french

English

 

دليل المواقع

برامج وأنشطة

أخبار

الأرشيف

طلب مساعدة

عن اللجنة

الصفحة الرئيسية

Arab Commission for Human Rights
5, rue Gambetta
92240-Malakoff- France
Tel 0033140921588 Fax 0033146541913

e. mail achr@noos.fr
 

عوامل حرف نهضة الشعوب المستضعفة -  فيوليت داغر

 

2013-03-21

اللجنة العربية لحقوق الإنسان

   

 

1-دوافع الدول المهيمنة.. واعادة انتاج انظمة موالية

عوامل حرف نهضة الشعوب المستضعفة: موضوع واسع، وحيث لا يمكن الاحاطة بجميع تفرعاته سنستعرض بعض جوانبه ونحاول الاجابة قدر الامكان عن الأسئلة المطروحة في محور البحث هذا بدءا بالسؤال الأول حول دوافع الدول المهيمنة في حرف نهضة الشعوب. غني عن القول أن المنطقة العربية تحتوي على مخزون كبير من الماء والغاز والنفط والمعادن الثمينة المختلفة. وعلاوة على أن لها ايداعات بمئات البلايين من الدولارات في الخارج والبنوك الأمريكية على وجه الخصوص، تعمل واشنطن على إنهاك دول الخليج اقتصادياً بدفع الأموال على ما يتعارض أحياناً كثيرة مع مصلحة شعوبها كما وشراء السلاح الذي لا يستعمل والحصول على التنازلات التاريخية لخدمة مصالحها. وحيث يفترض بالمنطقة العربية ان تكون كتلة ثقافية وسياسية واقتصادية لها مكانها في عالم اليوم، رُسم لها وجهة أخرى. فقد تبعت حقبة الامبراطورية العثمانية مرحلة الهيمنة الكولونيالية حيث تقاسمت بريطانيا وفرنسا كيانات المشرق العربي زمن الاستعمار. ثم كانت اتفاقية سايكس بيكو في 1916 التي قسمت الوطن العربى، ثم جاء بعدها وعد بلفور  الذي قضى بإقامة الكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين. تلى ذلك صك الانتداب البريطانى على فلسطين فى 29 سبتمبر 1922 والذى اعترف فى مادته الرابعة بالوكالة اليهودية وانشاء وطن قومى لليهود. بما أعطى الضوء الأخضر للهجرة اليهودية الى فلسطين، إلى أن أصدرت الامم المتحدة قراراً بتقسيم فلسطين فى 29 نوفمبر 1947.

من مثقفينا من يتكلم بتهكم عن نظرية المؤامرة ودون كبير إدراك أن هناك مؤامرة تستهدفنا فعلاً. مشكلتنا كذلك أننا لا نقرأ أو لا نستوعب ما يكتبون عنا، في حين أن أبحاثاً وكتابات كثيرة صدرت في الغرب تتحدث بصريح العبارة عن مخططاته وأهدافه في منطقتنا. على سبيل المثال، كانت مجلة وزارة الدفاع الأمريكية قد نشرت قبل سنوات مشروعاً خطيراً لتفتيت العالم العربي والإسلامي من باكستان إلى المغرب. صاحب هذا المشروع هو "برنارد لويس"، المستشرق البريطاني الأصل (مولود في لندن في 1916)، اليهودي الديانة، الصهيوني الانتماء والأمريكي الجنسية. وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" قد قالت أن هذا المؤرخ البارز للشرق الأوسط قد وَفَّرَ الكثير من الذخيرة الإيدلوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب، وهو يُعتبر بحقٍّ منظرًا لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية في المنطقة. لقد صاغ للمحافظين الجدد في إدارة بوش الابن إستراتيجيتهم في معاداة الإسلام والمسلمين، وشارك في وضع إستراتيجية الغزو الأمريكي للعراق.

في مقابلة أجرتها وكالة الإعلام مع برنارد لويس في 20/5/2005 صرّح بالآتي : "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات، ولذلك فإن الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة؛ لتجنُّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وخلال هذا الاستعمار الجديد لا مانع أن تقدم أمريكا بالضغط علي قيادتهم الإسلامية- دون مجاملة ولا لين ولا هوادة- ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة، ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا لتدمر الحضارة فيها".

عندما دعت أمريكا عام 2007 إلى مؤتمر "أنابوليس" للسلام، كتب لويس في صحيفة "وول ستريت" يقول:  " يجب ألا ننظر إلى هذا المؤتمر ونتائجه إلا باعتباره مجرد تكتيك موقوت، غايته تعزيز التحالف ضد الخطر الإيراني، وتسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية، ودفع الأتراك والأكراد والعرب والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضًا، كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر من قبل". لكن قبل ذلك وفي 1980، بدأ "برنارد لويس" وبتكليف من وزارة الدفاع الأمريكية  بوضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية جميعًا كلا على حدة، (ومنها العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والسعودية ودول الخليج ودول الشمال الإفريقي.. إلخ)، ثم تفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية. وقد أرفق بمشروعه المفصل مجموعة من الخرائط المرسومة تحت إشرافه تشمل جميع الدول العربية والإسلامية المرشحة للتفتيت. وكان ذلك بوحي من مضمون تصريح "بريجنسكي" مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس "جيمي كارتر الذي ورد فيه: "إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن (1980) هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود "سايكس- بيكو".. بعد ثلاث سنوات، أي في 1983، وافق الكونجرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية علي مشروع "برنارد لويس"، وتمَّ اعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأمريكية الإستراتيجية للسنوات المقبلة.

لن أخوض الآن في تفاصيل المشروع الصهيوأمريكي لتفتيت العالم الإسلامي "لبرنارد لويس"، فليس من متسع لذلك (ولمن يريد الاستزادة في البحث ليعد لما نشرته مجلة الوعي العربي تحت عنوان: بالخرائط تفاصيل مخطط برنارد لويس لتفتيت العالم العربي والإسلامي)، لكن أذكر أن مجلة " كيفونيم " التى تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية،  نشرت 1982 وثيقة باللغة العبرية بعنوان " استراتيجية اسرائيلية للثمانينات " تفصّل هذه الخطوط الأساسية. (ولمن يهمه الأمر هنا في دولة الكويت متابعة هذه الرؤى، تقضي خريطة شبه الجزيرة العربية والخليج بإلغاء الكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان واليمن والإمارات العربية من الخارطة كوجود دستوري، بحيث تتضمن ثلاث دويلات فقط: دويلة الإحساء الشيعية: التي تضم الكويت والإمارات وقطر وعمان والبحرين. دويلة نجد السنية ودويلة الحجاز السنية أيضاً حيث تتم إزالة الكيان الدستوري الحالي للدولة اليمنية بشطريها الجنوبي والشمالي واعتبار مجمل أراضيها جزءًا من هذه الدويلة). أشير أخيراً إلى أن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات أصدر عدده الأخير بعنوان: الشرق الأوسط: خرائط جديدة ترسم. وهو يضم 4 مقالات تدور حول تقسيم المقسم وتفتيت المفتت، ومنها توقعات أحد الكتّاب الأربعة بأن خريطة العالم قد تتشكل قريباً من 300 دولة.

ما أريد التشديد عليه في هذا الصدد هو أنه علينا كمتابعين أن نضع العدوان الذي تتعرض له المنطقة العربية فى مساره التاريخى ونراه كما هو  وعلى حقيقته، كمخطط متسلسل يتطلب عدم التناول المجزأ ورؤية الحوادث منفصلة عن بعضها. ذلك بغض النظر عن أن العمل الحثيث لتطبيق هذه المخططات قد أنجح هذه في بعض الأماكن، مقابل فشلها في أماكن أخرى بفعل المقاومات المختلفة وصراع الإرادات المتناقضة. لقد خرج ما يكفي من شواهد وبراهين موثقة تؤكد أن قرار الحرب ضد نظام صدام حسين قد اتخذ في البيت الأبيض و"10 داوننغ ستريت" في لندن، بعيد الحادي عشر من سبتمبر 2001. وتمت "فبركة" البراهين والشواهد على امتلاك هذه الأسلحة وعن الروابط مع القاعدة في إدارات جورج بوش الابن وطوني بلير دون علاقة بما أُسمي حينها "أسلحة الدمار الشامل العراقية"، أو علاقة النظام مع القاعدة التي اتخذت من عراق ما بعد صدام وما زالت ملاذاً آمناً لها ولدولتها الإسلامية. وكان معروفاً أن أهداف تلك الخطة السيطرة المباشرة على منابع النفط العراقية بغية التحكّم بالأسعار وبسياسات الكتل والدول المنافسة للولايات المتحدة. كما لاقامة مشاريع استثمارية تبقي موطئ قدم للشركات الأمريكية الآخذة في التمدد، على حساب السيادة الوطنية وبناء الدولة وتطوير العلاقات التجارية العربية البينية. كذلك لتفتيت المجتمع العراقي عبر تغذية النعرة المذهبية والعرقية وضرب أسسه الحضارية.

واليوم مع قرع طبول الحرب في سوريا يعود الاعلام ليصم آذاننا مجدداً بحكاية الأسلحة الكيميائية السورية، والمتاجرة بشعارات حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية. في حين صُرف النظر عن القاعدة و"جبهة النصرة" التي اتخذت من سوريا ملاذاً لها، والهدف تجميع "الجهاديين" فيها وضرب القاعدة والنظام بعضهم ببعض من دون أن تُضطر واشنطن أو أي من حلفائها لدفع الأكلاف الاقتصادية والبشرية التي دفعتها سابقاً. جوهر هذا الحلم سوريا ضعيفة مهزوزة ينطبق عليها ما خلص اليه خبراء مركز بيغن-السادات في اسرائيل : " ليس المهم من يحكم بعد الاستنزاف، لان الدولة السورية تكون قد ضعفت وخطرها قد انتفى".

بما يخص ليبيا، صدرت مؤخراً مراجع في الغرب تحوي تفاصيل عن ترتيب موضوع غزو هذا البلد بين قطر وفرنسا، وذلك قبل حصول اية انتفاضة شعبية فيه. وقد أكد ذلك سليفيو بيرلسكوني الذي كان ركناً من أركان العملية الأطلسية ضد ليبيا، حين صرّح بأن قرار الحرب على هذا البلد لم يكن بصلة بحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية فيه، بل برائحة النفط والغاز الليبيين وبنوايا استعمارية مُبيتة في قصر الإليزيه وساكنه آنذاك، نيكولا ساركوزي، كما لدى "فريق التدخل السريع" الذي يذهب اليوم لتنفيذ عمليات مشابهة في سوريا ومالي بقيادة ساكن الإليزيه الجديد فرانسوا هولاند.

مع رحيل بوش ومجئ حقبة أوباما كان اتباع مبدأ « القيادة من الخلف » هو القاعدة لتخفيف فاتورة الأكلاف. أي أن تترك واشنطن للأطلسي أو دول بعينها مهمة التدخل العسكري، لكن وفقاً لإملاءاتها أو تحت إشرافها. فرغم الرغبة بالبقاء قوة وحيدة مهيمنة، كان لا بد لأوباما من تخفيض سقف ال700 مليار دولار كنفقات دفاع، واحتواء الأزمات المتفجرة بشكل مغاير نوعاً ما عما سبق. وحيث أن الكلفة البشرية هي أكثر ما يثير بشكل مباشر مشاعر الأمريكيين، يتم التستر على الأرقام وتخفيض ما يعلن من خسائر، كون أعداد القتلى من المرتزقة لا تخضع لمراقبة السلطات الأمريكية كما يخضع لها جنودها. لكن، علاوة على الإضرار بمصداقية الولايات المتحدة في العالم بفبركة الذرائع المغلوطة لشن الحرب، فالأمن لم يتوفر والحرب على العراق لم تعط النتائج المرجوة من الحرب على الإرهاب. أما الكلفة الاقتصادية فكانت مرتفعة جداً والعجز في الميزانية وتعطّل عملية نمو الاقتصاد الأميركي كبير. خاصة وأن السيطرة المباشرة على منابع النفط في العراق تمهيداً للسيطرة على سائر المنابع في المنطقة لم يحصل كما خُطط له، مع تعطيل المقاومة العراقية لتلك السيطرة عبر ضرب الأنابيب. كذلك كانت الكلفة الاجتماعية مرتفعة، مع فرص نمو مهدرة بفعل ضغط النفقات ذات الطابع الاجتماعي.

2-آليات حرف نهضة الشعوب

إذا كان اشعال الصراعات والحروب يضمن انتاج السلاح وبيعه باستمرار من طرف الدول المهيمنة، فهو في الوقت عينه آلية من آليات حرف نهضة الشعوب المستضعفة. كذلك، مصالح الولايات المتحدة والغرب عموماً الجيواستراتيجية والعسكرية والاقتصادية في المنطقة العربية اقتضت العمل على ابقاء أنظمتها مطواعة. ومقابل أن تبقى هذه في السلطة، قبلت هذا الشكل الحديث للاستعمار، كما بالتطبيع مع اسرائيل بشكل أو بآخر، كون اسرائيل التي زرعها الاستعمار في قلب هذه المنطقة هي رأس حربته والعسكري الأمين لحراسة مصالحه.

لذا، فالذين ائتمنوا على مصالح الشعوب العربية انصرفوا لمحاربة مشاريع النهضة بدلاً عن قوى الهيمنة. فمرحلة التحرر من الاستعمار فلم تفلح طوال عقود من محاربة التهميش والتخلف السياسي والاجتماعي والإقتصادي. لا بل حصل تراكم مخيف للعسف والاستبداد واستشراء الفساد بانقضاض أقليات على حقوق الأكثرية في أوطان باتت أشبه بسجون يعم فيها الجهل والذل والتخلف والفقر والأمية. عدا عن انتشار السجون وتضخم أعداد مساجين الرأي وابتكار وسائل تعذيب أشد فتكاً وضراوة وضرب الحريات الفردية والجماعية.. حتى أصبحت قيم الشجاعة والكرامة والفضيلة واحترام الذات والحق بالاختلاف والتعددية وكل ما ينقل البشر من البربرية إلى الحضارة أشبه بنكتة عند طوابير من البشر استبيحت ممن سموا بمسؤولين سياسيين. مسؤولون يتصرفون كعصابات مافيا تتحكم بالأنظمة السياسية والاقتصادية والعسكرية وتمعن في استغلال النفوذ وإذلال الشعوب وخيانة الأوطان وارتكاب الجرائم والمحرمات تحت قشور من الرياء والفجور والنزالة والعمالة. فبات العلم والعقل نقمة والجهل نعمة، في زمن اهدار الطاقات الخلاقة بالقمع الفظ أو بالنفي المجرم. واذا كانت الثورة التقنية عنصر في الدمقرطة، فقد حُوّلت كأداة لمراقبة الانسان وتفييشه. باختصار، استلاب جملة الحقوق السياسية والمدنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية جعل إصلاح الحال من المحال.

وحيث لم تألو الهيمنة الأمريكية والصهيونية على المنطقة جهداً في محاولة تفتيتها لدويلات تقوم على اسس عرقية ودينية، فقد مارست الضغوط والذرائع المختلفة لتحقيق الغايات. منها: استعمال الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية كجندي أمين لسياساتها، والقفز فوق القوانين والأعراف الدولية، وعولمة حالة الطوارئ واستشراء المحاكم الاستثنائية والسجون السرية. ونعلم كم من الجرائم ارتكبت باسم محاربة الارهاب الذي استهدف الاسلام والمسلمين بالدرجة الأولى.. بذريعة الحرب على الارهاب هذه، وبعد شهر من أحداث ايلول 2001، تضمنت المطالب الأمريكية لحكومات الدول التابعة لها تقديم كشوف عن المعلومات الأمنية المتعلقة بالمنظمات التي تحتضنها والتي تم تصنيفها ارهابية، وتسليم قادتها وتجميد أموالها واغلاق مكاتبها. إضافة لطلب المساهمة المالية من هذه الدول، وتقديم مساعدات ومشاركة عسكرية في فتوحاتها عند الطلب، والتوقف عن التحريض الاعلامي بما يخص الارهاب.

لقد بات على كل سلطة قمعية أن تثبت بالدليل القاطع أنها تحارب "الإرهاب" ببادرة حسن نية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر جمهورية وديمقراطية. لكن تعلمون أن لهذه الديمقراطية قراءة خاصة لحقوق الإنسان. قراءة ابتعدت عن عالمية حقوق الانسان، وركزت على الحقوق الفردية السياسية والمدنية دون اعتراف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أقرها العهد الخاص بها. وهي لم تعترف بحق التنمية والبيئة وفق المعايير الدولية، كما وترفض الانضمام إلى الدول المصدقة على اتفاقية حقوق الطفل والمحكمة الجنائية الدولية. بحيث بات الأنموذج الغربي، وخصوصاً الأمريكي، لحقوق الإنسان أحياناً كثيرة عبارات مفرغة من معانيها. بما شجع الدكتاتوريات الصغيرة على الإفلات من عقالها وارتكاب كل المعصيات..

ومع افلاس النظام العربي في معارك الديمقراطية والتنمية والوحدة القومية، وتوسع القواعد الأمريكية في المنطقة، وانتشار التواجد المخابراتي الأجنبي، لم يعد لدى هذه الأنظمة ما تقوله في السيادة والاستقلال والقرار القومي.. كما أن قوى الهيمنة لجأت لذرائع شتى لتهديد هذه الكيانات التي عليها أن تبقى مطواعة تقبل ليس فقط بسيادتها، وإنما بالتطبيع مع الكيان الصهيوني الذي زرعه هذا الاستعمار في خاصرتها لحراسة مصالحه. وهؤلاء الحكام الذين بقوا عقوداً بالسلطة، طالما قدموا الخدمات المطلوبة، ساهموا بقدر كبير بتشويه الصورة عن الذات واحلال ثقافة التكيف مع الواقع واستهداف ثقافة المقاومة، ولو كان الثمن النقض العملي للالتزامات الدولية ومواثيق حقوق الانسان التي وقعت حكوماتهم عليها..

نعلم كذلك أنه من آليات الهيمنة نهب ثروات الشعوب، عبر تحويل كبار مسؤوليها للأموال المسروقة منها للخارج والتي يتم فيما بعد وضع اليد عليها. من أجل ذلك يستعان بخبراء محليين وأجانب لدفع السلطات للاقتراض الدائم وإثقال كاهل الشعوب بالمديونية، ولاخفاء الأموال المسروقة والأرصدة البنكية للقابضين على مقدرات البلدان وتحويل العمولات غير الشرعية التي تدفقت على أرصدتهم للخارج. وبالنظر للتجارب العديدة والسوابق الدولية في هذا المضمار، أصبح من الثابت أن عودة هذه الأموال المهرّبة صعب جداً إلا بتعاون المتهم نفسه بقضايا الإختلاس والسرقه، وهذا من شبه المستحيلات. استعادتها تبقى عملية معقدة في غالب الأحوال ويؤول مصيرها للفشل، وما يسترجع من الأموال ولو بنسب قليلة، ينفق جزء كبير منه على سبل رده.

من وسائط الهيمنة دور ال «سي آي ايه» والموساد في المنطقة. معروف دور العمليات التي قام بها الموساد وعملائه قتلاً وتنكيلاً وإفساداً وتخريباً في الدول المعادية وتدمير بنيتها التحتية. وسواء كانوا أفراداً أو مؤسسات أو دولاً، فقد كان يتم، وبمؤاذرة من دول غربية داعمة لإسرائيل، العمل على التخلص منهم أو تدميرهم وتصنيفهم في خانة الإرهاب. وحيث أن الاعتراف سيّد الأدلة، فقد أقر شمعون بيريز بمسؤولية إسرائيل في اغتيال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بعدما فتح التحقيق في ظروف وملابسات هذه الجريمة التي استهدفت رمزاً للنضال الوطني وتحييده من الساحة الفلسطينية لتنفيذ الأجندة المعدة بابتلاع الأرض وتهويدها وتهجير سكانها.  

تظهر تقارير لويكيليكس حقيقة تجنيد العملاء المحليين والذين منهم في أرفع المستويات للتعامل مع هذه المؤسسات والتعاون الوثيق في كل مفاصل الحياة السياسية والاعلامية والاقتصادية. منهم بعض الساسة والزعماء العرب الذين دعموا وآذروا قيام الكيان الصهيوني على الأرض العربية وخدموا المخططات الصهيونية بأفضل ما يمكن (ألم يتهم، على سبيل المثال، الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي بالتجسس لحساب المخابرات الأمريكية وقبض الرشاوى العالية لقاء ذلك؟). اعترافات جوردون توماس، الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي في كتابه "جواسيس جدعون Gideon's Spies" تلقي الضوء على تحول العواصم العربية إلى ساحة مفتوحة لمزاولة أنشطة الموساد، حيث كانت تقام علاقات سرية منفردة مع كل بلد عربي على حدة، ومن ثم يجري ابتزازه والتنسيق معه لتقديم الخدمات التآمرية. وقد جرى استغلال التركيبات السكانية المعقدة في هذه البلدان لزرع الخلافات العرقية وبث النعرات الطائفية وتأجيج النزاعات القديمة وإشاعة الفوضى ونشر الفساد وتخريب البنية الاجتماعية، كما جاء في الكتاب. ويخلص هذا المسؤول للقول أنه "ما كان لإسرائيل أن تحقق انتصاراتها في المنطقة لولا تضامن زعماء العرب معها". . وان دقة المعلومات التي نقلها العملاء هي التي مهدت الطريق للاستيلاء على شبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان، والضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.

أما التحولات التي بدأت قبل سنتين في المنطقة العربية وانهيار بعض الأنظمة، أو قمتها بالأحرى، فقد باتت مصدر قلق شديد للقوى المهيمنة على السياسات والموارد العربية، بحيث رأيناها في كل مكان تبحث عن سبل التدخل لتغيير مجراها. فكان منها التدخل العسكري كما في ليبيا، أو التآمر والدعم بالسلاح لأطراف داخلية من طرف وسطاء اقليميين وعرب، كما في المثل السوري. جرى الاعتماد على معارضات اعتقدت أنها بهذا الدعم ستتمكن من الخلاص من أنظمة الطغيان ومن تصفية حساباتها معها عبر من رأت فيه حليفها الظرفي. لكن لا يخفى على أحد خوف هؤلاء الحلفاء من الديمقراطية على امارات وممالك بترودولار ترتعش جزعاً من أي تغيير. علاوة على أن القوى الداخلية المضادة للحراك الشعبي عملت جاهدة لتطويق هذا الأخير والإبقاء على التوازنات القديمة أو إعادة صياغتها بأشكال جديدة. من ذلك تقديم بعض التنازلات الفرعية لإبقاء نفس السياسات، من خلال اثارة المصالح الشخصية والمطامع الفردية وتدوير المال المنهوب واللعب على العصبيات المختلفة وبث الفرقة بين القوى التي احتضنت الثورة لتكفير الشعوب بثوراتها.

الكل تابع كيف حرّكت دول حلف الناتو، وعلى رأسها فرنسا، مجلس الأمن للتصويت على قرار يبيح التدخل في ليبيا، بعد أن كان للانتفاضة الليبيّة منطلقات مشروعة على أساس طغيان القذافي المتواصل لشعبه منذ 1969. لكنها سرعان ما تحوّلت إلى أداة في يد القوى الغربيّة التي تحججت بالمسؤولية في حماية سكانها من قصف طائرات القذافي، لوضع رجلها في هذا البلد واقتسام نفطه وثرواته وتوزيع الحصص من المشاريع الاستثمارية في إعادة إعمار بنيته التحتية فيما بينها. واليوم ما زال من غير الممكن الجزم بأن الأمور تسير في الاتجاه الذي أمله شعب هذا البلد بعد التخلص من طاغيته والأثمان المرتفعة التي دفعها خلال أربعة عقود وإبان معركة الخلاص منه. بذلك تكون ليبيا قد خرجت من عهد الوصاية لتعود اليه بعد بضعة عقود من الاستقلال (هذا إن كان فعلاً تصنيف استقلال يجوز في هذه الحالة من حكم القذافي ومن التنازلات المجانية التي قدمها لواشنطن وباريس ولندن منذ 2004 والتي منها التنسيق الاستخباراتي بين ليبيا وأمريكا والاتفاقات الممنوحة لبريطانيا والولايات المتحدة بخصوص التنقيب عن النفط واهدار المليارات من أموال الليبيين على صفقات السلاح مع أوروبا وعلى غيرها لتثبيت حكمه). ثم إن الحرب على ليبيا لم تنته بعد، وقد تكون بداية لمخطط يهدف لتفتيت هذا البلد بالاعتماد على تعدد القبائل والإثنيات. ذلك على غرار ما حدث في العراق والسودان، وما قد يحدث في أوقات لاحقة في منطقة شمال أفريقيا ووسطها والتي تحوز على ثروات طائلة، منها المعادن الثمينة والغاز والنفط والأراضي الصالحة للزراعة والخزانات المائية الجوفية.

فاستهداف السودان لفصل جنوبه عن شماله قد أفضى ليس فقط لوضع اليد على ثرواته النفطية، وإنما أيضا للاستيلاء على مياه النيل. الأمر الذي يضمن، كما ذهب اليه بعض المحللين، محاصرة مصر تمهيداً لغزوها في وقت لاحق. مصر بعد الثورة تبقى مستهدفة بعدة مؤامرات رغم توقيع معاهدة "السلام" والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وكان قد أعلن عن إتفاقية تقاسم مياه النيل وبناء السدود على منابعه تبعت التحركات المكوكية لوزير خارجية اسرائيل لدول حوض النيل. فالقوى الطامعة بالهيمنة على مصر تعلم أهمّية "المفتاح المصري" لأبواب آسيا وإفريقيا العربيتين. لذا، سنركز عليه كمثال في مدار بحثنا.

لقد اتضح أن الدعم الأميركي الاسلاميين في مصر، بعد ما سمي بالربيع العربي، كان وراء صعودهم للحكم، ليس في مصر وحسب. وأن الاتصالات السرية بين الجانبين جرت منذ سنوات، في حين كان يشيع خلال عقود عن التخوف من وصولهم للسلطة. جرى التفاهم بين الطرفين على اساس التزامات أعلن عن بعضها، من مثل عدم المساس بالمعاهدة مع إسرائيل وتقديم التسهيلات للقوات الأميركية لدى عبورها قناة السويس والتوافق مع السياسة الأميركية في المنطقة ومتابعة العمل بالسياسات الاقتصادية السابقة. وكانت الواشنطن بوست قد كشفت عن مباحثات سرية عقدتها أمريكا مع الإخوان المسلمين حول تنظيم عملية التغيير الديمقراطي في شمال إفريقيا تحت قيادتهم ودعمها للعملية. كما أثير في الكونغرس موضوع تقديم ملايين الدولارات الأمريكية لدعم الإخوان في انتخابات مجلس الشعب الذي حلّ. وتبرز علامات استفهام كثيرة حول الضغوط الأميركية التي مورست لإيصال الرئيس مرسي للحكم، واستمرار المراهنة عليه رغم اختطاف دستور مصر من طرف الاسلاميين وانتهاكات الاستفتاء على الدستور واستقلال القضاء وحرية الصحافة، ورغم اغتصاب السلطة من خلال الإعلان الدستوري. يقول محمد سيف الدولة، الذي شغل لفترة قصيرة منصب مستشار الرئيس مرسي قبل أن يستقيل: التيارات الإسلامية والمدنية في مصر تتجنب الخوض فى ملف العلاقات المصرية الإسرائيلية بما فيها كامب ديفيد، وملف العلاقات المصرية الأمريكية، وملف اقتصاد السوق الحر. هذه الملفات، التى تصر الولايات المتحدة الأمريكية على عدم المساس بها والتي كانت الأعمدة الـثلاثة لحكم مبارك، يتحفظ على فتحها أي نظام حاكم يدير مصر ويخضع لنفس الضغوط الدولية.

لن تختلف هذه الأدوار إذن اليوم عنها في البارحة وإن تغير شخوصها. لكن لنا أن نتساءل أين هي القوى الإسلامية اليوم من فلسطين، ولماذا تُدفع المليشيات الدينية التابعة لأنظمة عربية للحروب الداخلية وتدمير بلدان عربية، فيما تتجاهل وجود الكيان الصهيوني واحتلاله لفلسطين؟ واين هي من شعاراتها بتطهير هذه الأخيرة من الكيان الصهيوني؟ بالتأكيد، كلكم سمعتم التحذير الذي وجهته بداية هذه السنة الإدارة الأمريكية للرئيس مرسي للتراجع علناً عن تصريحاته قبل سنتين المعادية للسامية. كذلك نقرأ قبل أيام عن زيارة لواشنطن من طرف وفد مصرى رسمي للتفاوض مع إسرائيل والولايات المتحدة على توسيع اتفاق الكويز وتقليل نسبة المكون الإسرائيلي فى صادراته المصرية لأمريكا. كانت الاتفاقية بنداً رئيسياً على جدول أعمال حكومة هشام قنديل الذي وعد بأن مصر ستفي بتعهدها بالاتفاق الذي يفتح باب السوق الأمريكية لمنتجات مصرية شريطة أن تحتوي على مكون إسرائيلى بنسبة ١٠.٥٪ والذي تريد مصر مرسي الآن تخفيضه ل٨٪ وليس الغاؤه. نذكّر بهذا الصدد بتقرير  نشر على موقع «إخوان أونلاين » فى ٩ ديسمبر ٢٠٠٤، تحت عنوان «نواب الإخوان: الكويز خطر على أمن مصر»، جاء فيه أن «الاتفاقية تمثل خطورة حقيقية على الأمن القومى لأنها أول اتفاقية اقتصادية وصناعية مع العدو الصهيوني». فاين نحن من ذلك الآن وما الذي تغير من مبررات الرفض إن لم تكن كراسي السلطة وبريقها؟ "وهكذا بينما تتصاعد أصوات حكومية وغير حكومية فى الغرب لمقاطعة سلع المستوطنات الإسرائيلية بسبب سياسات إسرائيل الاستيطانية الشرسة، يقول وائل جمال، تسقط حكومتنا التى عينها رئيس من الاخوان المسلمين فى جب توسيع التطبيع الاقتصادى والتجارى معها، دعما ودفاعا عن تصدير سراويل جينز ينتجها بالأساس ٥ رجال أعمال".

يشير الكاتب الأمريكي مايكل شارنوف (مؤسس ومدير مركز شارنوف للأبحاث السياسية) إلى أن مصر ستلعب دوراً كبيراً هذا العام لمساعدة اسرائيل وأمريكا على تنفيذ خطتهم القديمة والتي تقضي ب "وطن ثالث للفلسطينيين" في مصر والأردن، بدلاً من حل الدولتين "إسرائيلية وفلسطينية". ويقول أن مصر بدأت تحت حكم الإخوان المسلمين بمنح فلسطينيي قطاع غزة بعض الامتيازات لتنفيذ الخطة، مؤكداً أنه منذ تولي الرئيس محمد مرسي الحكم، مرحلة جديدة من العلاقات بين مصر وقطاع غزة قد بدأت. فيما تشير صحيفة أمريكية (هفنجتون بوست) إلى أن الخطة قد بدأت فعلاً بالتنفيذ تحت حكم الإخوان المسلمين، لتصبح مصر فيدرالية مع قطاع غزة وبمثابة وطن بديل للفلسطينيين. وكانت حركة حماس قد أعلنت أنه سيتم قريباً ربط غزة مع مصر بخط أنابيب للغاز الطبيعي وكذلك بشبكة كهرباء موحدة. كما يجري الحديث عن المزيد من الإجراءات، ومنها إقامة اتفاقية تجارة بين مصر وغزة.

يقول سعد الدين ابراهيم: إن العلاقات المصرية الأمريكية لن تتغير كثيراً عما كانت عليه أيام حكم مبارك، حيث هناك ثوابت ومصالح مشتركة لن تتغير تحت حكم الإخوان، والمنهج لن يتغير وإن تبدلت رؤوس الحكم فى مصر وفى أمريكا. وكان قد أشار لتدريب أمريكيين وأوروبيين لكوادر مصرية، بينها فصيل من الإخوان المسلمين، كانوا يُسألون عن موقفهم من معاهدة السلام وإسرائيل من بين اسئلة أخرى، ويقال لهم «بناء على إجابتكم سيتم تحديد مدى شرعيتكم وقبولنا لها". أجل، يكفي أن تحب إسرائيل وتبيع موجوداتك لتصير اسلاماً معتدلاً، بعد أن كان منبوذاً ومطارداً. تغيرت التسميات والأشخاص، لكن بقيت الأهداف والمخططات واحدة. فمصر ستضطر لرهن ممتلكاتها، بما فيها قناة السويس، تطبيقاً لسياسة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وسعياً للمساعدات العربية، التي لا تأتي إلا بموافقتهما.

3-دور المؤسسات الغربية الداعمة.. بعنوان نشر الديمقراطية

يقول د. محمد أشرف البيومي: "كتبنا العديد من المقالات حول المبيدات المسرطنة المستوردة لمصر والممنوع استخدامها في الخارج، وحول وسائل منع حمل ضارة بالصحة "الديبوبريفيرا"، واختبارات غير قانونية لأدوية جديدة علي مرضي مصريين، ومحاولات دفن مواد مشعة وفضلات صناعية خطيرة في الصحراء الغربية، حيث ممنوع دفنها في أوروبا، ومواد غذائية ملوثة إشعاعيا بعد حادث تشرنوبل.. واليوم نتحدث بموضوع استخدام العلم كأداة للهيمنة، مشروع زويل العلمي نموذجاً". كون أي مشروع تقدم علمي، لا بد وأن تنطبق عليه شروط التنمية الوطنية من : استقلالية، وعدم تبعية، وإخضاع المشروع لأولويات وطنية محلية. ويستشهد البيومي براس كارناهان Russ Carnahan، عضو لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الامريكي والعضو السابق في لجنة العلوم بالكونجرس، الذي كتب تحت عنوان "الدبلوماسية العلمية والكونجرس" ما مفاده أنه: "في عصر النزوع للشك تجاه السياسة الخارجية الامريكية فإن المجتمع المدني بما في ذلك العلماء والمهندسين يلعبون دورا حرجا في دعم أولويات السياسة الخارجية الامريكية من خلال المشاركة مع نظرائهم.. وأن هذه الاستراتيجية ستقوي مؤسسة العلم والتكنولوجيا الامريكية وتحسن الامن الاقتصادي والقومي وتدعم أهداف السياسة الخارجية الامريكية..."

من خلال المؤسسات العلمية إذن، مرسومة المنهج والدور أجنبياً، تجري عمليات استباقية وإجهاضية لأي مشروع وطني حقيقي. فالمؤسسات العلمية ليست منفصلة عن الاستراتيجيا السياسية والاقتصادية للقوى التي تعمل للتحكم بالموارد المادية والبشرية للدول التابعة، وعلى رأسها القدرات المعرفية وعدم تمكين دول العالم الثالث من نهضة حقيقية وتنمية مستقلة. نذكر جميعاً استهداف العلماء والأدمغة في العالم العربي وخصوصاً في عراق ما بعد 2003. وعليه، إن ساهمت قوى الهيمنة في أحد المجالات، فليس ذلك إلا لخدمة بعض مصالحها أو بما لا يتناقض معها. لقد أعتبر كيسنجر أن القدرات العلمية هي بمثابة أوراق في اللعبة السياسية. ويقول البيومي : منعت الدول الرأسمالية الكبرى أنواعاً من التكنولوجيا والمعرفة العلمية لأسباب تجارية احتكارية وأمنية وعسكرية، واستغلت دول العالم الثالث لتصدير تكنولوجيات غير متقدمة وملوثة للبيئة، وفرضت اولويات في مشاريعها لا تتناسق مع الاولويات الوطنية للدول المتعاونة.. فالإستراتيجية الأمريكية واضحة، وهي ضمان استمرار تفوق الكيان الصهيونى إقليمياً والعمل على إبقاء حالة الضعف والتخلف عربيا، خصوصاً فى مجالات العلم والتكنولوجيا.

وجه آخر من أوجه نشاطات المؤسسات الغربية الداعمة والتي تسوّق تحت يافطة نشر الديمقراطية، هي النشاطات الممولِة لبعض جمعيات المجتمع المدني المحلية والتي تقدم صورة لا تعكس فعلياً قدراتها الحقيقية وتواصلها مع المجتمع وترجمتها لمشاغل البشر واحتياجاتهم. لقد رضخت أولويات هذه الجمعيات لحاجات سوق التمويل بدلاً من الحاجات المجتمعية ولهموم الناس الأكثر إلحاحاً، وانصرفت لبناء مؤسسات ربحية ونخبوية باتت مصدر رزق وإفساد لعدد لا يستهان به من الطاقات. في حين جرت مقاطعة ومحاصرة الجمعيات الملتزمة بقضايا امتها والتي رفضت علاقة التبعية والترويج والتهريج لمشاريع لا تخدم الحاجات التنموية لشعوبها. الأمر الذي ترك آثاراً عميقة على جبهة النضال المدني وحيّد جزءاً منها لصالح مقاصد التغلغل المالي القادم من الشمال. لقد تحوّل مشروع الدفاع عن حقوق البشر والطموح لبناء مجتمع مدني عند مسترزقين لسلعة تباع وتشرى. وهذا الاختراق ترك آثاراً جمة على العمل الحقوقي، خاصة وأن الاستبداد السياسي والوضع المزري للمثقفين والنشطاء، وعدم  موآزرة المتمولين العرب للجمعيات الحقوقية العربية، اضطر الكثير منهم للتعامل مع هذه المؤسسات الأجنبية التي تحتكر سوق التمويل الغربي وتلعب دور العراب والمدافع عن برامجه. أما ما يسمى بمراكز بحثية، فجزء منها لا يعدو ان يكون وسيلة من وسائل تغلغل الأفكار التي تسهم في التغريب وتنميط الفكر. وهي وبالوقت نفسه عين على الأوضاع، تقدم باسم البحث والمعرفة نصائحاً لمن يريد أن يتزود منها وخصوصاً الفاعلين السياسيين الغربيين. لكن عملية الفرز بين الصالح والطالح ليست بمستعصية على من يريد أن يبحث ويحاكم، ولو أن الفكر النقدي الموضوعي ما زال أمنية يصبو إليه الفؤاد في مجتمعات تروج فيها ثقافة التلقين والطاعة.

من جانبنا، كمنظمات مجتمع مدني غير مرتهنة للغرب، علينا اعادة النظر في البرامج النضالية المطالبة ببناء المقاومة للدفاع عن الحريات والحقوق. معركة حقوق الانسان معركة مركزية، ومن يحولها للاتجار بها يوجه ضربة كبرى للمصداقية والانسجام بين القول والفعل ولصميم منظومة القيم. فهذه المنظمات ليست فحسب الوسيط بين المجتمع والدولة، وصمام الأمان تجاه العنف الداخلي، والرابط بين الشعوب والثقافات وآخر قلعة للدفاع عن مفهوم التضامن الأممي، وإنما أيضاً المتحدث الرسمي باسم أخلاقية عالمية ضربها النظام العالمي الحالي في مكوناته البنيوية. وحيث أن أي تحول نوعي يحتاج لتراكمات كمية، يغدو بناء ثقافة مدنية سلمية هو الحل لتجنب التطرف الذي يولد تطرفاً مضاداً ويجر لحلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل.

لقد كانت النهضة قبل ألف عام ابنة صراع دينامي بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية. لكن مع دخول التكفير طرفاً مركزياً في العلاقة بين الملل والنحل، أفَلت الحضارة وانتصر المذهب الواحد والحزب الواحد. وبالطريقة نفسها تموت اليوم مشاريع تنويرية في العالم العربي، عندما لا يتمكن المجتمع من استيعاب تيارات ديموقراطية علمانية تجاور الإصلاح الإسلامي، ضمن علاقة تكاملية وتنافسية ونقدية. أي ضمن الشكل الحديث للمبارزة، الذي هو التعددية الديموقراطية. كذلك عندما وُسمت بعض النظم التسلطية بالعلمانية، كان التيار غير الديني أول من دفع الثمن، كونها لم تحمل من العلمانية جوهرها ومرتكزاتها الديموقراطية، بل كانت مصلحية وتسلطية. أما التيارات الدينية فقد نجحت لحد ما في إدخال مصطلح العلمانية في الوعي الجمعي كنتاج غربي لنشر الالحاد وضرب الإسلام. لكن إن كان المنطلق في العلمانية اعتبار أي عمل سياسي عمل بشري بالضرورة، أي دنيوي وغير مقدس، فذلك بحد ذاته حماية للقيم السامية للدين.

وعليه نقول، هناك فضاء غير ديني وغير علماني، ألا وهو الفضاء المدني. فضاء يحتمل التعددية ويبحث عن قواسم مشتركة بين البشر ولا يخوض في الثنائيات. لكنه فضاء ما زال محدود المساحة في الوعي الشعبي رغم تبني العديد من الحركات الإسلامية السياسية له. بالتالي، فالدولة المدنية لم تأخذ مكانها بعد على حساب تراجع الفضاء الفكري والسياسي الطائفي. وهي، إذ ترفض أن تختزل إلى ثنائية الإيمان والإلحاد، تدعو لإعادة الاعتبار للثقافة النقدية. كما تتطلع إلى مجتمع بديل متحرر من تديين السياسة وتسييس الدين، حيث ما زال فصل الناس عن بعضهم على أساس الإيمان عقبة أمام خلق أية صيغة تشاركية بينهم. وفي حين أن الدوغمائية ليست حكراً على تيار فلسفي (سياسياً كان أو دينياً أو ثقافياً) دون غيره، فالإصابة بالتصلب الفكري سمحت بتفكيك أوصال الجسم المجتمعي والنفاذ اليه من داخله. وكما نعلم، فالعلاقة جدلية بين العنف الذي يبث سمومه في جسم المجتمع من فوق والأمراض المزمنة والآفات المعدية التي تستشري فيه من تحت. إن الحاجة لايجاد نوع من التوازن عند من يُستهدَف تدعو لردود فعل قد لا تكون موفقة. لذلك ما زلنا نتخبط في متاهات المذهبية والطائفية والولاءات الخارجية، وبين تجاذبات المصالح الشخصية والانقسامات الفئوية والتقلبات السياسية، دون أن نجد المخرج الأنجع للخلاص من هذا التردي المستنقعي والتخبط الوجودي. وربما أن البدء بالعمل على الذات هو الخطوة الأولى في أي عملية تغيير.

4-نتائج وتوصيات

-لحماية المتغيرات ولو القليلة على الساحة العربية من الإجهاض، لا بد من التحصين من التضليل وتزييف الوعي. والتزييف الإعلامي يبقى من أهم مظاهر هذا التضليل. (إن المنظومة الإعلامية العربية على تنوعها، وهي المرشحة للتكاثر، يكاد يدار قسم كبير منها من غرفة عمليات واحدة، أي تابعة لمراكز الهيمنة الدولية. لقد شهدنا كيف يجري تركيز قنوات اعلامية عربية على أحداث وبلدان بعينها في حين أنها تتغاضى لحد كبير عن بلدان أخرى وأحداث لا تقل أهمية. وكيف يتم استضافة ألوان إيديولوجية ومذهبية محددة وإبراز شخصيات لاتجاهات معينة والتعمية على غيرها وكأنها غير موجودة في الساحة الفكرية والنضالية. بما يطرح السؤال عن الموضوعية والتجرد والحيادية في نقل الخبر.)

-إدراك مدى خطورة انفراد دولة واحدة بعينها بتوجيه النظام الدولي، في حين أن العمل متعدد الأطراف هو الحل. بالتالي، باتت الحاجة ماسة للاهتمام بإصلاح مؤسسات الأمم المتحدة لصنع القرار الجماعي الدولي الذي يحظى بالتزام واحترام كافة الأطراف.

-التصدي بالوسائل العسكرية والأمنية وحدها لما يتهدد الأمن والسلم الدوليين حل غير ناجع ومكلف للغاية. في حين أن التعامل مع الظاهرة كعرض لمرض يتطلب معالجة أسبابها العميقة كالفقر والتلوث والأمية والأمراض المعدية العابرة للقارات وغيرها. كما أنه من وسائل العلاج السبل الديبلوماسية والأبواب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

-الضغط لفك الارتباط بين مشروع الهيمنة ومخططات مكافحة الإرهاب واجب الوجوب باعتباره مسؤولية جماعية. لقد أساء الربط بين الاثنين لكليهما، بينما لا أحد ينكر أن الإرهاب خطر حقيقي يتهدد البشرية بأسرها. إن إصرار واشنطن على فرض هيمنتها على العالم من باب «الحرب الكونية على الإرهاب» قد أسقط مشروعها أو أضعفها واستنزفها، في حين ازداد خطر الإرهاب وتوحشه.  

-من الضروري مواجهة جبهة الامبريالية ونهبها المنظم للثروات العربية بالاعتماد على تنمية اقتصادية وزراعية. كذلك مجابهة مشاريع التقسيم والتفتيت وارتهان الأنظمة المحلية للمصالح الأجنبية بالعمل لاستقلالية القرار وللوحدة العربية. أو على الأقل للسوق العربية المشتركة التي ترفع الحواجز الجمركية وتجمع ما بين الامكانات المالية والأراضي الزراعية والخبرات البشرية، من أجل تنمية مستدامة واستخدام النفط كوسيلة ضغط بدل أن تكون مدخلاً للابتزاز والاستنزاف.

-الاسراع بتحريك عجلة الاقتصاد واطلاق مشاريع الاعمار والتنمية وتشجع الابتكار والابداع وتطليق سياسات اللبرلة الاقتصادية التي أمعنت في تهميش وإفقار الأغلبية لحساب أقلية مجرمة. وذلك بالتوازي مع فتح آفاق التعاون الاقتصادي مع دول صاعدة إقليمية ودولية مقابل تخفيض الاعتماد على الولايات المتحدة، وايفاد البعثات الجامعية واسترداد الأدمغة والطاقات المهاجرة ودعم القوى الشبابية التي هي قلب الأمة النابض وأمل المستقبل.

-ترسيخ تقافة حقوق الإنسان بترجمة الاتفاقيات الدولية لنصوص ملزمة في الدساتير والقوانين، وارساء الآليات والمعايير الكفيلة باحترام الإنسان بوصفه مواطناً وفرداً حراً متميزاً عمن عداه وليس كجزء من جماعة ينظر لها كأكثرية أو أقلية دينية أو عرقية. كذلك وضع حد للاعقاب والتشديد على مبدأ المحاسبة وتمكين دولة القانون بدءاً باجراء محاكمات فعلية وعلنية لمن أوغلوا في دماء شعوبهم وسرقوا المال العام، كما الاستفادة من العلاقات والقوانين والاتفاقيات الدولية لاسترداد الأموال المنهوبة والمهرّبة للخارج.

-فصل الدين عن الدولة لتأسيس دولة مدنية ديمقراطية الشعب مصدر سلطتها، وتحييد السلطات الدينية التي تفرض قراءة متخلفة للدين السمح عن مراكز القرار والتأثير، خاصة تلك التي تعتمد على ثروات نفطية وتوظف إعلاماً موجهاً يخدم الرؤى الرجعية عبر شراء الذمم وتزييف الوعي.

-تغيير صورة المرأة في الوعي الجمعي للنهوض بالمجتمع، وذلك عبر تعديل المناهج التربوية واقامة المنتديات والدورات التدريبية والبرامج التلفزية وكل ما من شأنه تحويل المفاهيم لوعي ومن ثم لسلوكيات ديمقراطية، استناداً للحق في عدم التمييز ولكونها نصف المجتمع الذي يربي نصفه الآخر.

-تنظيم مخيمات وتكثيف الدورات التدريبية للشباب العربي لتعريفه بواقعه وشد أواصر ما يجمع، وتعزيز الشعور بالهوية العربية العابرة للحدود الضيقة. كذلك، تبادل الآراء والخبرات والتجارب واعتماد التشبيك والتآزر مع شبكات التضامن الدولية لتقوية جسور التواصل بين المجتمعات المدنية بهدف إعادة رسم العلاقات بين المنطقة العربية والمجتمع الدولي ومواجهة واقع التبعية والوصاية الحالي.

مداخلة لمؤتمر حركة التوافق الوطني الاسلامية حول عصر كرامة الشعوب في 4 فبراير/شباط 2013

 

C.A. DROITS HUMAINS

5 Rue Gambetta - 92240 Malakoff – France

Phone: (33-1) 40921588  * Fax: (33-1) 46541913

E. mail achr@noos.fr   www.achr.nu www.achr.eu

 

 

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي اللجنة العربية لحقوق الإنسان , إنما تعبر عن رأي أصحابها

الصفحة الرئيسة