المشهد المؤلم للثورات العربية
يتألَّم الجمهور العربي برؤية ما آلت إليه الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت الساحة العربية من المحيط إلى الخليج في بداية سنة 2011، فاتحةً آمالاً برّاقة لتغيير الأوضاع المهينة التي تعيشها هذه الجماهير منذ عقود، وذلك بعد أن انطفأت الحلقة الثورية السابقة في القرن الماضي، وكانت قد تجسّدت في الحركات التحررية والتقدمية العروبية منذ تأميم قناة السويس وملحمة الزعيم جمال عبد الناصر في مجابهة قوى الإمبريالية والرجعية العربية المعادية للتقدم وفي مكافحة الهيْمنة الخارجية الغربية. وقد ختمت الحلقة الثورية هذه عند اجتياح إسرائيل للبنان وعاصمته عام 1982 وانهيار ما كان قد تبقى من منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الثورية العربية الأخرى.
صحيح أنَّه يجب ألا نستسلم لليأس أمام المشاهد المرعِبة لما يحصل في معظم الساحات العربية التي انتفضت فيها الجماهير، لأنَّ الحلقات الثورية تمر دائماً عبر حركات صعود وتراجع، قد تطول عقوداً قبل أن تستقر على أنظمة سياسية اقتصادية واجتماعية جديدة تعيد لحمة المجتمع وتغيِّر إلى الأفضل نمط حياة الشعوب.
لا نود هنا أن ندخل في التعقيدات الكبيرة لكل ساحة من الساحات الثورية المتألِّمة، ابتداءً من جارتنا السورية التي تتعرَّض لخطة تدمير دموية ومؤلمة، تلعب فيها الحركات التكفيرية دوراً ملتبساً للغاية، ومروراً بوضع مصر التي أصبحت هي بدورها في حالة متوترة للغاية بين «الإخوان المسلمين» والتيارات العلمانية الليبرالية أو القومية، ومروراً بليبيا حيث تسود أوضاع ضبابية غير مستقرة تشوبها أعمال عنفٍ من قبل ميليشيات عديدة. وكذلك أوضاع تونس المتميِّزة أيضاً بتوتر بين العلمانيين والسلفيين وبشل أعمال الدولة إلى حد بعيد، مروراً بالبحرين حيث تُمارس أعمال قمع متواصلة ضد المعارضة في ظل سكوت تام، عربياً ودولياً، وبأوضاع اليمن المعقدة بين مشكلة جنوبية ومشكلة الحوثيين ومشكلة إسلاميّي «القاعدة» الناشطين فيها.
وفي الحقيقة ليس في هذا المشهد اليوم ما نستغربه، وذلك لأسباب عديدة، ومنها التدخلات الخارجية، سواءً من قبَل الدول الغربية أو من قبَل بعض الدول العربية صاحبة النفوذ والمال وأخيراً تركيا الحالمة بعودة عهدها العثماني، ما يجلب أيضاً تدخلا روسيا ـ صينيا ـ إيرانيا.
من العناصر الداخلية الهامة في حالات الاضطراب هذه، ضياع العرب لهويتهم الأساسية بين أنصار أولوية المكوِّن الديني فيها التي يمكن أن تأخذ أشكالاً إقصائية ومطلقة وأحادية الجانب من جهة، والمكوِّن المدني والوطني والقومي العربي والليبرالي للهوية، من جهة أخرى. مع لفت النظر إلى أنَّ هذا الانقسام في الهوية ونظام القيَم الذي يتفرّع عنها يؤدي إلى تناقض عميق في تحديد من هو الصديق ومن هو العدو للمجموعة العربية ككل، بين من يدّعي أنَّ المحور الإيراني ـ السوري ـ الروسي والصيني هو العدو، ومَن يدَّعي أنَّ الهيْمنة الأميركية الصهيونية الأوروبية هي العدو الرئيس، خاصةً في ظل استمرار وحشية إسرائيل وعدوانيتها تجاه الفلسطينيين ونيّاتها في ضرب حركة المقاومة الإسلامية اللبنانية ضد إسرائيل في لبنان للانتقام من إنجازاتها في طرد الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 ودحر عدوانه الدموي عام 2006.
الغياب المفجع لأية رؤية بديلة
للمسار التنموي العربي الفاشل
أريد هنا أن أذكر سبباً أعتبره أيضاً رئيساً في تعثر الموجة الثورية العربية وقلَّما نتحدث عنه، ألا وهو غياب أي تصوّر لنموذج تنموي بديل من التنمية المشوّهة التي تتميز بها سلباً الاقتصادات العربية جميعها، وهي اقتصادات ريْعية الطابع واحتكارية تركّز الثروات في أيادٍ قليلة تجني أرباحاً طائلة وسهلة، لا تستثمرها في بناء قدرات إنتاجية في مجالات العلم والتكنولوجيا، تُوَظَّف في نشاطات اقتصادية ذات القيمة المضافة العالية. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بدورها أن تؤمِّن فرص العمل اللائقة للعنصر الشاب العربي وترفع من مستويات المعيشة لدى الفئات الفقيرة والمهمَّشة وهي تعيش حياةً يومية صعبة للغاية بحثاً عن لقمة العيش في بحر من الثراء الذي تكوَّم لدى القيادات السياسية ومحاسيبها من بعض رجال «الأعمال». ولْنتذكر أنَّ أهم شعار قد رُفع من المحيط إلى الخليج هو الكرامة. والحقيقة هذا ما يذكّرني بمؤلَّف قيِّم للغاية كتبه منذ عقود المرحوم الدكتور يوسف صايغ بعنوان «الخبز والكرامة». وفي نظري أنَّ ما جمع الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج في آذار 2011 هو مطلب الخبز والكرامة، أيْ المجتمع الإنتاجي الذي وحده يوفر فرص العمل اللائقة ويحقق الكرامة الوطنية في كل قطر عربي وعلى مستوى المجموعة العربية جمعاء، للتخلّص من كل الهيْمنات الخارجية ولإعادة الحق إلى أصحابه في فلسطين المحتلة التي لن تحرَّر إلا بالقوة الجماعية العربية تساندها قدرة إنتاج فعالة.
لكنَّ الإعلام العربي والدولي حول الثورات قد ركّز حصراً على قضية الديموقراطية والحريات الشخصية، سواءً من وجهة نظر الليبرالية أم من وجهة النظر الإسلامية الداعية إلى ضرورة إقامة أنظمة إسلامية في الحكم، وهي حتماً تؤدي إلى الحد من الحريات الشخصية جوهرياً. وقد غاب عن تحليل مجريات الأمور الثورية أية إشارة إلى طرق ووسائل الوصول إلى نمط تنموي متجدد، مستقل عن النموذج النيوليبرالي الذي تفرضه مؤسسات التمويل الدولية، كما الإقليمية العربية أو الإسلامية. وهذا ليس بالقضية السهلة نظراً لعمق تجذر الاقتصاد الريْعي غير المنتج في كل أنحاء الوطن العربي، بالإضافة إلى اتكال الاقتصادات العربية إما على زيادة أسعار النفط وإما على التحويلات المالية التي يقوم بها الملايين من المغتربين العرب لذويهم في الوطن، وكذلك المساعدات الغربية، سواء بشكل قروض أو هبات، والمساعدات الآتية من الدول النفطية في شبه الجزيرة العربية. وحسب علمنا فلم نرَ حزباً سياسياً، إسلامياً كان أم مدنياً، قد ركّز في برامجه وشعاراته على هذه القضية المركزية لكي تصل الثورات العربية إلى بر الأمان. ما شهدناه هو فقط وعود بتحسين مستويات المعيشة، تجسدت بشكل مجزأ وفوضوي بزيادات أجور هنا وهناك تحت ضغط العمال ونقاباتهم، دون أن تقابلها أية خطة للنهوض الإنتاجي بغية كسر حلقة الاقتصاد الريْعي. إنَّ هذه الحلقة السلبية الأثر، هي التي تحول منذ عقود دون الدخول في عالم الإنتاج والعلم والمعرفة، وبالتالي في نموذج اقتصادي على غرار دول شرق آسيا يمكن أن يوفّر فرص العمل الكافية لاستيعاب كل العاطلين من المساهمة في الإنتاج لكي تدخل الاقتصادات العربية في حالة تنافسية حقيقية في الأسواق الدولية.
دلالة قبول الحكومات الثورية
«شراكة» الدول الغربية في الثورات
ومن اللافت للنظر أنَّ الدول الغربية المتقدمة والمجتمعة في مجموعة الثماني قد أعلنت نفسها في شهر أيار 2011 «شريكة الثورات العربية» في اجتماعها في مدينة دوفيل بحضور صندوق النقد الدولي الذي قدم ورقة حول المبالغ التي قد تحتاجها كل من مصر وتونس لتقوية اقتصادهما في المرحلة الانتقالية الصعبة. وقُدِّرَت المبالغ التي يجب توفيرها بـ35 مليار دولار، يمكن أن تُقدَّم كقروض من الصندوق مقابل رزمة من الإصلاحات النيوليبرالية كالعادة. وقد تبع هذا الاجتماع اجتماع آخر في مدينة مرسيليا في شهر حزيران 2011، بوجود وفود من أعلى المستويات من مصر وتونس والأردن، مكوَّنة من العناصر الجديدة التي استلمت مقاليد الأمور المحلية بعد انهيار حكم الاستبداد في تونس ومصر. وفي غياب أي طرح بديل من قبَل الحكومتيْن الثوريتيْن كانت الدلالة واضحة: إنَّ السياسات الاقتصادية ستمضي قدماً على الأسس القديمة نفسها التي كانت هي أحد الأسباب الرئيسية وراء انفجار الغضب الشعبي. وهذا أمر غريب فعلاً، يدل على أنَّ من تسلَّم مقاليد الحكم بعد زوال النظام الديكتاتوري لم يكن لديه أي تصوّر لسياسات اقتصادية ومالية واجتماعية بديلة من تلك السياسات النيوليبرالية التي كرَّست وعمَّقت نظام الريْع والفساد والإفساد وتركز الثروات في أياد قليلة وتوسيع رقعة البطالة، وهي بالذات القضايا الأساسية التي أدت إلى موجة الانتفاضات العربية من المحيط إلى الخليج.
وإذا كانت دول الخليج العربي قد تمكّنت من إسكات حركات الانتفاضة لديها عبر مزيج من قمع الشرطة ومن منح زيادات كبيرة في الرواتب والأجور والمنافع الاجتماعية للفئات الأكثر فقراً، فإنَّ الحكومات الجديدة في كل من مصر وتونس لم تطور أهدافاً تنموية بديلة من شأنها أن تؤمِّن فرص العمل المفقودة. ومثل هذه السياسات يجب أن تركز على استراتيجية لتوطين العلم والتكنولوجيا لدى كل الفئات الاجتماعية، بما فيها بالأولوية الفئات الريفية والفئات المدينية الفقيرة. وهذا هو ما فعلته دول شرق آسيا واليابان كأولوية في سياساتها التحديثية الهادفة إلى تطوير قدرة إنتاجية، مستقلة نسبياً عن مصادر العلم والتكنولوجيا الغربية، لكي تتمكن من بناء نشاطات اقتصادية حديثة الطابع تنتج السلع والخدمات المطلوبة على النطاق الدولي بقدرة تنافسية من ناحية السعر والجودة. كما أنَّ حكومات تلك البلدان صاغت ورسمت الأهداف المرحلية والقطاعية في العملية هذه بشراكة قوية بين كبار المسؤولين عن الدولة ومنظمات أرباب العمل، وكذلك في بعض الأحيان الجامعات ومعاهد التعليم المهني والتقني. وقد تم في هذه العملية تكريس الموارد المالية اللازمة من قروض طويلة الأمد وميسّرة ومن مساعدات مباشرة من قبَل الدولة لتشجيع الأبحاث والتطوير والابتكار والريادة في الأعمال الصناعية والخدماتية الحديثة الطابع (إلكترونيات، برنماجيات، معلوماتية، اتصالات سلكية ولاسلكية، إلخ) كما في الصناعات الثقيلة التقليدية أيْ صناعة التجهيزات الرأسمالية ووسائل النقل كالسفن والسيارات والطائرات في حالة الصين والبرازيل.
كسر حلقة الاقتصاد الريْعي لتوطين العلم والمعرفة وإقامة المجتمع الإنتاجي
في دولنا العربية، وباستثناء تجربة جمال عبد الناصر في التصنيع التي حققت الكثير لمصر من دون أن يتمكن قائدها من متابعتها بغيابه المبكر عن الساحة، فهي لا تزال تتخبط في مشاكل فقر وبطالة وأمية وبنية ريْعية للأعمال الاقتصادية، يتحكم بها فئة قليلة من الأثرياء الدائرين حول رؤساء الدول والحاصلين على امتيازات تؤبد الربح السهل وبالتالي التخلف العلمي والتكنولوجي. وأصبحت هذه الدول تعمل حسب وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في معالجة الفقر، عبر إجراءات خاصة بها لتوفير الحد الأدنى من الحمايات الاجتماعية للفئات الأكثر فقراً، مقابل القضاء على الدعم الذي تقدمه الدول للإبقاء على أسعار منخفضة لبعض المواد الأساسية (نفط وطحين ورز وسكر وشاي، إلخ). فهي تقول بأنَّ مثل هذه المساعدات المكلفة للغاية تفيد الأغنياء كما الفقراء وتكلّف خزينة الدول مبالغ طائلة تمثل نقاط عدة من الناتج الإجمالي المحلي، ولذلك ضرورة استهداف الدولة الفئات الفقيرة بمساعدات مصوَّبة.
غير أنَّ التجارب بهذه الوصفة، التي تطبّق بالتدريج منذ عقود في الاقتصادات العربية، لم تغير شيئاً في حجم بقع الفقر العملاقة ولا في حجم البطالة، خاصةً لدى العنصر الشاب المتعلّم. ذلك أنَ سياسة محاربة الفقر الوحيدة الناجحة تكمن في عملية توطين العلم والتكنولوجيا والدخول في عالم الإنتاج المكثف للسلع والخدمات المطلوبة في الاقتصاد المعوْلَم، الذي أصبح سوقاً واحداً محرراً إلى حد بعيد. أما من يتخلف عن ذلك فمحكوم عليه البقاء في اقتصاد الريْع وفي الاتكال على المساعدات الخارجية، مع كل ما يستتبع ذلك من قيود سياسية لمصادر المساعدات (سواءً كانت مساعدات من دولة إلى دولة أو مساعدات من مؤسسة التمويل الدولية والإقليمية)، بالإضافة إلى الاتكال على تحويلات المغتربين والحركة السياحية في حالة العديد من الاقتصادات العربية.
ولا عجب أن الاقتصادات العربية حيث تأثرت بالانتفاضات الشعبية وبالتغييرات السياسية تعاني من مزيد من التبعية المالية تجاه المصادر الخارجية ومن زيادة البطالة بدلاً من تراجعها، نظراً لما يسبّبه عدم الاستقرار السياسي وانعدام تام لرؤية تنموية بديلة من إقفال مؤسسات اقتصادية أو تسريح عمال وعدم الإقدام على الاستثمار، الداخلي كما الخارجي، حتى في القطاعات الريْعية الطابع مثل التطوير العقاري أو المرافق السياحية. وبالتالي تقع الحكومات الجديدة في تبعية أكثر شدة بالنسبة إلى مصادر التمويل الخارجي، نظراً لغياب صياغة سياسات عامة اقتصادية واجتماعية بديلة وتنفيذها بشكل متسارع من أجل استنفار كل القدرات الجماهرية وكذلك قدرات الفئات الوسطى وأصحاب المهارات والكفاءات، التي يجب انخراطها في عملية تبديل المسار التنموي والدخول الجدي في عالم الإنتاج خارج آليات الاقتصاد الريْعي الطابع؛ وبالتالي النجاح في القضاء التدريجي على النموذج الاقتصادي الاجتماعي السائد، وهو الذي يحول دون مثل هذا الاستنفار وهو عنصر رئيسي في عملية التغيير الجوهري لا الشكلي.
وفي حالة مصر على سبيل المثال، وهي كانت في بداية الستينيات أغنى من دول فقيرة للغاية في شرق آسيا مثل تايوان وكوريا الجنوبية وتايلندا، يبدو بالفعل مستغرباً أن يظل الجيش المصري بحاجة إلى تلقي مساعدات سنوية متواصلة منذ توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» من الولايات المتحدة؛ كما أنَّه من المستغرب أن لا تكون مصر قادرة على إنتاج الآلات والتجهيزات الترسملية الضرورية في إنتاج النسيج والألبسة، بلْ هي إلى الآن مضطرة إلى استيرادها من اليابان أو من ألمانيا، وذلك بالرغم من زراعة القطن فيها منذ مئتيْ سنة تقريباً. ويمكن أن نزيد من الأمثلة مثل الاضطرار إلى استيراد الآلات والتجهيزات الضرورية لاستكشاف واستخراج النفط والغاز، بالرغم من مضي عقود طويلة على استغلال هذا المورد الهام. وقد أنفــقت دولة الجزائر سدىً المليارات من الدولارات بإطلاق حركة تصنيعية ضخمة لم يُكتب لها النجاح لسوء تخطيطها؛ والشيء ذاته يُقال عن الخدمات التي تتطلب مهارات علمية وتقنية في مجال الاستشارات الهندسية المتخصصة في بناء المطارات والسدود والمرافئ وبشكل عام كل المرافئ العامة التي تتطلب ملكة العلم والتكنولوجيا.
ومن اللافت للنظر أنَّ مجمل الدول العربية، بما فيها الدول الغنية للغاية في شبه الجزيرة العربية، بالرغم من آلاف المليارات من الدولارات التي أنفقتها على البنية التحتية، فهي ما تزال تحتاج إلى استقدام الشركات الدولية المتخصصة في وضع التصاميم وخطط التنفيذ لأي مرفق من مرافق البنية التحتية. وها هو لبنان الذي هو من أرقى الدول العربية في مجال التعليم الجامعي، وبعد أكثر من عشرين سنة من عملية إعادة الإعمار واللجوء إلى الشركات الدولية الكبرى، سواءً في الاستشارات الهندسية أو في تنفيذ البنية التحتية، ما يزال يعاني من نقص في توفير الكهرباء والمياه إلى مواطنيه، بالرغم من صغر حجم البلاد جغرافياً وسكانياً؛ وهذا المثل السلبي ناتج عن مزيد من عمليات الفساد والعجز التكنولوجي في آنٍ معاً.
ضرورة إجراء تغييرات كبيرة
في الأنظمة الاقتصادية والمالية
خلاصة القول، إنَّ الحلقة الثورية الحالية في الوطن العربي، إذا لم تقدم على تغييرات جوهرية في الأنظمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتعليمية لكسر حالة الكسل الجماعي، العلمي والتكنولوجي، ستعيد إنتاج النظام الريْعي بواجهة شكلية أكثر ديموقراطية، لكنها لن تتمكن من تغيير الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السائدة في المنطقة منذ نهاية الستينيات والتي تتعمّق أكثر فأكثر على مر العقود. وكما هو معلوم فإنَّ المنطقة العربية تتميز سلبياً عن غيرها من مناطق العالم بمستويات بطالة مرتفعة للغاية، وقلة مساهمة المرأة في سوق العمل وضخامة جيوب الأمية في بعض الدول العربية الرئيسية، ونزف هجرة الأدمغة المتعاظم. لذلك يتوجب علينا أن ننظر إلى مكونات الأداء الاقتصادي في الدول العربية بمنظور مختلف تماماً عن المنظور السائد حالياً، الذي ينبع بشكل شبه حصري من مؤسسات التمويل الدولية التي تغيِّب تماماً قضية السياسات العامة التي يجب تطبيقها من اجل الخروج من الكسل والسكون العلمي والتكنولوجي، وذلك بإعادة توجيه الاستثمارات، الداخلية والخارجية، إلى القطاعات المنتجة ذات القيمة المضافة العالية التي تتطلب المهارات التقنية والعلمية. غير أنَّ هذه المهارات تهاجر حالياً خارج الوطن، بسبب انعدام وجود فرص العمل بدلاً من البقاء فيه منخرطة في استنفار مجتمعي شامل في عملية التغيير الاقتصادي الاجتماعي.
والجدير بالذكر هنا أنَّ الولوج إلى مجتمع العلم والتكنولوجيا وتوطينه والمساهمة في ابتكارات جديدة هو عمل جماعي يجب أن تنخرط فيه كل الفئات الاجتماعية من أدناها إلى أعلاها. فالنجاح في التكنولوجيا لا يمكن في ظروف اليوم أن يكون نجاحاً فردياً، بلْ النجاح الفردي هو نتاج في بناء وتنظيم القدرات الجماعية. والفشل الذريع في الاقتصادات العربية هو تجاهل هذه الناحية في عملية التنمية وتجزئة موضوع التنمية إلى قطاعات منفصلة بعضها عن البعض وكأن لا شأن للواحدة مع الأخرى.
وطالما تبقى الحركة الثورية العربية في حالة تناحر متعاظمة في ما بين ليبراليين وإسلاميين، فلن نتمكن من تركيز عقولنا وجهودنا على قضايا العلم والتكنولوجيا وتوطينها مجتمعياً. وربما تكون حدة الصراع بين أصحاب الرؤية المدنية للدولة وأصحاب القول بضرورة هيْمنة المرجعية الدينية هي نتيجة الفراغ الكامل في التفكير الاقتصادي والاجتماعي السليم، وفي التفكير في طرق تحقيق الاستقلال الاقتصادي الوطني قطرياً وقومياً وسبل الوصول إليه. ولا إمكانية في القرن الحادي والعشرين لأية دولة كانت أو مجموعة دول أن تكون محترمة في النظام الدولي والأنظمة الإقليمية المتفرعة عنها في غياب تملك العلم والتكنولوجيا والقدرة الابتكارية فيهما
|