من الواضح الآن أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي سادت بالنصف الأول من القرن الماضي.
كذلك نجد الآن توظيفاً واسعاً واستثماراً كبيراً للحراك الشعبي العربي من أجل خدمة مصالح وأجندات خارجية، وهناك وضعٌ مأساوي داخل عدّة بلدانٍ عربية، ممزوجٌ أحياناً بتدخّلٍ خارجي، تزداد فيه الانفعالات الغرائزية التي نراها تحدث بأشكال طائفية يواجه فيها بعضُ الوطن بعضَه الآخر، وكأنَّ هذه البلاد العربيّة قد فقدت البوصلة التي توجّه حركة قياداتها، فإذا هي بمركبٍ تلطمه أمواج بحرٍ هائج وتدفع به الرياح في كل صوب بينما طاقمه مشغولٌ عنه بأموره الخاصّة!!.
إنَّ التطورات الحاصلة في المنطقة، تحمل طابع المصالح والمنافع الإسرائيلية فقط، بينما "الآخرون" - وهم هنا العرب والأوروبيون والأميركيون ودول العالم الإسلامي- يتضرّرون ممّا في هذه التطورات من مخاطر أمنيّة وسياسية على مجتمعاتهم وأوطانهم وعلى مصالحهم المشتركة. فالانقسامات الطائفية والمذهبية تزداد في المنطقة، وأصوات العداء بين {الشرق الإسلامي} وبين {الغرب المسيحي} ترتفع حدّةً!.
هناك الكثير من "المعارك" الإسرائيليّة التي جرت سابقاً تحت {راية أميركيّة}، لكن المصالح الأميركيّة كانت جزءاً من ضحاياها أيضاً! فهل ستقدر الإدارة الأميركيّة ودول "حلف الناتو" على ضبط نتائج فلتان الأوضاع الأمنيّة في البلدان العربية؟! ألا يكفي العراق وأفغانستان نموذجين لنتائج السياسات الغربية الفاشلة؟!.
أمّا على الطرفين العربي والإسلامي، ف"الإسرائيليّات" موجودة بكثافة. وهناك عربٌ ومسلمون يقومون بخوض "معارك إسرائيليّة" تحت {رايات وطنيّة أو عربيّة أو إسلاميّة}. وهم عمليّاً يحقّقون ما كان يندرج في خانة "المشاريع الإسرائيليّة" للمنطقة من سعي لتقسيم طائفي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة لصالح فئات تستفيد من فتات الأوطان فتقيم جزر ممالكها الفئويّة الخاصّة ولو على بحرٍ من الدّماء. أليس هو مشروعٌ إسرائيلي تفتيت المنطقة العربيّة إلى دويلات متناحرة؟ أمَا هي مصلحة إسرائيليّة كاملة نتاج ما جرى في العراق من تفكيك لوحدته الوطنية، وفي السودان من تقسيم لكيانه الوطني الواحد؟ أليست هي أيضاً رؤية إسرائيليّة لمستقبل لبنان وسوريا والأردن ومصر واليمن ودول المغرب والخليج العربيين؟!
لقد ترسّخت في العقود الأربعة الماضية جملة شعارات ومفاهيم ومعتقدات تقوم على مصطلحات "الإسلام هو الحل" و"حقوق الطائفة أو المذهب" لتشكّل فيما بينها صورة حال المنطقة العربية بعد ضمور "الهويّة العربية" واستبدالها بمصطلحاتٍ إقليمية ودينية وطائفية.
وهاهي الآن بلاد العرب تشهد حركات تغيير وحراك شعبي واسع من أجل الديمقراطية، لكن بمعزل عن القضايا الأخرى المرتبطة بالسياسات الخارجية، وبمسائل "الهويّة" للأوطان وللنظم السياسية المنشودة كبديلٍ لأنظمة الاستبداد والفساد.
وهاهي ثورات حدثت تترافق مع تساؤلاتٍ عديدة عن طبيعة الحكم في كلٍّ منها في ظلّ تزايد المخاوف من هيمنة اتجاهات سياسية دينية على مقدّرات الحكم.
وهكذا تمتزج الآن على الأرض العربية مشاريع تدويل أزمات داخلية عربية مع مخاطر تقسيم مجتمعات عربية، وسط رياحٍ عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي، ومن قلب هذه الأمّة حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي.
للأسف، يعيش العرب اليوم عصراً أراد الفاعلون فيه، محلياً وخارجياً، إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو في ضمان "حقوقهم" الطائفية والمذهبية، وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب وجعلها ساحة حروب لقوى دولية وإقليمية تتصارع الآن وتتنافس على كيفيّة التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها.
هناك حتماً أكثريّة عربية لا تؤيّد هذا الطرح "الجاهلي" التفتيتي ولا تريد الوصول إلى نتائجه الوخيمة، لكنّها أكثرية "صامتة" إلى حدٍّ ما، ومن يتكلّم منها بجرأة يفتقد المنابر الإعلامية والإمكانات المادية، فيبقى صوته خافتاً أو يتوه هذا الصوت في ضجيج منابر المتطرّفين والطائفيين والمذهبيين الذين هم الآن أكثر "حظّاً" في وسائل الوصول إلى الناس.
لقد استغلّت أطراف خارجية ومحلية سلبيات كثيرة لحال "النظام الرسمي العربي المريض"، لكن هذه الأطراف قزَّمت الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء في كلّ بلد عربي، فتحوّلت الهوية الوطنية إلى "هُوية مناطقية"، والهويّة الدينية الشمولية إلى "هويّة طائفية ومذهبية" في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتّى من اتجاهٍ سياسيٍّ آخر!
لقد جرى في العقود الماضية "تسييس" الدين، ويتمّ الآن "تطييف" و"مذهبة" كل عمل سياسي وعسكري، وهذا بحدّ ذاته يُحوّل الخلافات السياسية وصراعات المصالح إلى فتن طائفية ومذهبية لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
لقد أصبح فرز "قوى المعارضة" عربياً يتمّ على أسسٍ طائفية ومذهبية وإثنية في ظلّ التركيز الإعلامي العالمي على التيّارات السياسية الدينية في المنطقة ككل، فعن أيِّ "معارضة وطنية" يتحدّثون؟!.
ثمّ لو سألنا كلَّ إنسانٍ عربي عن أولويّة اهتماماته العامّة الآن، لكانت الإجابة حتماً محصورةً في أوضاع وطنه الصغير، لا "وطنه العربي الكبير"، ولا قضيّته الكبرى فلسطين، فالأمَّة الواحدة أصبحت الآن "أمماً"، وفي كلٍّ منها "أممٌ متعدّدة" بتعدّد الطوائف والأعراق والعشائر، ولدى كلٍّ منها أزمته الحادّة وصراعاته المفتوحة دون أن يلوح أفقُ أملٍ أو حلٌّ قريب.
إنّ الخطر الأكبر الذي يواجه العرب حالياً هو انشغال شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلية. فمن رحْم الأزمات القائمة الآن تتوالد صراعات سياسية وأمنية عديدة يدفع البعض باتجاه تحويلها إلى صراعات طائفية ومذهبية وإثنية. ذلك كلّه يحدث في ظلِّ "المشروع الإسرائيلي" الهادف إلى تقسيم البلاد العربية، بحيث تكون الدولة اليهودية في المنطقة هي الأقوى وهي المهيمنة على "مشاريع الدويلات" التي قد تنتج عن هذه الفتن.
وعلى جوار حدود الأرض العربية، تتقدم "مشاريع إقليمية" تستفيد من غياب المرجعية العربية ذات "المشروع" الضامن لمصالح الأمّة العربية. ولو لم يكن حال الأمّة العربية بهذا المستوى من الوهن والانقسام، لما كان ممكناً أصلاً استباحة بلاد العرب من الجهات الأربع كلّها.
إنّ إلقاء المسؤوليّة فقط على "الآخر" الأجنبي أو الإسرائيلي فيما حدث ويحدث في بلاد العرب من فتن وصراعات طائفيّة وإثنية هو تسليمٌ بأنّ العرب جثّة هامدة يسهل تمزيقها إرباً دون أي حراك أو مقاومة. فإعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم في خدمة الطّامعين بهذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، كما أنّ عدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم التي تغذّي الصّراعات والانقسامات، جيلاً بعد جيل.
إنّ الصراعات والتحدّيات وحركة التغيير، هي قدَر أرض الأمّة العربية على مدار التاريخ، لكن ما يتوقّف على مشيئة شعوبها وإرادتهم هو كيفيّة التعامل مع هذه التحدّيات، وهو أيضاً نوعية التغيير الذي يحدث على كياناتها وفي مجتمعاتها.
هناك بلا شك خميرةٌ عربية جيدة صالحة في كلّ بلدٍ عربي وفي أكثر من مكان بالخارج، وهي خميرة رافضة لما يحدث بين العرب من انقساماتٍ وتدخّلٍ أجنبي، لكنّها تعاني الآن من صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ السياسي والإعلامي المسيطر، إلاّ أنّ تلك الصعوبات لا يجب أن تدفع لليأس والإحباط بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون في وحدة بلدان هذه الأمّة ويشعلون نار الفتنة في رحابها.
فمن الطبيعي أن تنتفض شعوب المنطقة وأن تُطالب بأوضاع أفضل وأن تسعى من أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، لكن المشكلة أنّ التحرّك الجماهيري يحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف، وليس لمصالحها الخاصّة.. ويبقى السؤال المهمّ: لماذا قطار الديمقراطية الآن في البلاد العربية يسير فقط على سكة تجزئة الكيانات وعلى الفتن بين الشعوب، وصولاً إلى محطة الإخضاع الكامل للسيطرة الأجنبية؟!
المصدر: مجلة الوعي العربي 20/06/2013
|