أكدت السلطات السورية الحاكمة خلال الأيام القليلة الماضية على رؤيتها للأزمة التي تعيشها في سورية التي تقوم على: أن الصراع الدائر في سورية اليوم هو صراع ضد الإرهاب المقبل من الخارج في مواجهة نهج المقاومة الذي تمثله السلطات الحاكمة. وأضافت قيادات النظام أن: «المعركة لن تتوقف حتى القضاء على الإرهاب» و «أن من ينهي الأزمة في سورية هو السوريون وحدهم» وأن «السلطة السورية وافقت على كل المبادرات العربية والدولية من أجل إيجاد حل سياسي ولكن الأطراف الأخرى لم تقبل»!... كما قالت: «لا يوجد في سورية معارضة وطنية غير تلك التي تقف إلى جانب النظام».
وللترويج لتلك الرؤية قامت بتسويق إعلامي انخرطت فيه كل أجهزة السلطة في عملية انسحاب تدريجي عن مقولات سابقة كانت قد طرحتها تنص: «أن للأزمة أبعاداً داخلية ومطالب عادلة» و «أن هناك حاجة لإصلاح جدي» و «أن هناك معارضة وطنية نختلف معها ولكنها ترفض العنف وترفض الاستقواء بالخارج».
وسنقف عند تلك النقاط منطلقين من ثوابت محددة.
أولها: أن الصراع في سورية هو في أحد أوجهه صراع ضد الإرهاب، وتحديداً الإرهاب الذي تمارسه منظمات أصولية عنفية استغلت مناخات الثورة وأجواء العنف السلطوي لتفرض ذاتها جزءاً من معادلة الصراع. ولكنه في أوجهه الأخرى صراع ضد القمع والاستبداد والفساد الذي تمثله السلطة، وكلنا يدرك حجم القمع ليس بمواجهة الحركة الاحتجاجية الشعبية التي انطلقت في آذار (مارس) 2011 فحسب، وإنما الذي وسم ممارسة وتركيب السلطة الحاكمة على مدى تاريخ استيلائها على مقدرات الدولة والمجتمع أيضاً، وهو قمع دموي في بعض المراحل، وقمع أمني وسم ممارسات الأجهزة الأمنية المتغولة على جميع مؤسسات الدولة، وقمع قانوني عبر إصدار قوانين تصادر الحريات العامة وفي مقدمها قانون إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية الذي استمر طوال سنوات حكم النظام وحتى السنة الماضية، والتي جرى بموجبها اعتقال الآلاف من المواطنين لعشرات من السنين بسبب آرائهم ومعتقداتهم السياسية وجرى بموجبها تحصين الأجهزة القمعية من أي مساءلة قانونية.
والمعركة ضد الإرهاب لا يمكن أن تكون استنسابية، بل هي معركة ضد كل الإرهابيين بمن فيهم الإرهابيون الأصوليون المتطرفون الذين يريدون أن يفرضوا قناعاتهم بقوة السلاح. والمعركة ضد الإرهاب هي معركة الديموقراطية وبناء الدولة المدنية وقواها الديموقراطية، ولا يمكن أن تكون أدواتها ميليشيات حزبية وشبيحة ومجرمين جنائيين تجرى تعبئتهم للقضاء على خصوم السلطة، حيث إن ذلك النوع من الحرب يؤسس لحرب أهلية وليس لمقاومة الإرهاب، ولا يجوز، أن تقود السلطة عصابات خارجة عن القانون، ولا يغير ذلك من شرعنة وجود عمل تلك العصابات وإعطائها تسميات «رسمية».
إن القضاء على الإرهاب يتم بالقضاء على حواضن العنف، عبر حل سياسي وتأييد شعبي عريض يجفف ينابيع الإرهاب وروافده و يمهد لمحاصرته.
ثانياً: إن أي حسم عسكري في ظل انقسام مجتمعي حاد وتجاذبات إقليمية ودولية عميقة أضحى مستحيلاً، وهو يطيل مدى الصراع ويعمق من مآسيه، والاعتراف باستحالة هذا الحسم هو المدخل الوحيد للبحث عن حل سياسي. والمسألة هنا، ليست قراءة سياسية أو حتى ميدانية تغلب عليها الإرادوية أو الرغبوية، فبالتأكيد كل طرف من أطراف الصراع يحلم ويأمل ويرغب ويعمل على الانتصار الكامل والحاسم، لكن تجربة السنتين الماضيتين دللت على صحة القراءة التي تقول بفشل الرهان على الحسم العسكري قبل تحقيق تسوية سياسية، بل إن طبيعة التركيب الديموغرافي في سورية تساعد على تحول الاحتراب والصراع المسلح إلى حرب أهلية مدمرة للوطن والكيان، وبالقطع لن يحسم في النهاية الصراع إلا بتسوية سياسية، ولا يفيد الحديث عن انتصارات هنا أو هناك ولا عن انتظار دعم من هنا أو من هناك ولا عن انضمام أطراف أخرى إلى ذلك الجانب أو إلى الجانب آخر.
ثالثاً: إن ادعاء السلطة بأنها قبلت أو على استعداد للقبول بمبادرات الحل السياسي هو أمر مشكوك فيه للأسباب الآتية:
الأول: إن حديث الحرب لدى النظام طغى تماماً على أي حديث عن التسوية السياسية منذ بداية الأحداث حتى اليوم، فالتسوية المطلوبة عند السلطة هي التي تأتي بعد الانتصار وبعد الحسم العسكري!
الثاني: إن أي حل سياسي يقوم بين أطراف متعددة وهي بالضرورة مختلفة ومتباينة، ومن المستحيل الحديث عن تسوية لا يوجد فيها آخر، ولا يمكن أن يكون الآخر في التسوية هو ذاك الذي هو على شاكلة الطرف الأول أو من صنعه. السلطة تقول إنه ليس هناك معارضة غير تلك التي تنضم إليها وتتعاون معها! هي ترفض الحل السياسي مع القوى التي تقول إنها نقيض لها أو بديل عنها. وبهذا المعنى يصبح الحل السياسي هو الاستسلام لها.
الثالث: إن رفض الاعتراف بوجود معارضة وطنية ديموقراطية من غير اتباع السلطة ينسجم تماماً مع توصيف السلطة بأن المعركة هي اليوم معركتها ضد الإرهاب الذي يمثله خصومها، لأن اعترافها بوجود آخر وطني ديموقراطي يغيّر قواعد الصراع الذي تقوده، ويضعه في صيغة مخالفة لما تريد، حيث هو صراع بين قوى وطنية ديموقراطية وبين سلطة قمعية، وهنا تبدو السلطة على استعداد لتدمير أي معارضة وطنية ديموقراطية عبر التهميش أو الضغط أو الاحتواء على حساب معركتها ضد من تسميهم الإرهابيين.
الرابع: إن الحديث عن حوار بين السوريين أنفسهم لا يبقى له معنى بعد أن رفضت السلطة الحاكمة أي حوار مع قوى المعارضة طوال أكثر من عشر سنوات كانت خلالها ترفض حتى الاعتراف بوجود أي معارضة وتصر على شعاراتها بسلطة الحزب القائد، وقائد المسيرة، والآخرون هم مجرد رعية لا شأن لها في إدارة الدولة والمجتمع. ولا معنى للحوار أيضاً في ظل تلك التعقيدات الطارئة من تدخلات إقليمية ودولية أضحت شديدة الوضوح وشديدة التأثير باعتراف جميع الأطراف، وفي ظل انعدام تام للثقة بين السلطة وبين قوى المعارضة.
الخامس: هل وافقت السلطة حقاً على جميع مبادرات التسوية وهل الطرف الآخر هو الذي رفضها؟ من حيث الشكل نعم أعلنت السلطة تأييدها لكل المبادرات السياسية وأقصد هنا تلك التي قدمتها الجامعة العربية والأطراف الدولية بما فيها مبادرة جنيف، لكن إعلان التأييد اللفظي للمبادرة ورفض مضامينها ليس لهما أي معنى. ولنقف قليلاً عند المبادرة الدولية الأخيرة التي جاءت تحت عنوان جنيف (2) وتفاهمات جنيف (1) لقد تضمنت تلك المبادرة مجموعة قواعد وأسس رفضتها السلطة الحاكمة في سورية بالمطلق، في الوقت التي قالت إنها توافق على المبادرة من حيث الشكل، فهي أولاً طرحت مبادرة خاصة بها بدل إعلان القبول بتفاصيل تلك المبادرة الدولية، وقالت السلطة إنها لن تقبل بإيقاف العنف في شكل متبادل، وهو أول الأسس التي قامت عليها تفاهمات جنيف، وقالت إنها لن تقبل بفترة انتقالية من أجل تحقيق التغيير الديموقراطي، وإنها لن تقبل بحكومة انتقالية ذات صلاحيات كاملة، وإنها لن تفرج عن المعتقلين إلخ...
ونحن نتحدث عن الإرهاب وعن التسوية وعن الاعتراف بالآخر، ندرك أن السلطة ليست وحدها من يقف في المقلب الآخر، فالرهان على حسم عسكري تشاركها فيه بعض القوى التي تقدم نفسها بأنها معارضة، وتشاركها أيضاً برفضها للآخر وعدم الاعتراف به، وباستخدامها قوى الإرهاب الأصولي للأسباب نفسها التي طرحها النظام ولكن، يبقى من المهم تأكيد أن الخيار الوحيد أمام سورية لعدم الانجراف التام إلى أتون الحرب الأهلية وإلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه هو السعي الجاد والصادق والعميق من أجل عقد مؤتمر جنيف (2) على قاعدة تفاهمات جنيف (1) والسعي من أجل إنجاحه في الوصول إلى تسوية تقود إلى بناء الدولة الديموقراطية البرلمانية التعددية عبر مشاركة جميع القوى الفاعلة ولينصرف السوريون جميعاً للبناء ومحاصرة ما يتبقى من قوى الإرهاب.
المصدر: جريدة الحياة، الأربعاء ٢٨ أغسطس ٢٠١٣
|