يعيش لبنان مرحلة حرجة جداً تنذر بتداعيات خطيرة تهدد أمن مجتمعه، في ظل دولة معطلة لم تعد قادرة، ولو في الحد الأدنى، على التعامل مع الصراعات المتشابكة التي تعصف في محيطه، ولا على مواجهة انعكاسات هذه الصراعات على الداخل اللبناني.
إن المعاينة الموضوعية لواقع بلدنا اليوم، ومن ثم استقراء المستقبل القريب الذي بات محدد المعالم، يضعان أمامنا الحقائق الآتية:
1ــ يتأكد كل يوم عجز الدولة المتفاقم عن أداء وظائفها الأساسية في المجالات كلها، الدفاع والسياسة الخارجية والأمن وصون الوحدة الوطنية، دون ذكر تقصيرها المتمادي عن تحمل مسؤوليتها في الخدمات العامة والإدارة الاقتصادية والأمن الاجتماعي وبسط سلطة القانون ومكافحة الفساد وغيرها، وصولاً إلى إفلاسها في إدارة خلافات الأطراف السياسية التي يفرزها النظام من ضمن آلياته الشكلية.
2ــ وإذ يفتقد النظام السياسي القائم على الاقتسام الطائفي للبنانيين وللدولة الأساسات الخارجية التي ترسخ عليها بعد الحرب والتي سمحت بفرضه على اللبنانيين ثم بالتمديد له اصطناعياً، فقد بات اليوم عاجزاً عن استبقاء الشرعية، ولو الشكلية، للمؤسسات الدستورية للدولة. فمجلس النواب سوف يكون فاقداً للشرعية بعد 20 حزيران 2013، وكل تمديد لولايته انقلاب موصوف، أما الحكومة فهي، إن تشكلت، سوف تجد برلماناً فاقداً للشرعية لا يستطيع أن يمنحها هي أيضاً أية شرعية. والأمر عينه ينطبق على رئاسة الجمهورية بعد أشهر عندما يحين موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
3ــ إن الدولة اللبنانية مهددة بالسقوط، واقعياً وقانونياً، وهذا تترتب عليه نتائج خطيرة أبرزها:
ــ إن الغالبية الساحقة من الأسر التي يتلقى معيلوها أجورهم من العمل في لبنان وبالعملة الوطنية، ولا سيما العاملون في الدولة وفي المؤسسات التابعة لها (الموظفون المدنيون والعسكريون والمستخدمون)، معرضة لفقد مداخيلها ومدخراتها، مثل ما حدث عندنا في حقبة الثمانينيات، وكما نشهد حولنا اليوم في العالم، مع ما يترتب على ذلك من زلازل اجتماعية.
ــ إن يأس اللبنانيين من الركون إلى الدولة، بأجهزتها الإدارية والأمنية والقضائية، سوف يدفعهم أكثر فأكثر صوب الهجرة والاستزلام لقادة الطوائف والرضوخ لأصحاب المال مالكي السلطة الفعلية، ما يُشرّع أبواب لبنان على العواصف الإقليمية حرباً أهلية لا تتوفر أية ضوابط لوقفها، أو حتى لإدارتها.
ــ إن سقوط الدولة اللبنانية يحرم البلد من كل حصانة يوفرها له القانون الدولي والأمم المتحدة، ويفتح الأبواب للتدخلات الخارجية بأبشع أشكالها وأخطرها.
حيال المآسي والعواصف الإقليمية، لا يقف اللبنانيون وحدهم أسرى للعصبيات الطائفية، بل أصبح زعماء الطوائف أنفسهم مقيدين بأدوار محددة ضمن منطق النظام ووفق شروط ارتباطاتهم الخارجية، فانعدم هامش التحرك لديهم في زمن يحتاج فيه لبنان إلى قرارات كبيرة. وبات النظام السياسي يفرز القلق باستمرار بينما تتغذى العصبيات الطائفية من القلق ذاته. هذه الحلقة الجهنمية ليست قدراً حتمياً، لا بل إنها لا ترتكز على أي مسوغ دستوري وشرعي. ويجدر، في هذا السياق، التذكير ببضع حقائق طالما سعى أركان النظام إلى طمسها:
إن النظام السياسي الطائفي يتناقض مع المرتكزات الأساسية للأنظمة المواطنية، التي تفرض المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، بل ويتناقض أيضاً مع المرتكزات الأساسية للدستور اللبناني ذاته الذي جعل «الشعب مصدر السلطات» وكرس «حرية الاعتقاد المطلقة». وهذا يعني ببساطة أن انتماء أي لبناني إلى هذه الطائفة أو تلك يجب أن يكون عملاً إرادياً شخصياً. وعليه فإن أي نظام انتخابي أو إداري يصنف اللبنانيين تلقائيا وإكراهيا ضمن طوائف هو باطل.
ليست الطوائف، بمدلولها القانوني، كيانات قائمة بذاتها، بل هي كيانات مجتمعية اعترفت بها الدولة وجعلت منها هيئات قانونية، ضمن منطق حرية الاعتقاد والتسامح. لكنها تحولت، في الممارسة، إلى كيانات سياسية بديلة من الدولة. وما كان لسطوتها أن تتعزز وتترسخ، على رغم انتشار العلم بين اللبنانيين وما قاسوه من المآسي، إلا نتيجة لترهل الدولة وانقيادها لمصالح المتسلطين، ولحاجة اللبنانيين إلى خدمات ومنافع وحمايات جعلهم النظام الاقتصادي والاجتماعي الجائر، القائم على الريوع والظلم والاستئثار والمتاجرة بالولاءات، مضطرين للسعي إليها.
من وجهة نظر القيم الإنسانية والدينية، فإن الإيمان الديني فعل شخصي وحرّ، والطائفية، متى تمأسست واستأثرت، تناقض هذه القيم، والطوائف، بتحولها من تشكلات اجتماعية إلى تشكلات سياسية، تقوم على العصبية، وعلى تكتيل الجماعات ونبذ الآخر، وتتصرف على أنها مستقلة من حيث مصالحها وطموحاتها وتطلعاتها داخل لبنان وخارجه، فتؤدي الى تفتيت المجتمع وتبديد الدولة. والتشكلات الطائفية لا تقوم على المذاهب الدينية فقط بل على خصوصيات اللغة أو النسب. يثبت الواقع التاريخي أن اللحمة الطائفية قد ارتكزت على مواجهة طغيان أنظمة حكم متسلطة، لا سيما تلك التي استندت إلى الدين، وصحيح أيضاً أن المنطقة تضم اليوم أنظمة ونزعات تسلطية تدعي الاستناد إلى الدين ويتوجب مواجهتها. لكن هذه المواجهة لا تكون بشد العصب الطائفي، لأن الطائفية تغذي التعصب الديني الأكثري من جهة وتدفع بالمجموعات الطائفية من جهة أخرى للارتهان إلى قوى المال والخارج، فيتفتت المجتمع وتتبدد الدولة. إنما تكون المواجهة بتثبيت أسس الدولة المدنية الديمقراطية على أساس المواطنة، حيث لا مصالح لطوائف بل لمواطنين، وهي وحدها التي تحمي حرية اعتقاد الأفراد وكرامتهم.
لذلك،
وفي ضوء ما تقدم، يؤكد مطلقو هذا النداء تشخيصهم للمرحلة ومنطلقات مواجهتها:
أولاً: إن الكتل المنخرطة ضمن النظام السياسي الطائفي تفرض على لبنان جدول أعمال خلافاتها ومراهناتها، وهي بمجملها باتت عاجزة عن تلبية حاجة المواطنين إلى الطمأنينة والكرامة، وأقصى ما يمكنها التوصل إليه تأجيل انهيار النظام بالكامل وانهيار السلم الأهلي، إنما على حساب نهش جسم الدولة ومصداقيتها. إن لبنان بحاجة ماسة إلى جدول أعمال مختلف.
ثانياً: إن إنقاذ لبنان يستوجب المبادرة إلى إعادة بناء الدولة والنظام السياسي والاقتصادي على قاعدة المواطنة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، بعد ان انهار وهم «الدولة الطائفية»، وفقد النظام القائم شرعيته وقدرته، وأمعن في تشويه ذاكرة اللبنانيين وتبديد طاقاتهم وآمالهم. وذلك يكون من خلال:
1ــ إرساء مرجعية شرعية مدنية ثابتة، و2ــ آليات فعالة للتمثيل الشعبي للمواطنين، بعيداً من أية كيانات وسيطة كالزعامات الطائفية، و3ــ تأمين انتظام موثوق لأداء السلطات التنفيذية والقضائية. وهذه الأركان الثلاثة قد تبددت وباتت مفتقدة.
ثالثاً: وإذ تنهار تباعاً المؤسسات الدستورية بدءا بمجلس النواب، ومنعاً لسقوط هيكل الدولة على رغم تعطل آليات عملها، وتأميناً لإدارة المرحلة الانتقالية المفروضة دون المرور بجولات عنف ودون انتظار ترتيبات وإملاءات الخارجية، فإن المحطة الحاسمة على طريق بناء النظام الجديد والدولة هي تشكّل «هيئة دستورية انتقالية»، تحظى بثقة اللبنانيين، وتتمثل فيها جميع الشرائح الاجتماعية التي ترتبط مصالحها باستمرارية الدولة، بما يتلاءم وحجمها في المجتمع ودرجة ارتباطها بمصالحه الطويلة الأجل، وتكون حكماً عابرة للتشكيلات الطائفية ومتخطية لمواقع التسلط. كما يجب أن تضم الهيئة الدستورية الانتقالية كفاءات فكرية وثقافية وعلمية وشبابية تضع المصلحة العامة فوق مصالح المقتدرين ومراهناتهم وارتهاناتهم.
رابعاً: إن المهمات الوطنية الملحة التي يجب أن تنفذها الهيئة الدستورية الانتقالية المنشودة هي:
1ــ وضع إعلان دستوري مؤقت يؤمن شروط قيام دولة مدنية ديمقراطية وينظم المرحلة الانتقالية بشكل سلس ومأمون.
2ــ بالاستناد إلى الإعلان الدستوري المؤقت، يجب الدعوة إلى انتخاب «مجلس نيابي تأسيسي» يتولى صياغة دستور دائم يرتكز على قواعد المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويقره اللبنانيون بالاستفتاء العام.
في ضوء ما تقدم، يتوجه الموقعون إلى كل القوى، أفرادا وحركات ومنظمات وجمعيات وهيئات مدنية وعلمية وحقوقية ونقابية ومهنية، لدعوتهم للانضمام إلى المسيرة الإنقاذية توصلا إلى جمع كل القوى الشعبية الحريصة على البلد.
لن يكون تشكيل الهيئة الدستورية الانتقالية واكتسابها لمشروعيتها ممكنين إلا بجمع شمل غالبية اللبنانيين حولها من خلال النضالات السياسية والاجتماعية في مختلف ساحات الحياة العامة، فتتعزز روح المواجهة في كل من الساحات ، النقابية والفكرية والشبابية والحقوقية، بنتيجة وجود طرح سياسي جامع واضح، وترفد التحركات في كل هذه المساحات بدورها التيار الإنقاذي العام، فيتحول يأس المواطنين وضياعهم إلى أمل ووعي وإرادة جماعية منظمة تنقذ الوطن وتعيد بناء الدولة.
تمر المشاركة في إطلاق المسيرة الإنقاذية بمحطتين حاسمتين:
تتمثل الأولى بانعقاد «مؤتمر وطني إنقاذي»، يثبّت أسس العلة ويرسم آفاق تخطيها وشروطه، ليس فقط على الصعيد الدستوري والتمثيلي، بل أيضاً على صعيد كل مراتب عقد اجتماعي جديد، يتناول جدول الأعمال الفعلي لهموم المواطنين وطموحاتهم.
ويتولى المؤتمر الوطني في محطة ثانية تنظيم «أيام الخيارات الوطنية» التي تناقش خلال ورش العمل التي تتضمنها وتحسم الخيارات الأساسية في كل من المجالات الحياتية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية، بما يتوافق مع المصالح العليا للمجتمع، وذلك بإشراك ذوي المعرفة والاهتمام.
دخلنا في زمن تغيرات كبرى، في العالم، وفي المنطقة، وفي غليان يجتاح مجتمعنا ويجيّش شبابنا. وبات اليوم ممكناً وضرورياً استعادة التراث السياسي لهذا المجتمع، بروافده كلها، وتحريره من أسر الاتهامات والتخوين، لطي مرحلة عمرها أربعون سنة من الآلام والتخبط، ولإعادة إحياء العمل العام والثقة بجدواه.
الخطر حقيقي وداهم، النظام الفاشل يتهاوى، فالمبادرة واجبة، والتغيير ممكن.
10 حزيران 2013
|