حوادث العنف السياسي، التي تجلت آخر حلقاتها على الساحة التونسية في واقعة اغتيال المناضل الشهيد شكري بلعيد، بدت وكأنها فتحت باب جهنم على مصير مجهول لهذا البلد الذي كان فاتحة الثورات العربية قبل سنتين ونيف. والذي اعتقد الكثير من المراقبين والمحللين أنه يرقى لأن يكون نموذجاً في الانتقال السلمي للديمقراطية. وقع الصدمة أعاد لذاكرتي معاناة شعب بلدي لبنان لزمن مضى من استشراء موجة العنف وفوضى الانفلات الأمني وجريمة الاغتيال السياسي. ولبنان لم يتفرد بهذه الظاهرة، بل طالت بلداناً عربية أخرى ضمن مخطط قديم جديد لتفتيت المنطقة وتقسيم المقسم. تآمر الأجنبي استند في ذلك لعمالة قوى محلية لاوطنية ولضعف الأنظمة المركزية، كما لحالة من اللااستقرار خاصة مع عبور حقبة انتقالية سميت عن غير وجه حق بالربيع العربي، والتي لاقتها تطلعات مكونات عرقية تحينت فرصتها التاريخية للانفصال أو للإدارة الذاتية.
عندما راقبت انتخابات المجلس التأسيسي في تونس قبل أكثر من عام، عبّرت حينها (في مقابلة) عن خشيتي من أن تطال أصابع المؤامرة هذه الثورة الوليدة التي أطاحت بواحدة من أعتى الديكتاتوريات في عالمنا العربي. حيث رغم غياب العامل الطائفي وإمكانية استغلاله، هناك مسارب أخرى يمكن النفاذ منها لخلق شرخ في جسد المجتمع وضربه، والذي قد يكون العامل الإيديولوجي.
اليوم، أجد نفسي، كمراقبة لما يجري على الأرض عن كثب ومعنية بعملية الانتقال الديمقراطي، مدفوعة بدوري للتحذير من خطورة انفلات الأوضاع مع تصاعد الاحتقان الاجتماعي والانقسام السياسي وانكار الحق بالاختلاف. في جو من التحريض على القتل وممارسة العنف بأشكاله المختلفة ضد المثقفين والفنانين والصحافيين والنقابيين والحزبيين والنخب اللائكية، ومن حرق المصاحف وتدمير مقامات الأولياء الصالحين وغيره من ممارسات الالغاء والغلو لما سمي بلجان حماية الثورة، ودون أي تحقيق بشأن هذه السلوكات المرضية. والأنكى، أن هناك من يقتل القتيل ويمشي في جنازته، عندما يستهدف من موقع المسؤولية بكلام كاره ومشكك تيارات سياسية بعينها، ثم لا يتوانى عن القول بأن الفقيد كان صديقاً وعزيزاً.
سياسات التحشيد والتضليل والتشكيك بالآخر، علاوة على الإفقار والتهميش، فيها ما راكم لتهيئة الأرضية للعبث بالثوابت الأساسية، والتحفيز للقفز فوق القانون، وتهشيم صورة رموز الدولة ومكانتهم في الوعي الجمعي. أما رموز المجتمع المدني والسلطة المضادة، اولئك الذين يحمون توازن البنيان ويضفون الشرعية على ممارسة السلطة، فقد باتوا في مهب رياح تزمت النفوس وجنوحات التسلط والتفرد بالحكم. فانتفت القيمة كما الحماية لمن قدم عمره مساهماً بنهضة مجتمعه، وبان مكشوفاً لكل من أراد الانتقام من مواقفه. بالمقابل، قدمت هذه الحماية والكثير من المكرمات لبعض من لم يقدموا التضحيات أو راكموا النضالات أو كانوا يوماً طرفاً في أي شئ يجعلهم يستحقون التكريم أو قيادة البلد. لقد وجدوا أنفسهم فجأة في مواقع حساسة تفترض اتخاذ قرارات ترهن مصير شعب وبلد. كان ذلك دون تحضير وبناءا غالباً على ولاءات وليس بالضرورة كفاءات، وانطلاقاً أحياناً من وضعية الضحية ومشاعر الاضطهاد، بما يستدره ذلك من عطف ويبرر من تعويض.
من هؤلاء من انقض على الفرصة ليمارس الاقصاء ضد من خالفه الرأي، مستبعداً حملة الأفكار النيرة والخبرات المعرفية التي تكشف خواءه ونقائصه. فجوفوا المناصب وما تفترضه من مسؤوليات من معانيها ومما يمكن أن يسهم بتقدم البلد ونهضة شعبه. في حين يفترض بهذه المرحلة الانتقالية تحقيق أهداف الثورة لحكومة تحمل وزر تركة كبيرة من المشاكل التي خلفها حكم الفساد والاستبداد. وحيث أن مرحلة التأسيس لجمهورية ثانية تتطلب تطليق الكيد السياسي والتسامي على الصغائر، فالمسؤولية كل المسؤولية تقع بالأخص على عاتق من وجدوا في رأس الهرم السياسي وتركوا الحبل على غاربه ملتفتين لمصالحهم الضيقة، وهم الذين ما انفكوا ينادون بارساء القيم والمشتركات البشرية وضمان حقوق البشر وبناء دعائم متينة وثابتة لدولة القانون والمؤسسات.
ربما غاب عن ذهن الكثير من المرددين بامتلاك الشرعية في هذه اللحظة التاريخية أن العملية الانتخابية ليست سوى آلية من آليات الديمقراطية. فكيف بالحري عندما تزوّر الانتخابات ارادات من غيّب وعيهم بفعل انتفاء أرضية معرفية شغل مكانها مواقف عاطفية لا بل غرائزية ؟ ثم إن عدم السيطرة على حالة الفوضى والإنفلات والتشظي، و"شرعنة" الاغتيالات والإفتاء بها، لا يمكن إلا أن يكون وبالاً بنتائجه، ليس فقط على المجتمع بأسره، ومنه التيارات الإسلامية الوسطية المعتدلة والمعروفة برفضها الانغلاق على نفسها ونبذ الآخر، وإنما أيضاً لمن يشعل فتيل النار ويحبك المؤامرات من الخارج عندما ترتد عليه قوى التطرف وتصل أبوابه. عندما يخرج المارد من قمقمه، وهو الذي بات كجهاز أمني رديف، وينفذ لجسد المجتمع المصاب بالوهن ببث سمومه القاتلة بالتحريض على الآخر المختلف، مبرراً اقصاءه وتغييبه بتجريده من حقوقه وصفاته الإنسانية، يكون قد فات الأوان. والمثل المصري أمامنا وهو ليس للاقتداء، عندما خرجت فتاوى تحض على اغتيال المعارضين المصريين لحكومة مرسي، واستخدمت القوات الامنية وبتوجيه مباشر منه، أساليب قمعية قاسية ضد المتظاهرين راح ضحيتها شهداء وسقط العديد من الجرحى.
الدستور والانتخابات لن يخرجا البلاد من مأزقها طالما منطق الغنيمة والهيمنة على الدولة هو السائد، مثلما أن المحاصصة الحزبية والترضيات لن تقدم شيئاً لهذا الشعب. كما لن يؤمنه تبرير الفشل، وإهدار الفرص، وشحن الأجواء، وانشطار الأحزاب على بعضها، أو ترحيل أزماتها لما بعد الانتخابات، أو إجراء تحالفات انتخابية مصلحية أكثر منها لخدمة الصالح العام. وهذا لا يعني بتاتاً أن الساحة السياسية التونسية تفتقر لمخلصين لبلدهم، يصلون الليل بالنهار ويبدّون المصلحة الوطنية على كل ما عداه من أجل أن تنجح التجربة مهما كان الثمن.
لذا على هؤلاء القطع، أمام لحظة الحقيقة والاستحقاق، مع سياسة الاستئثار والانتقام والاجتثاث، ومع مفهوم الغنيمة ومنطق الأغلبية والأقلية. فصيانة الحريات والحقوق الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وارساء منعة الأوطان والنهوض الحضاري، تبدأ بسد الذرائع أمام التوترات والانقسامات الداخلية والتركيز على المصالح المشتركة والهوية الجامعة. تبدأ بقطع الطريق أمام التحريض والتدخلات الأجنبية التي تضع العصا بالدولاب من باب إدارة النزاعات وتقديم المساعدات. ومخطئ بالمقابل من يوظف الدم لتصفية حساباته مع من كانوا هم أيضاً في صف من حاربوا الدكتاتورية. فالمكابرة والمزايدة والمراهقة السياسية والسجالات العقيمة ستضع الثورة في مهب الصراع العبثي على السلطة، وستتبخر معها آمال وأحلام التونسيات والتونسيين في واقع من التحديات الداخلية والخارجية الكبرى.
نجاح الثورات ونهوض الأمم يفترض الالتحام بين شرائح الشعب المختلفة حول مشروع وطني، تلهمه قيادات متآلفة الرؤى ومتجردة من الحسابات الشخصية الضيقة. وذلك لعبور مرحلة الانتقال السلمي للديمفراطية، ودفع فاتورة التحرر من الاستبداد والاستعباد، والتصدي لأطماع الخارج ومؤامرات التعويق وحرف نهضة الشعوب عن مسارها.
من أجل إدارة جماعية للانقسام السياسي الحاد الذي تعيشه تونس ما بعد الثورة، ولوقف مسلسل العنف ووضع حد للتردي، لا بد من عقد اجتماعي يبحث عن خطاب منفتح وجامع ينشد التوافق والشفافية في إدارة الشأن العام. يضع ضوابط أمام المنزلقات الخطيرة ويرسم إستراتيجيات كفيلة ببناء منظومة سياسية جديدة تقطع مع الماضي وتحصن الجبهة الوطنية لبناء المستقبل المشترك بثقة بالشعب المتشبث بزخمه الثوري- مثلما أبان ذلك بشكل أدهش الجميع تأبين الفقيد بلعيد. يرسم خريطة طريق واضحة ومحددة المعالم للخروج من مناخ الأزمات الحاد. يؤسس لثقافة تغلّب المصلحة الوطنية والصفح والتسامح ونكران الذات والتسامي على الجراح والأحقاد. يرسي مفهوم المحاسبة ويضع لجان استماع ورصد وتحقيق لتشخيص الأوضاع والبحث في المسببات والحلول. يعيد تأهيل ما أمكن ممن خضعوا لصدمات نفسية وتعذيب وحط بالكرامة الإنسانية في حقبة تاريخية عصيبة من تاريخ تونس. وأخيراً وقبل كل شئ مواجهة الذات والبدء بالعمل على النفس بدل المغامرة والمقامرة بمصير البلاد والعباد.
في جذور العنف
هذه الورقة تحاول البحث عن جذور الظاهرة لعلها تقدم مساهمة في معالجة تجلياتها. نبدأ بتعريف بمفهوم العنف، فهو: كل ضغط لا يُحتمل يمُارس ضد الحرية الشخصية ومجمل أشكال التعبير عنها، بهدف إخضاع طرف لصالح طرف آخر، في إطار علاقة قوة غير متكافئة سياسياً أو إقتصادياً أو إجتماعياً او غيره، أكان هذا الإختلاف قائماً على الجنس او المنشأ او العرق او السن او ما عدا ذلك. إنه باختصار مساس بالشخصية الإنسانية، وبالتالي عائق لنموها وانعتاقها ولأنسنة الوجود البشري.
يولّد الإكراه والقمع، من أي طرف أتى، حالة عدوانية عند الآخر الضحية قد تتحول عنفاً لمن يستشعرها كعنف ممارس ضده. أما آليات التصعيد المختلفة التي يلجأ لها لتصريف العدوانية، فيمكن ان ترتد على الذات بحركة مازوشية، او على الغير بحركة سادية، كما وأن تصبح مرضية ومتواترة. بكل الأحوال، يستدعي العنف عملية "رد فعلية" لإعادة شئ من التوازن بحكم "مبدأ الثبات". وهذه لا تكون بالضرورة آنية وميكانيكية، كما يمكن لها أن تتخذ أشكالاً مستترة ومنحرفة تظهر أحياناً دون علاقة مباشرة وواضحة بالمنشأ.
كما نعلم، تفرض الأنماط التربوية والتقاليد وممارسات المؤسسات السلطوية نفسها عبر عملية التكييف أو التنميط المستمرة للأفراد. بما يجعل من الصعوبة بمكان مقاومة التقليد كلية لصالح التجديد، ولو أن الأجيال الجديدة تعيش ظروفاً مختلفة عما عاشه جيل الأهل الذي يجد صعوبة بالتعرف على نفسه من خلال أبنائه. لذا، تكون عملية الجمع بين الأضداد على حساب الحفاظ على وحدة الذات هي الشكل الأكثر بروزاً.
وإذا كان أصلاً مرمى المجتمع السياسي السعي وراء الخير الجماعي، ففي البلدان العربية -كما هو حال البلدان النامية - هو المولّد الأول للعنف. بحيث نشهد تآلف السلطات السياسية والبوليسية بالإعتماد على السيطرة الإقتصادية وعنف أساليب القمع ووسائط الضغط المادية والقانونية والإعلامية. هذه السلطات تفرض نظامها هي لا النظام الذي يريده المواطنون، للحؤول دون أي إعتراض فعّال والإبقاء طويلاً على نفوذها الذي لا تتخلى عنه تلقائياً. أما المبادرات التحتية غير الحكومية لمراقبة التجاوزات السلطوية والتنديد بها وبناء مجتمع مدني قائم على أسس سوية وعادلة وديمقراطية، فهي تخيف أصحاب الحكم بمن فيهم بعض من يطلقون على أنفسهم حماة الديمقراطية.
لقد كرّس العنف، في ظل ظروف التخلف الإقتصادي والإجتماعي والقهر السياسي، تهميش فئات واسعة لصالح الطرف الذي يملك موازين القوى. خاصة في ظل أنظمة إستبدادية ذات طبيعة تقليدية او زعامية أكثر منها عقلانية وديمقراطية. فالروابط داخل الأسرة بقيت محكومة ببقايا من علاقات العبودية التي نشأت تاريخياً في ظل سيادة النظام الأبوي. بالتالي، غدت العدوانية والفحولة والتسلطية والقوة البدنية وإستعباد الآخرين وحب الإمتلاك والتبجح بالمقتنيات والمظاهر وممارسة الدجل والزيف والتناقض بين المعلن والمبيت سماتاً بارزة تغرس جذورها في الثقافة السائدة والتراث الشعبي والدين والقوانين. ذلك، ضمن علاقة جدلية بين العنف السياسي والمجتمعي والأسري وإعادة إنتاجه وتوزيعه تبع موازين القوى. مما عمّق عند الفئات المستضعفة حالة الشعور بالدونية والإغتراب على جميع الأصعدة، وخلق أجواء محمومة من الكبت والعنف والعنف المضاد. كذلك بقيت التغييرات التي دخلت على الهيكلية الأبوية للأسرة العربية سطحية ولم تمس مضمونها وجوهرها. وهي إن أثرت على شكل الأسرة ودورها الإجتماعي والثقافي لم تغير كثيراً بنوعية العلاقات داخلها. ورغم وضع المرأة في القانون التونسي المختلف نسبياً عما عداه في البلدان العربية، فالرجل وجد الطريقة التي يخرج بها عملياً، وأحياناً بالتعنيف، من المعادلة رابحاً ومستعيداً ما حرمه منه القانون والتشريع.
من مخاطر التدجين على الطاعة والقبول بما يفرض من الأقوى، الإذعان لمن يحتل قمة الهرم السياسي والخنوع لممارساته المرَضية وغير العقلانية ضمن سلبية لا تليق بالكائن البشري. وحين تخضع الحاجات الإنسانية العميقة للكبت والتحويل، وتعلو لغة الكسب وتقديم المصالح الآنية والحاجة للإشتراك في لعبة الأنظمة من أجل الإستمرار، هناك ما يشلّ الإمكانيات الفردية عن القيام بعمل خلاق لإحداث تغييرات جدية وبناءة.
لكن نجد بالمقابل من يتمكن من التسامي على آلامه ويحول المعاناة لقوة ولحافز تقدم، وأحياناً ليس فقط لنفسه ومن حوله، وإنما للمجتمع أجمع. هؤلاء يوجهون نشاطهم للصالح العام بغيرية وتمسك بمبادئ عليا وقيم نبيلة، تتناغم مع الصورة الإيجابية عن الذات. ومنهم من يتحلى فوق ذلك بمواصفات القائد الملهم والمناضل الفذ المستعد لوهب حياته قرباناً لتقدم شعبه وأمته. فالمساس بكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية قد يؤجج فورات عنفية ترتفع وتيرتها بإزدياد المقاومة التي تلقاها، تقوم بها فئات ترفض العيش غريبة عن الواقع او الإستسلام له. ومن يرومون المشاركة في تنظيم الحياة الإجتماعية على أساس التعددية السياسية وممارسة الديمقراطية، مسهمين بضبط العنف وإنقاذ البشر من ضياعهم الوجودي وإطلاق فعاليات المجتمع وإمكاناته الحبيسة، غالباً ما يكون خيارهم العمل السري أو شبه الشرعي أو النفي القسري أو اختبار تجربة الزنازين، إن نجوا من التصفية الجسدية.
تظهر دراسات تناولت طفولة شخصيات معروفة في التاريخ، نشأت على كراهية وإهانة وقساوة أهلها لها - حيث أن أية فكرة جديدة أو مبادرة لم تكن إلا لتقمع ضمن تربية على الطاعة والنظام والإنضباط-، كيف أن المعاناة التي عاشتها في طفولتها لم تنتج سوى أشخاص مستبدين حاقدين على الغير. لقد إستغلوا فرصة وصولهم للسلطة لتدمير المجتمع والتضحية بألوف الأبرياء لتحقيق مآربهم بإسم الدفاع عن الوطن والنهوض به. لم يكن تبؤ هؤلاء سدة الحكم ليحل بالضرورة مشكلاتهم النفسية ومعاناة طفولتهم. بل على العكس من ذلك، كان الإستيلاء على السلطة العليا الفرصة التي سمحت لهم بمضاعفة أشكال التعبير عن هذه العقد عبر آليات الإكراه في تكرار الممارسات العدوانية (compulsion de répétition). تم ذلك بالإنتقام، ليس ممن كانوا المسبب المباشر لهذه الآلام، وإنما نزولاً لمنطق آليات النقل العاطفية (déplacement)، عبر عملية التحويل، من بدائل ليس لهم أية علاقة بآلامهم سوى أنهم قد يرمزون لموضوع التركيز العاطفي الأول (premier objet d’investissement)، وبذلك يصلحون أن يكونوا كبش محرقة.
وحيث أن الاختلاف مع نهج الحاكم هو مصدر قلق جلي أو كامن لبعضهم وتهديد لشرعيتهم، فهم يوهمون أنفسهم أن كل مختلف أو مستقل عنهم خصم لهم. وأن كل معارض فوضوي أو متطرف يبغي الخراب وإما خائن وعميل ومأجور للأجنبي. هم بحاجة لأوهامهم تلك حتى لو كانوا في أكثر الأحيان واعين ما يفعلون. وكما أن المصلحة العامة تفترض استبعاد الشك بالأب الأكبر "المثل الأعلى" والتجاسر على من يمثل الدستور والشرعية، فالتعدي على الحريات الأساسية وقمع الأفراد والجماعات يصبح مباحاً. خاصة مع غياب مؤسسات الدولة وتجمعات المجتمع المدني الكفيلة بحماية المواطن من عسف الحكام ومخابراتهم وأجهزة قمعهم وتجمعاتهم المصلحية.
تخلّف الشعوب هو نتاج التربية القائمة على تعطيل طاقات إبداع البشر وهدر كرامتهم الإنسانية، حيث منذ أن يفتح الطفل عينيه على الحياة تبدأ عملية التدجين التي تطفئ النور فيها وشعلة الحياة في النفس. وللإعتبارات الثقافية والتقاليد المتوارثة كما لإختلال العلاقات الزوجية، غالباً ما يتخلى الأب عن القيام بدوره التربوي - أو يغيّب رمزياً من قبل الزوجة في عملية رد فعل واعية او لا واعية على التسلطية الرجالية والإستلاب الذي تعاني منه ضمن دونيتها الإجتماعية -. مما يؤدي لخلل في العلاقة مع الأطفال ويعرّض صحتهم النفسية وعلاقاتهم ببعضهم وبذويهم للخطر.
حيث يؤثر الطفل إدانة نفسه من غير حق على إدانة أهله بحق، حرصاً منه على محبتهم له، يحاول أن يكبت مشاعره ومشاكله ليحميهم منها، وأن يكبح جماح نزعته الفطرية نحو الإستقلال الذاتي والإستكشاف وحب الإستطلاع. فيأخذ تشويه نموه النفسي أشكالاً عدة بحيث ينقلب بنظر نفسه من ضحية لمسؤول عن سلوكات أهله المرضية. قواه النفسية والعقلية لا تسمح له بعد بفهم مسببات ومبررات تصرفات الكبار. عندما يكبر، يستفيق الطفل الذي كان قابعاً في داخله عند كل إهتزاز أو تجربة يعيشها كصدمة، دون أن يفهم كنهها وسببها ودون القدرة على مواجهتها والتأقلم معها. هو لا يدرك ان ذلك صدى ما هو مكبوت ومنسي، لكن قابع في دائرة لاوعيه ويفسر لماذا يكرر غالباً ورغماً عنه الآليات السلوكية التي نشأ عليها.
عندما تأخذ التربية طابع الترويض وتسود القوة العلاقات الإجتماعية ويصبح العنف مبرراً من المجتمع ومؤسساته بإسم المحبة والغيرة على المصلحة، يختلط بذهن هذا الطفل الحب باللجوء للعنف. وويل له إن لم يجد من ينتصر له ويواسيه في أحزانه ويفهم معاناته لينقذه من توجيه قوى التدمير ضد نفسه والآخرين. كائن كهذا لا يمكنه أن يتعرف على السعادة والإكتفاء الذاتي. فالأنا العليا لديه تكونت تحت ضغط المحرّمات والممنوعات والشعور بالذنب ومفاهيم الخطيئة والحرام. مما حوّل طاقاته للخلق والإبداع الى سلوكات سلبية وجعل نظرته للوجود يكتنفها التشاؤم والحذر والحقد، وما أدخله بالتالي في دوامة العنف والعنف المضاد. وبإنعدام دقة التمييز والروح النقدية يصبح كل شئ ونقيضه ممكن. ولا عجب أن تجتمع الأضداد في سلوك يوهم بأنه متجانس لكسب الأشياء بالرياء والنفاق الإجتماعي حيث يتفادى المرء المواجهة مع الحقيقة لأنها مؤلمة ولأنه غير قادر على إجتياز هذا الإمتحان العسير.
وعندما تكون العلاقات السلطوية لصالح هذا النوع من البشر لا بد وأن تكون مدمرة للآخرين، لأنه سيطارد ما يعتبره خطأ وما لا يتماشى مع رأيه. فهو يخشى المعرفة ويتوجس من كل ما ومن يمكن أن يكشف له جوانب في شخصيته ومن طفولته قد تؤلمه وتحرمه من أوهامه وشعوره بالطمأنينة. علم النفس التحليلي أوضح بما فيه الكفاية ان ممارسة السلطة- أية سلطة كانت- قد تؤدي، خاصة عند انتزاعها، لإستعمالها كوسيلة للتصريف عبر تدمير او إستعمال وإستعباد الآخرين والهرب للأمام. بينما يبقى الحل في محاولة فهم المسببات واكتشاف منابع الآلام التي تقبع في خبايا اللاوعي وتجارب سنوات الطفولة الأولى. لكن مَن مِن الذين تسلموا مقاليد الحكم في ظروف كهذه واجهوا أنفسهم بحقيقتهم وبحثوا عن الطريقة الكفيلة بانقاذهم. وبالتالي انقاذ مجتمعاتهم من أمراضهم وانحرافاتهم وسلوكياتهم المرضية، خاصة عندما يبرر لهم المجتمع ذلك، وتكون هذه الممارسات جماعية الطابع ومألوفة؟
أما المدرسة والمؤسسات التربوية، التي لا تشجع غالباً على الإكتشاف وتنمية الطاقات الإبداعية وتطوير القدرات الذاتية بما فيه الكفاية، فهي تأتي بعد الأهل لتعيد إنتاج نفس نمط الأساليب التربوية القائمة على التطويع والتغييب والعنف. فيعوّد الطفل منذ الصغر على التلقين والقبول بما يقدمه المدرّس دون تغليب حس نقدي والتعود على طرح الأسئلة بما فيه الكفاية. فبهذا ما يحدّ من قدراته العقلية بدل أن ينميها ويجعله أسير أسلوب غير ديمقراطي في التعليم. والإنسان الذي تعود على الطاعة وعدم إستعمال النقد وفقد قوة الملاحظة لا يمكنه أن يبصر الأشياء بشكل سليم. وحتى إن أبصر شيئاً ما جيداً، فلا بد أن يشك بقدرته على التمييز كون ذلك غير مألوف لديه.
بذلك، يمكن أن نفهم كيف يوّلد المجتمع ومؤسساته العنف ويعيد إنتاجه ويشرّع له ويبرر سادية "الراشدين" وشذوذهم المسلكي . فتتقونن تفاصيل الحياة ويصبح كل فرد رقيب وحسيب للآخر ولا يفلت من رقابته وعدوانيته، كما وتخضع حرية الفكر والجسد والجنس والتعامل مع الجنس الآخر لضوابط صارمة. فتكثر بالتالي آليات الدفاع المرضية ويشتدّ تطويع الأنا غير العادي تحت رقابة الأنا العليا التي تأخذ على عاتقها مهمة الضبط والرقابة.
إن السلوكيات النابعة من ذهنية باثولوجية (من نوع الفصامية أو بشكل أعم الذهانية)- بمعنى أن رؤية الشيء أو الآخر لا تخضع لمعطيات الواقع وإنما لآليات لا واعية في غالبها- والتي تقضي بالفصل ما بين وجهي الخير والشر، تعزي العنصر الإيجابي للنفس مقابل إسقاط ما في هذه النفس من نوازع سلبية وغير مقبولة على الآخر المختلف والذي لا ينتمي للجماعة. أكثر من ذلك، تذهب هذه الآليات الدفاعية لحد تجريد الآخر من صفاته الإنسانية وإضفاء قيمة إيجابية إلى الأنا ولكل من ترتبط به ممن يشكل جزءا من النحن. فبذلك يتاح الانتماء لهوية جماعية مطمئنة، وتلبية الرغبة اللاواعية بالاتحاد مع من يشكل مصدر قوة وأمان مهمته دفع القلق عن النفس. وكلما ازدادت المسافة بين النحن والآخر، كلما اطمأنت الأنا وخفّ قلقها، خاصة عندما يشكل هذا الآخر بما يمتلكه من صفات وميزات تهديدا للأنا. إن اللجوء غير العادي لمثل هذه الآليات الدفاعية الموجودة اعتيادياً عند البشر يصبح مرضياً، خاصة عندما يعفي النفس من الشعور بالذنب إزاء ما ترتكبه من آثام بحق هذا الآخر الذي يحمّل المسؤولية فيما يتعرض له من سلوكات مهينة له.
إنه لشئ إيجابي وبنّاء أن يتمتع الإنسان بجانب روحي في شخصيته. وإذا كان الإيمان بالله يعني ترسيخ مبادئ العفو والتسامح ومحبة الآخر والتسامي الوجداني، فهو لا يسمح باستعمال الدين واجتزائه بما يشرّع إطلاق المكبوتات الغريزية العدوانية الموجهة للآخر الذي يعزى له نوايا عدوانية بقصد تحطيمه. وهذا لا يحصل لحسن الحظ إلا عند الشخصية السيكوباتية التي تتميز بنوع من الإدراك لا يشعرها بالمسؤولية إزاء ما تقترفه من آثام وجرائم.
لكن النزعة الانحرافية تتواجد أيضاً عند صنفين آخرين يتراوحان بين العصابية والذهانية مروراً بما بينهما، أي ما يسمى بالحدّية. سلوكيات هذه الأنواع من البشر كان بالإمكان تجنب نتائجها لو لجأت الشعوب لآليات تضمن حمايتها منها، وقبل كل شئ التعرف عليها. أو على اولئك الذين يملكون زمام أمورها عندما لا تؤهلهم طاقاتهم لذلك. في حين أنه عندما يتعلق الأمر باختيار موظف في مؤسسة ما، تعمد هذه الأخيرة من البداية للكشف عن جوانب من شخصيته تدلل على مطابقتها للعمل المطلوب. لكن ما زال للأسف علم النفس التحليلي والاجتماعي حبيس صالات الكليات ولم ينزل بعد للشارع للاستنارة بمعارفه في فهم الظواهر واصلاح الواقع.
- نشر في صحيفة الشروق التونسية في 25/02/2013
|