طور الإنشاء والاجهاز على قدراته المناعية وطاقاته الدفاعية الكافية.

أما منظمات المجتمع المدني الناشئة، فلم تستطع في ظل أنظمة قمعية أو غير ديمقراطية أن تقوم بدورها كسلطة مضادة فعالة. وحتى في ظل الأنظمة المسماة ديمقراطية، كانت السلطات التنفيذية تحاول تجاوز صلاحياتها كلما استطاعت لذلك سبيلا، مطوقة السلطات التشريعية والقضائية والاعلامية لتحقيق مآربها وفرض الأمر الواقع عبر سياسات تلعب على وتر حماية أمن البشر من المخربين والارهابيين والأصوليين والمتآمرين على مصالح البلد.

عندما تحتل مجموعة موقع المتنفذ وتتصرف كالمافيا، مبيحة لنفسها تطبيق نهجها والتعامل انطلاقا من الايديولوجية التي اختارتها، متكئة على موازين القوة التي في صالحها لتفرض نموذجها على الآخرين، فهي لن تكن بآدائها أفضل من أية مجموعة أخرى تسميها هي ارهابية وتحاربها من هذا المنطلق. الفارق هو ما بين ارهاب الدولة في مواجهة ارهاب جماعات مسلحة، بحيث لن تضاهي الثانية الأولى فتكا ودمارا بأي حال، بالنظر للقدرات التي تستند اليها والمكانة التي تشغلها. بما يؤدي للتعامل مع الأولى برهبة واجلال، كون سلطتها متأتية من شغلها مواقع هامة في الفعل والقرار السياسي، في حين أن الأخرى تعامل كالمنبوذ أو الشاة الضالة التي يجب أن تعود للحظيرة كون تمردها يشكل خطرا على أمن الآخرين.

الآليات النفسية هي نفسها التي تتحكم بهذه النماذج، ويمكن أن نلخصها بآلية الخوف على الذات من الآخر باسقاط ما في الذات من قلق وأوهام على هذا الآخر. خوف يتضاعف كلما كان هذا الآخر مختلفا عن صورة الذات ويشكل رمزيا تهديدا لها. لهذا نجد من يحاول أن يروضه ويتدخل في مجرى حياته لتحويرها بشكل يسمح بمراقبتها والسيطرة عليها او استيعابها بالشكل الأقرب للفهم. وللوصول لقلب العملية هناك من يجد بد من التدخل في المناهج الدراسية وكل ما يساهم بتشكيل ثقافة وعقلية وسلوكيات هذا الآخر للتأثير عليه وجعله مطواعا لتأثيراتها. فالتثاقف لن يكون فاعلا بما فيه الكفاية عندما تكون المسافات الجغرافية بين الثقافات حائلا دون ذلك. وحتى بحال الاحتكاك المتواصل، يمكن أن ينحى التثاقف عند البعض منحاً معاكساً للمطلوب عندما يتخذ شكل رد الفعل على ما يفترض أن يكون اندماجا وتخلصا من مركبات وعناصر ثقافية قديمة باستبدالها بعناصر من النموذج المهيمن او المفروض.

لكن إن كانت الصدمة وتراكم الاحباط يولد الخنوع والرضوخ للأقوى، فالوضع مع الوقت يمكن أن يتحول من اللامبالاة والقنوط للاحتجاج والتمرد. وهذا ما بدأنا نرى تجلياته شيئا فشيئا، حيث يبدو العالم اليوم وكأنه بدأ يستفيق من غيبوبته ويلتقط انفاسه ويحاسب هذه النظم بعدما استنتج ولمس إلى أين أودت بالعالم السياسات الرعناء التي تنتهجها. مثال على ذلك قرار لجنة مكافحة التعذيب في الأمم المتحدة التي طالبت -ولو بعد حين- باغلاق معتقل غوانتانامو والسجون السرية. ذلك رغم مثول 25 مسؤولا أمريكيا ومحامي وزارة الخارجية أمام اللجنة التي لم ترضخ للضغوط وتبنت الادانة.

مثال آخر هو رفض محكمة العدل الأوروبية منذ عدة أيام لاتفاق بعد سنتين من توقيعه ينص على تسليم شركات الطيران الأوروبية لمعلومات عن ركابها المسافرين للولايات المتحدة (توصل الطرف الأوروبي لتقليص عدد المعطيات المفروض عليه تبليغها من 50 إلى 34 وتقليل مدة تخزين المعلومات وذلك بعد مفاوضات وأخذ ورد). هذا الاتفاق كان قد وقعت عليه 25 دولة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لكن كونه مناف للتشريعات الأوروبية التي تحمي الحريات الشخصية والحياة الخاصة، فقد انتهى الأمر بمحكمة لوكسمبورغ لنقضه إثر طلب طعن في الاتفاق تقدم به البرلمان الأوروبي قبل شهر وبعد فوزه بأغلبية في التصويت. رغم أن الأغلبية ضئيلة وأنه وجد بعد أسبوعين معارضة له من المفوضية الأوروبية التي وقفت مع الاتفاق. لكن حيث أن السلطة التنفيذية كانت قد تجاوزت صلاحياتها بابرام الاتفاق، فما كان من المحكمة سوى اعطاء المثل باتخاذ القرار الجرئ. علما أنه سيفتح حتى نهاية سبتمبر المقبل معارك بين الطرفين ليس أقلها شن نوع من الحرب الاقتصادية والتهديد بالتأثير على السياحة وبتدفيع شركات الطيران غرامات قد تصل ل6000 دولار عن كل راكب لا تقدم المعلومات المطلوبة عنه.

مع تبني مركز الحقوق الدستورية الأمريكي لإغلاق معتقل غوانتانامو، إلى جانب   عدد هام من المنظمات غير الحكومية الأمريكية، والوصول إلى إجماع حول هذا الموضوع في الفضاء غير الحكومي في أوربة، ونضوج فكرة الدفاع عن العدالة الدولية من أجل الحقوق المشروعة للشعوب والأشخاص في العالم العربي، أصبحت الأرض مهيئة لمؤتمر دولي كبير لمناهضة المنظومات الاستثنائية الموازية وبناء جبهة حقيقية للدفاع عن أهم منجزات البشرية في النصف قرن الأخير. فلنبدأ دون انتظار.

---------------------   

*رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان

**نشر على موقع الجزيرة نت بتاريخ 6-06-2006