لم يكن خطف مطراني حلب بولس اليازجي ويوحنا إبراهيم في سوريا منذ أكثر من أسبوع هو السبب الرئيسي لعزم عدد من السوريين المسيحيين النازحين إلى لبنان على البقاء فيه، والمحاولة بشتى الوسائل للحصول على تأشيرة هجرة إلى أي دولة أجنبية غربية.
فالحادثة لم تشكّل أكثر من دليل دامغ على « صوابية » قرارهم بـ« اللاعودة » إلى الديار، وقد قرنت الشكّ باليقين بأنهم مجموعة لم يعد مرحّبا بها، من قبل « صنّاع » الثورة وأطراف النزاع.
في العلن، يتحدث السوريون المسيحيون عن الهاجس الأمني، فيلقون عليه اللوم بوصفه سبب النزوح والهروب وطلب الهجرة. أما في السرّ، فهم يتهيّبون من « حكم سلفي أصولي » لا يعترف بشريك آخر لا في الوطن ولا في المستقبل العام للمنطقة.
أمّا الشراكة بالحكم، فهي حلم تخلوا عنه منذ زمن، ولو أنهم يذكرون، بين الحين والآخر، أنهم سكان الأرض الأصليون الذين لم يتركوا بلادهم لا مع ولادة الإسلام ولا مع نشوء أي من الحروب التي خبرتها المنطقة على امتداد التاريخ.
لكن الوضع يختلف اليوم مع ما عايشوه من قتل ودمار، وهو ما جعل المسافة بين لبنان الذي نزحوا إليه ووطنهم سوريا أبعد من المسافة بين لبنان وأي بلد آخر. حتى ولو كان عدد قليل منهم يعرب عن نيّته العودة، فإن الشروط التي يفصح عن بعضها ويخاف من البوح عن بعضها الآخر، تكاد تكون تعجيزية بالمقارنة مع النيّة الشديدة والمحاولات المتكررة، التي لم يستسلموا أمام فشلها، للهجرة بعيداً.
من غير المعروف بعد إن كان المسيحيون السوريون هم من أحكموا الحصار على أنفسهم، فأقفلوا باب العودة إلى سوريا بينما أبواب البلاد الغربية موصدة بوجوههم. هكذا، لم يعد من مكان يلجأون إليه سوى لبنان، وقد بات أشبه بسجن بالنسبة إليهم، يلهثون فيه وراء لقمة العيش ويختبئون في قراه ومدنه، ليس فقط من أذرع الجزارين في سوريا، بل أيضاً من أي إحصاء قد يشملهم.
لهذا السبب، كما لأسباب أخرى، لا يصل إلى هؤلاء النازحين عينات الإغاثة بشكل منتظم وكاف، بينما يقعون في بعض الأحيان فريسة بعض الجمعيات والمنظمات الأهلية الطائفية، فتستجدي التمويل باسمهم من دون أن تعمد، بالضرورة، إلى مساعدتهم.
حتى الساعة، لم تعمد الكنائس، لا الشرقية ولا الغربية، إلى إعانة النازحين المسيحيين بشكل منهجي ومنتظم، فلم تشرّع لهم أبواب أديارها، ولم تقدّم لهم شيئاً من محصول حقولها. لم تشملهم إلا بخطابات تذكّر بضرورة الحفاظ على المسيحية المشرقية وعلى شرق متنوّع، أتت على لسان رؤسائها.
ربما تنتظر الكنائس أن تكتمل صورة الشرق الأوسط الجديد التي يرسمها الغرب. لكن المؤكد هو أن المسيحيين باتوا يدركون أن الدور الذي ظنوا طويلاً أنهم مؤتمنون عليه لبث روح التغيير في المنطقة وإرساء الديمقراطية، سبقتهم إليه جهات أخرى هبّت رياحها بما لا تشتهيه سفنهم.
ما من جهة في لبنان تملك رقماً دقيقاً أو شاملاً حول أعداد النازحين السوريين المسيحيين فيه (يبلغ عدد المسيحيين في سوريا نحو مليونين من أصل 23 مليون نسمة). ففي « المفوضية العليا لشؤون اللاجئين » تسجّل 2777 نازحا مسيحيا، يشكلون 0.9 في المئة من مجموع النازحين السوريين. تعرف المفوضية أن الجزء الأكبر منهم غير مسجّل لديها. وتقدّر « الرابطة السريانية » عدد النازحين المسيحيين من سوريا بنحو عشرة آلاف، يعيش عدد قليل منهم في أديار أو تجمعات صغيرة، بينما ينتشر معظمهم في المدن والقرى حيث استأجروا منازل أو يقيمون لدى أقارب لهم.
نزح المسيحيون من حلب وجوارها، فيما هرب عدد أقل منهم من دمشق ومحيطها. وهم، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، يعتبرون أن إقامتهم في لبنان ستطول، لأن العودة إلى سوريا مرهونة بوقف القتال وإعادة إعمار البلاد. وبينما يضعون الهجرة نصب أعينهم، يحاول عدد كبير منهم العمل في لبنان، فيما قلوبهم تتأرجح بين تصفية الأعمال وبيع الأملاك في سوريا وبين المحفاظة عليها. وهم في ذلك يحاولون « الاستفادة » من تجربة المسيحيين العراقيين والأقباط في مصر متخوّفين من « استكمال عملية التطهير » في المنطقة، وفق ما يقوله أحدهم.
تشبه حالهم اليوم حال القديسة بربارة التي هربت متخفيّة في الحقول والبراري خوفاً من عقاب أبيها الوثني. وهم يرتدون اليوم أقنعة يحاولون من خلالها إخفاء الكثير من الحقائق والمخاوف. يبدّلون أسماءهم أولاً، فلا يفصحون عنها، ويرفضون الحديث في السياسة. حتى قصة نزوحهم يخضعونها لمقصّ الرقابة الذاتية وهم يرغبون بتقرير مصائرهم كأفراد وليس كجماعة، متخوفين من أن تفرض عليهم خيارات جماعية لا يريدونها، مثل التوطين أو اللجوء السياسي.
طبقات وخيارات
هربت غالبية المسيحيين من سوريا بسبب استهداف مناطقهم مباشرة، على ما يقوله ابن حلب تيودوروس، أما الآخرون فمكثوا في مناطقهم « بانتظار القرارات الكبيرة ». والقرارات الكبيرة، بالنسبة للمسيحيين، هي تلك التي يمكن أن تؤدي إلى تهجيرهم من البلاد العربية على غرار مسيحيي العراق ومصر (وإن بدرجة أقلّ)، وأنهم لم يتلمسوا استهدافاً مباشراً لهم بعد.
نزح إلى لبنان من طاوله القصف، فقضى على منزل أو مكان عمل أو مدرسة... حلّ بعضهم ضيوفاً لدى أقارب وأصدقاء في البداية، لتختلف مصائرهم وتتبدل وفق واقع الحال المادي، الذي حدّد لهم في الأصل إمكان النزوح إلى لبنان أو البقاء وتحمّل المخاطر الأمنية.
يقول الدكتور ريمون، وهو طبيب متخصص في الجهاز الهضمي نازح من حلب إلى بيروت، أن فقراء الحال ليس لديهم الخيار وهم عاجزون عن النزوح بسبب الكلفة المادية. رأي لا يوافقه عليه الجميع على أساس أن الأملاك، من أراض وعقارات وغيرها، هي في الغالب ما يجعل مسألة ترك الوطن صعبة.
لكن الخوف المسيحي جعلهم بمنأى عن هذه المعوقات، فلا الماديات أخرّت من نزوح الفقراء ولا الأملاك والأشغال أبقت متوسطي الحال والأغنياء في مناطقهم، مفضلين الأعناق على الأرزاق.
ففي لبنان مسيحيون فقراء يبحثون عن لقمة عيش فلا يلقونها لا من خلال جهة دينية، ولا من خلال ربّ عمل جديد. بل هم يعيشون كل يوم بيومه، وجلّ ما يرجونه أن يعطيهم خبزهم كفاف يومهم، وأن ينجّهم الربّ من الشرير.
تروي وفاء أنها لم تحصل على خبزها ولا نجت من الشرير، لأن بكاء ليلى، طفلتها الصغيرة التي لم تكمل شهرها الثامن، لم يلق آذاناً صاغية ولا قلوباً ترأف بها. فأمها التي ما زالت تبحث عن عمل بعد موت زوجها في سوريا، تنقّلت بين سبعة أماكن قبل أن تلجأ إلى دير في كسروان. حاول رجال لبنانيون وسوريون التحرّش بها ، وكادت طفلتها تسرق منها لولا تدخّل أحد المارة في سوق جونيه. هو اقتادها إلى ذاك الدير وهي اليوم تعيش بحسب ما توفره لها إحدى الجمعيات. إلا أن كلّ ذلك لا يقيها الغضب من المصير المجهول والمستقبل الذي لم تعد تملك حتى القدرة على التخطيط له.
في المقابل، هناك نازحون مسيحيون قصدوا الفنادق الفخمة ولم يرضوا أن يتنازلوا حتى عن عطورهم، وهم يملكون حق تقرير المصير لأن البلاد الغربية تشرّع لهم الأبواب لاسيما إن حملوا إليها أعمالهم.
« أبعدوا شبح المفوضية »
تفصح المسؤولة الإعلامية في المفوضية دانا سليمان، أن فريق العمل يتواصل مع عدد من المطارنة والرهبان لحثّ النازحين المسيحيين على التسجيل لديها. تدرك أنهم « يخافون من أن يؤخذ هذا التسجيل كانتماء سياسي معيّن. لكن من الضرورة أن نصل إلى الأكثر حاجة منهم ».
بالنسبة إليهم، ليس ذلك سبباً مقنعاً. يقول وائل، الأربعيني والأب لولدين : « أشارت المفوضية إلى انه لا أموال لديها تكفي لإغاثة النازحين السوريين عبر بيان صادر عنها، فكيف تركض وراءنا. هل فقط لأخذ معلومات عنا لبيعها لجهات نافذة؟ وطالما ليس هناك من تمويل فلماذا نلجأ إليها وننتظر أشهرا لكسب كيس أرز وكيس سكّر؟ »
وائل، على غرار الشابة بانا، يرفض أن تعمد المفوضية إلى إعادة توطينهم في بلدان تختارها هي بحسب الطلب والكوتا، تماماً كما يرفضان أن تتحول طلبات الهجرة التي يتقدم بها المسيحيون إلى السفارات، إلى طلبات للجوء سياسي.
يحاول المسيحيون التمركز في المناطق اللبنانية المسيحية، وكان لزحلة والمتن وكسروان وبيروت حصّة الأسد منهم. قصدت غالبية المحتاجين منهم المطرانيات والجمعيات الدينية لنيل المساعدات فحصلوا على جزء زهيد « لم تستطع تلك الجهات تأمين أكثر منها ».
سمع عدد كبير منهم بنشاط « منظمة كاريتاس » ليدركوا أن هذا النشاط مرتبط بفعل الشراكة بعمل المفوضية. يقول رئيس « كاريتاس » في لبنان الأب سيمون فضّول أن من ساعدتهم مؤسسته، بالشراكة مع المفّوضية، « هم 92 في المئة من المسلمين و4 في المئة من المسيحيين و2 في المئة مما يعرف بمختلف ».
يضع فضول اللوم بداية على المسيحيين غير المسجلين في عدم وصول المساعدات إليهم، مؤكداً أنّ كاريتاس منظمة إنسانية ولا تعمل وفق الأديان.
ومن الجهات القليلة التي تعمل لإغاثة المسيحيين تحديداً، منظمة رفضت ذكر اسمها أشارت إلى أنها تواصلت مع الجهات المانحة من خلال تقديم خطة إغاثة لمدة ستة أشهر، وبفضل التمويل تقوم بمساعدة نحو ألف عائلة مسيحية. غير أن القيّمين على المنظمة لا يعرفون ماذا سيحّل بهؤلاء إن لم يتم رصد أموال كافية لضمان استمرارية الإغاثة عند انقضاء الأشهر الستة.
أما الأديار وبعض المطرانيات، فتعيل النازحين وفق ما يتيسّر لها من تبرعات ومن تمويل تحصده من رعاياها في الخارج.
مثلها، تجهد الرابطة السريانية، وجهات من الأشوريين والكلدان، لتشكيل لجنة لمتابعة أوضاع عدد من المسيحيين، إلا أن جهدها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما يأتيها من تمويل، وفق ما يقوله رئيس الرابطة حبيب افرام.
إلى ذلك، يسعى عدد من الجمعيات إلى استغلال وضع المسيحيين النازحين، فتعدهم بالمساعدات مقابل التوقيع على طلبات انتساب إليها، ثم تُحفظ الطلبات ولا تأتي المساعدات.
تجدر الإشارة إلى أن السناتور الأميركي فرانك وولف كان قد قام بزيارة إلى كل من مصر ولبنان واستمع إلى هواجس المسيحيين فيهما، لاسيما النازحين السوريين منهم، فاكتشف أن ما تمّ إرساله من أموال عبر جهات خاصة لإغاثة مسيحيين لم يصل إليهم.
بانتظار « الشرق الأوسط الجديد »..
مهما اختلف قول الدول الغربية وفعلها، يجد عدد كبير من المسيحيين النازحين أن الأحداث تدعوهم إلى بناء مستقبلهم بعيداً عن المنطقة. يسترجعون تجربة العراق اولاً، ومن ثم تجربة مصر، ويتوجسون من قيام نظام سوري جديد يقضم ما تبقى لهم من دور في سوريا.
بعضهم يسمي ما يحدث بالاضطهاد ويشير إلى أنه سوف ينتظر في لبنان حتّى اكتمال الصورة الجديدة لـ « لشرق الأوسط الجديد ».
يؤكد الأب فضّول أنه لا يمكن الحديث عن اضطهاد للمسيحيين في سوريا، على الرغم من خطف مطرانين وقبلهما ثلاثة رهبان. فالقتل والدمار يطالان الجميع.
في المقابل، يرى إفرام أن الأحداث الجارية تؤدي إلى تهجير المسيحيين من منطقة الشرق. ولكنه لا يؤمن بوجود مخطط يشملهم أو يأخذهم بالحسبان، كونهم لم يعودوا جسراً لتحقيق مصالح الدول الغربية. يقول : « ما من ملف خاص بالمسيحيين، لا على طاولة الأوروبيين ولا على طاولة الأميركيين ولا حتى السعوديين، فنحن لسنا على بال أحد ».
إلا أن المفكر الأب ميشال السبع يذهب إلى حدّ الكلام عن انتفاء الدور المسيحي في الشرق. « وقد حافظ المسيحيون على دورهم أولا عبر طرح المشروع القومي العربي مقابل السلاح العثماني، وثانياً من خلال التحول إلى جسر فعلي بين الدول الكبرى الغربية والنفط العربي. لكن مع تحول العلاقة بين الغرب والإسلام إلى علاقة مباشرة، بفضل تطور المدارس الإسلامية، وفشل إسرائيل في استخدام الورقة المسيحية كسلاح في وجه الإسلام، وجدت تل أبيب أن الحل لقبولها كدولة دينية هو العمل على انهيار الأنظمة العربية المعتدلة نسبياً واستبدالها بدويلات بزعامات إسلامية أصولية ».
أمام ذلك الواقع يعتبر السبع أن بقاء المسيحيين السوريين مرهون بانتصار الإسلام المعتدل الذي يقبل الآخر ».
المصدر: موقع الثورة 6/05/2013
|