بالنظر إلى ما يعصف بالمنطقة من اضطرابات، يؤكد المراقبون أن الخلفية الأساسية التي تكمن وراء أحداث الشرق الأوسط، ليست سياسية، إنما تتعلق بالدرجة الأولى بالغاز وموارده، أي أن الحروب في ليبيا وسورية واليمن ومالي أخيراً، ما هي إلا تبعات لـ"الربيع العربي" للسيطرة على أسواق الغاز وحقوله.يشكل الغاز فعلياً مادة الطاقة الرئيسة في القرن الواحد والعشرين، سواء من حيث بديل الطاقة المناسب للنفط، لا سيما مع تراجع احتياطي النفط عالمياً، أو من حيث الطاقة النظيفة، كونه أقل ضرراً للبيئة، ولهذا، فإن السيطرة على المناطق الغنية بالغاز في الشرق الأوسط، أو في دول أفريقية معينة، أو حتى في إيران التي تملك ثاني احتياطي للغاز في العالم، يعتبر بالنسبة للقوى الكبرى أساس الصراع الدولي في تجلياته الإقليمية.
حرب سورية
لا شك أن حرب الغاز، تشكل إحدى الخلفيات المهمة للأحداث في سورية، والظلال الخفية لهذه الحرب يتم التستر عليها، ولكن الغاز والسباق على استثماره من جهة، والبحث عن خطوط إمداد جديدة له إلى أوروبا ليشكل بديلاً للغاز الروسي من جهة أخرى، هما من أبرز خلفيات العدوان الحالي على سورية.
في الواقع، وإذا ما أجرينا مقارنة بسيطة مع الحرب التي كانت قائمة على ليبيا من قبل الفرنسيين والأميركيين لنهب الغاز فيها، يبدو أن الأمور تتكرر هي هي في سورية، بحيث أن شهية بعض الحكام العرب والغربيين لالتهام الغاز في سورية مفتوحة، والهدف الحقيقي من الحرب عليها ليس لفرض الديمقراطية، إنما هو للسيطرة على مواردها الطبيعية، لا سيما الغاز الذي يتوافر بكميات كبيرة، على أن هذا المخطط يصطدم بالجدار الروسي التي تعتبر الآن المزود الأساس لأوروبا.
وكان تردد في الآونة الأخيرة بعض المعلومات، التي أشارت إلى أنه لدى قطر مشروع لمد أنبوب لنقل الغاز منها إلى حمص عبر الأراضي السعودية والأردنية، وأن هذا الأنبوب سيلاقي الأنبوب "الإسرائيلي" في الأردن، ومن حمص سيتجه هذا الأنبوب إلى تركيا، حيث ينقل إلى ضفاف بحر البوسفور، ومن هناك إلى البر الأوروبي، لكن لا معلومات مؤكدة بعد في هذا الإطار.
هذا ويحوي حوض البحر المتوسط على 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، لذلك من الطبيعي أن يكون محط أطماع جهات خارجية عديدة، ترغب في الهيمنة على هذه الحقول، لكن ينصب التركيز على سورية في هذه المرحلة، لأنها جزء حيوي من مشروع خط الغاز العربي الممتد على 1200 كلم، ومشروع خط الغاز العربي، هو خط لتصدير الغاز المصري لدول المشرق العربي ومنها إلى أوروبا، وتتضمن الخطة إنشاء خط من مدينة العريش شمال سيناء إلى العقبة جنوب الأردن، والجزء الثاني من المشروع يصل بين العقبة والرحاب في الأردن، والتي تبعد 24 كلم عن الحدود السورية، أما الجزء الثالث للخط فطوله 324 كلم من الأردن إلى دير علي في سورية، ومن هناك سيمتد ليصل إلى قرية رايان، وعام 2006 تم الاتفاق بين مصر وسورية والأردن ولبنان وتركيا ورومانيا على توصيل خط الغاز إلى الحدود السورية – التركية، ومن هناك سيتم وصله بخط غاز نابوكو ليوصل بالقارة الأوروبية، وكانت سلطات مصر والأردن ولبنان وسورية، قد اتفقت عام 2004 مع العراق على توصيل خط الغاز العربي مع العراق، لتصدير الغاز العراقي لأوروبا أيضاً، لكن الخطط تأجلت بسبب الأوضاع التي طرأت على المنطقة عاماً بعد عام، وتنقلت بين دولة وأخرى.
إلا أن ما سبق، يوضح أن تغيير النظام السوري كان مخططاً له، كما الحال مع العراق وليبيا والصومال والسودان وحتى إيران، وإن لم تنجح الثورة الخضراء عام 2009، وبالطبع إن الدور المركزي لسورية في خط الغاز العربي، يفسر لماذا أصبحت اليوم مستهدفة بهذا الشكل.
خارطة الغاز
تبرز دول عدة على خارطة الغاز في العالم، وفي طليعتها تركمانستان وأذربيجان وإيران، لكن في ظل منافسة الغاز الروسي، ولأن غاز أذربيجان وتركمانستان من الصعب الوصول إليه كونه ضمن النفوذ الروسي، فإن سيطرة واشنطن على غاز المتوسط، سيكون أسهل بكثير، وسيضمن بشكل ما إزاحة الاحتكار الروسي للغاز الذي يتم تصديره إلى أوروبا.
لما كان الغاز الطبيعي عالمياً هو الأنظف في استخدامه، والصديق بدرجة متقدمة للبيئة، والأرخص في تكاليف استخراجه، كان التساؤل، هل الدول الكبرى المسيطرة في العالم، ستترك مثل هذا الكنز وحاله بينما هي في أمس الحاجة إليه، أم تسعى وراءه للاستفادة منه، حتى وإن كان على جثث مواطني الدول التي تحلق من حوله؟
من هنا كانت الحروب، وأغلب الظن أنها ستستمر إلى حين، وقد بدأت بالفعل في ليبيا، وهي قائمة الآن في سورية، وغداً ربما نشهدها بين مصر و"إسرائيل" بعد حصول خلافات عديدة بشأن نقل الغاز المصري إلى "إسرائيل"، أو بين "إسرائيل" ولبنان بسبب الخلاف حول حقل تمار وايثان.
على سبيل المثال، ومع ما جرى في لبيبا، تساءل الكثيرون، لماذا فرنسا تحديداً هي رأس حربة الناتو هناك؟ والجواب طبعاً له علاقة بالغاز، ففي 2007 اكتشفت شركة توتال النفطية الفرنسية حقل غاز طبيعي هائل في ليبيا، أطلق عليه اسم NC7 ويقع غربي البلاد، وهو ببساطة من شأنه أن يكفي حاجة أوروبا من الغاز لمدة 30 سنة.
وقد تردد آنذاك أن أوروبا المترنحة مالياً والتي كانت تعاني من تبعات انهيار قيمة اليورو، سارعت إلى إطلاق عملية "رياح الجنوب 2011"، بالتعاون الفرنسي البريطاني وبسرعة البرق، لإسقاط نظام معمر القذافي، واتخاذ أحاديث "الربيع العربي" كستار لإقناع الرأي العام العالمي بضرورة سحق نظام ديكتاتوري، بينما في الأساس كانت هناك علاقات وروابط شديدة.
ما جرى في ليبيا هو الحلقة الأولى من سلسلة حروب الغاز، الحلقة الثانية كانت في سورية، ثم في مالي حيث تدخلت فرنسا بذريعة القضاء على الإرهاب، بينما توجه أنظارها إلى حقول الغاز واحتياطي اليورانيوم أيضاً، لكن هناك توقعات باندلاع حروب غاز جديدة في المنطقة، لا سيما بعد أن عرضت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو السابقة، خطة لتدعيم قدرات البحرية "الإسرائيلية"، وذلك بشراء أربع سفن عسكرية جديدة، ستكون مهمتها حماية طوافات البحث عن الغاز في البحر واستخراجه خارج المياه الإقليمية "الإسرائيلية"، لمسافة تمتد 150 كيلومتراً في مياه البحر المتوسط.
وبحسب رؤية تحليلية للعسكرية "الإسرائيلية"، فإن توسيع نطاق عمل البحرية العسكرية "الإسرائيلية"، هو تطوير لنظرية قتالية، أملاها اختلاق حكومة نتنياهو لنظرية توسعية في البحر، أطلقت عليها اسم "الماء الاقتصادي لإسرائيل".
خلاف "إسرائيل" ومصر
على صعيد مواز، أعادت دعوى قضائية النزاع بين مصر و"إسرائيل" حول عدد من حقول الغاز في شرق البحر المتوسط، إلى الواجهة مرة أخرى، خصوصاً أن الدعوى تطالب بإلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الاقتصادية، التي وقعتها الحكومة المصرية مع نظيرتها القبرصية عام 2004.
وجاء في الدعوى، التي أقامها وكيل وزارة الخارجية الأسبق، السفير إبراهيم يسري، أن تلك الاتفاقية ترتب عليها "استحواذ" كل من قبرص و"إسرائيل" على حقول غاز طبيعي بمساحات ضخمة، رغم أنها أقرب إلى السواحل المصرية منها إلى سواحل الدولة العبرية.
وأكد يسري أن هذه الحقول، محل النزاع، مصرية مئة في المئة، لأنها تبعد عن ميناء دمياط بنحو 190 كيلومتراً، بينما تبعد عن حيفا بنحو 235 كيلومتراً، مشيراً إلى أن حدود المياه الاقتصادية 200 كيلومتر، طبقاً للقانون الدولي.
كما أكدت الدعوى أن حقل "شمشون"، الذي تستغله "إسرائيل"، يبعد عن الساحل المصري بنحو 114 كيلومتراً فقط، وفقاً للتصوير الجوي، والأقمار الصناعية، والاستخبارات البحرية، وهو ما يجعله يقع ضمن المياه الاقتصادية المصرية.
واتهمت الدعوى حكومة النظام السابق بالتقاعس عن الدفاع عن حق مصر في هذه الحقول لسنوات طويلة.
في حالة إيران
إلى ذلك، أدركت واشنطن أن من أهم طرق الوصول إلى وسط آسيا وغازه، إسقاط جنوب بحر قزوين، وعام 2002 تم احتلال أفغانستان، وعام 2003 تم احتلال العراق، وبقي أمامها احتلال إيران، فاحتلال إيران بثروات غازها وموقعها الجيو- سياسي، يكفي للقضاء على الاقتصاد الروسي والوصول إلى وسط آسيا والبدء بإضعاف روسيا، بل وإسقاط القوقاز، ولكن روسيا أدركت الخطر، وبدأ يظهر تحالف سري بينها وبين وإيران، ورغم كل الحديث عن المشروع النووي الإيراني، لم تستطع واشنطن شن عدوان على إيران، وبالطبع لأن إيران منذ غزو أفغانستان، بدأت بتطوير قدرات صاروخية مرعبة، يعتقد أن روسيا ساهمت بها، والمشروع النووي الإيراني لم يكن في أي ساعة مشكلة واشنطن، بل مشكلتها هي الوصول إلى وسط آسيا والسيطرة على الغاز الإيراني فقط لا غير.
عام 1992 أصبح النفط طاقة غير مرغوب بها، خصوصاً بعد قمة الأرض في ريو ديجينيرو، ثم توقيع الدول المتقدمة على اتفاقية كيوتو في اليابان، وبدء الحديث عن استعمال الطاقات البديلة، وخلق صراع ما سمي حصص الدول من خفض انبعاث الغازات، وعام 1994 ظهر أكبر خطر يهدد العرش الأميركي، حين قرر الاتحاد الأوروبي إلزام نفسه باتفاقية كيوتو والبدء بالانتقال إلى الطاقات البديلة، وكان هناك خطر على النفط من الغاز الطبيعي والوقود الحيوي، والغاز الطبيعي في تلك الأيام موجود في روسيا وإيران، فكان على واشنطن السيطرة على الغاز، إذ سيبدأ استهلاكه بشكل واسع على حساب النفط، وعلى واشنطن وضع اليد على منابع وممرات الطاقة، أولاً لتحافظ على قوتها، وثانياً لتتحكم بمن سيخفض انبعاث الغازات، وثالثاً لمنع ظهور أي تكتلات اقتصادية.
تمثل حرب الغاز معركة الشرق الأوسط المقبلة، لا سيما في منطقة شرق البحر المتوسط، إذ تتنازع "إسرائيل" مع سورية وتركيا ولبنان وقبرص ومصر وفلسطين المحتلة، متمثلة في قطاع غزة على الأحقية المشتركة لحقول الغاز المكتشفة حديثاً في شرق البحر المتوسط.
ترغب "إسرائيل" في الاستفادة الاقتصادية أحادية الجانب من الموارد المستقبلية لحقول الغاز، وهو أمر تعارضه سورية ولبنان بشكل جدي، يضاف إليهما تركيا في إطار التوتر الأخير للعلاقات بين "تل أبيب" وأنقرة، خصوصاً بعد تهديد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، بمنعها من الاستغلال الحصري لهذه الموارد بالاشتراك مع قبرص لبناء منشآت للطاقة.
وتنظر الدولة العبرية إلى تلك المنطقة على أنها "أرض الغاز والعسل"، إذ تجد في موارد الغاز المستقبلية أملاً في تحويل أمن الطاقة والاقتصاد "الإسرائيلي"، فمن المتوقع أن تتجاوز احتياطيات الغاز المكتشفة حديثاً تحت البحر مستويات الاستهلاك الحالية بعدة مرات، محققة استقلالاً هائلاً في مجال الطاقة والتصدير، في حال استولت عليها "إسرائيل" وحدها، فبحسب شركة "نوبل إينرجي" الأميركية المستكشفة للحقول، فإن التوقعات المستقبلية لحقل لوثيان الواقع على بعد 130 كيلومترا قبالة ميناء حيفا، تجعله أكبر اكتشاف للغاز في المياه العميقة في العالم خلال العقد الماضي.
فـ"إسرائيل" حالياً لا تجد سوى قبرص لتكون حليفة لها فيما يتعلق بإنشاء منشآت للطاقة في هذه المنطقة، خصوصاً أنها تربطها بها اتفاقيات حول الحدود البحرية، إلا أن هذه الاتفاقيات نفسها التي بين قبرص ولبنان تعيق ذلك، لرفض بيروت التصديق عليها في ظل وجود "إسرائيل"، وإن كانت مصر قد وافقت عليها لتسوية الموارد العابرة خط الوسط.
حرب غزة
تخوض "إسرائيل" حروباً على قطاع غزة بين فترة وأخرى، لكن هناك معركة مفتوحة بعيداً من الاهتمامات العربية، تتعلق بمنع "إسرائيل" السلطة الفلسطينية من تطوير حقل "غزة مارين" الذي تقدر احتياطاته من الغازية بترليون قدم مكعبة.
اكتَشف الحقل عام 2000 كونسورتيوم بقيادة شركة الغاز البريطانية "بي جي"، وكانت السلطة الفلسطينية منحت في تشرين الثاني 1999 شركة "بي جي" امتيازاً يمتد 25 سنة للتنقيب عن البترول في المياه الفلسطينية مقابل ساحل غزة، وعلى أثر اكتشاف الحقل، قدمت شركة بي جي للسلطة الفلسطينية عام 2002 خطة لتطوير الحقل، على أساس بدء الإنتاج منه بعد أربع سنوات.
بدأت المفاوضات مباشرة بعد اكتشاف الحقل، بين السلطة الفلسطينية وشركة "بي جي" من جهة، والحكومة "الإسرائيلية" من جهة أخرى، ضمن فصل التعاون الاقتصادي في اتفاقية أوسلو، وانطلقت المفاوضات في حينه على الأسس الآتية: حاجة "إسرائيل" إلى الغاز الطبيعي، خصوصاً بعد تقليصها كمية المنتجات البترولية لتوليد الكهرباء، وحيازة السلطة الفلسطينية احتياطاً من الغاز الطبيعي، وحاجة شركة "بي جي" لتسويقه، طبعاً تركز الاهتمام في البداية على تزويد محطة كهرباء غزة بالغاز، إلا أن الكميات المتوقع استهلاكها كانت ضئيلة نسبياً، ولا توفر لوحدها المعطيات الاقتصادية الكافية لإنجاح المشروع، ثم اقترحت شركة "بي جي" في حزيران 2000 على شركة الكهرباء "الإسرائيلية" الحكومية التي كانت في حينه محتكرة إنتاج الكهرباء في "إسرائيل" وتوزيعها، تزويدها الغاز من حقولها في مصر وفلسطين و"إسرائيل"، لكن "بي جي"، لم تكن الشركة الوحيدة ذات الإمدادات الغازية في المنطقة، فقد عرض كونسورتيوم مصري - إسرائيلي، "شركة غاز شرق المتوسط" بيع الغاز المصري لـ"إسرائيل"، وهذا ما تم بالفعل، ثم توقف بعد الثورة، أما اتفاق البيع، فتنظر المحاكم المصرية بشبهات فساد متعلقة به، نظراً إلى أسعار الغاز البخسة التي وفرتها مصر لـ"إسرائيل" في حينه وعمولات محتملة.
رفضت الحكومة "الإسرائيلية" في بادئ الأمر عرض "بي جي" لشراء غاز غزة لسببين رئيسين: اعتراض رئيس الوزراء آرييل شارون لأسباب أمنية، وقد غير رأيه في 2002، ثم تفضيل الغاز المصري بسبب سعره المغري، وقد توسط رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في المفاوضات، محاولاً إيجاد سوق "إسرائيلية" لغاز غزة، وفلح في إقناع شارون بسحب الفيتو، لكن الأخير وضع شروطاً تتضمن الاتفاق على تزويد "إسرائيل" 0.05 ترليون قدم مكعبة من الغاز الفلسطيني سنوياً لتوفير الغاز لـ"إسرائيل" لمدة 10 إلى 15 سنة
المصدر: موقع البديع نت 11/02/2013
|